وليد أحمد فتيحي
في عام 1960م نادى السير روبرت هودسم Sir Rupert Vaushn Hudsm بتخصيص غرفة مفردة لكل مريض، وذلك للحد من انتشار الإلتهاب والأمراض ومن منطلق المساواة والعدالة بين الغني والفقير.
وفي عام 1976م شبه السيد إيفان بوراش Evan JR Burroash بين الإنسان المريض والحيوان المريض في مقالة له بعنوان Scandalous» Impromptu» تساءل فيها هل يعقل أن يعزل الحصان المريض عن باقي الأحصنة في إصطبل منفرد،
وإذا مرضت الشاة أن توضع وحدها في المطبخ، وإذا مرض الكلب أن يوضع داخل البيت، أما إذا مرض الإنسان فإننا نضعه في غرفة مغلقة مليئة بمرضى آخرين؟ ونطالبهم أن يؤقلموا أنفسهم على هذا المناخ الذي قد يكون جديدا عليهم، وأن يتحملوا ضغوطا عصبية ونفسية وأمورا سلبية أخرى كثيرة، تتعارض مع مفهوم العلاج كما نعرفه اليوم.
ووجدت في كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب» قبل هذا بمئات السنين، رسائل كثيرة كلها تشير إلى مستوى الرعاية الطبية في المستشفيات الإسلامية في قرطبة خاصة حيث كان مبدأ العزل واحترام خصوصية المريض من أولويات الأخذ بأسباب العلاج.
وفي عام 1997م، وأثناء تصميم مستشفى المركز الطبي الدولي واجهني المصممون المعماريون آنذاك بسؤال محدد سيؤثر على استراتيجية المستشفى المزمع تصميمها وبناؤها، كان السؤال عن عدد الأسرة في كل غرفة؟
وكانت إجابتي آنذاك ــ وما زالت ــ تلقائية وفطرية: «بالطبع سرير واحد فقط في كل غرفة» ... وكما يعلم القارئ الكريم فإن كثيرا من المستشفيات حتى يومنا هذا فيها غرف بسريرين إن لم يكن أكثر.
ولما كانت عام 1997م الأغلبية العظمى من المستشفيات في العالم بها سريران أو أكثر في الغرفة الواحدة، من ثم لم ترق إجابتي للشركة الأمريكية المساعدة في التصميم، إذ المتعارف عليه آنذاك كان غير ما أطلب.
ومن فضل الله علي أن كان المصمم الرئيس آنذاك هو الدكتور سامي عنقاوي، وكان يساندني في الإصرار على تصميم غرفة بسرير واحد فقط لكل مريض، من منطلق تطبيق مفهوم الشفاء بالتصميم والذي سأشرحه لاحقاً،
وأوضحت آنذاك وجهة نظري للشركة الأمريكية بقولي لهم إنني أجتهد قدر استطاعتي في أن أمتثل هدي رسول الله ونهجه في قوله: «والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وهذا النهج يستوجب على المؤمن أن يضع نفسه دائما في المكان الذي يريد أن يضع فيه أخاه وينظر، هل يحب أن يكون هو فيه أو لا؟
فإن وضع أخاه في موضع مع كرهه له كان ذلك دليل نقص في إيمانه .. وإنني لأعجب كيف يحب أحد أن يشاركه مريض آخر غرفته وهو في مرضه .. والمنطق الفطري السليم يرفض ذلك، بل ومنطق المفهوم الشامل للعلاج والشفاء لابد أن يرفضه كذلك.
وأكملت شرحي آنذاك لوجهة نظري: إذا أصيب أحد مرضى الغرفة الواحدة بالتهاب ألسنا نعرض المريض الآخر بانتقال العدوى إليه .. وفي حالة تدهور حال أحد المريضين وتحسن حالة الآخر ألا يؤثر ذلك سلباً على الآخر؟..
وفي حالة معاناة أحد المريضين طوال الليل يأن من الألم أو الغثيان أو التقيؤ أو الإصابة بأعراض أخرى لماذا نعرض أحدهما للإحراج والآخر للمعاناة طوال الليل فيسلبه الراحة والنوم مما ينهكه ويضعف قدرته على مقاومة مرضه .. وأين هي خصوصية كل مريض؟.. وغيره كثير.
وأصررنا على موقفنا من تخصيص غرفة لكل مريض، وكان لنا ما أردنا، بالرغم من تحذير الشركة الأمريكية آنذاك أننا سنندم على قرارنا ولكن الأيام أثبتت عكس ذلك، فمرت السنون وانتهى التصميم وعدت للوطن الغالي
وتم اختيار الشركاء وتكوين شركة المركز الطبي الدولي ووضع حجر الأساس في عام 2003م، وجاءت نهاية العام 2006م وهو عام الافتتاح الرسمي للمستشفى، وإذا بكثير من الدول الغربية تبدأ في نفس العام تقريبا بوضع معايير جديدة لتصميم المستشفيات وبنائها، وعلى قائمة المعايير الجديدة ضرورة تخصيص غرفة مفردة بسرير واحد لكل مريض.
وبنظرة سريعة إلى المعايير الجديدة لعام 2006م ولعام 2010م (FGI)، والتي أتت نتيجة دراسات تراكمية على مدى عقد من الزمن، نجد فيها بندا واضحا جدا وهو ألا يتعدى عدد الأسرة للغرفة الواحدة سريرا واحدا فقط، وفي حالة تعذر تحقيق ذلك فعلى المستشفى أن تحصل على ترخيص استثنائي من الجهة المخولة بتقديم الرخص.
وهناك الآن دراسات عديدة تؤكد أن تصميم المستشفيات على أساس سرير واحد لكل غرفة من شأنه أن يساهم في زيادة تحقيق سلامة أعلى ومناخ أفضل للمريض وعائلته ومقدمي الرعاية الصحية، ويقلل من نسبة إصابات المرضى بانتقال العدوى أو بأخطاء طبية مثل إعطاء الدواء الخطأ للمريض المشارك في الغرفة،
كما أنها تساعد المريض في الحصول على فترة نوم أطول وقسط أعلى من الراحة، مما يعين على سرعة الشفاء، كما أنها تقلل من نسبة الإحراج الذي يتعرض له المريض من تواجد مريض آخر معه في الغرفة والضغط النفسي والعصبي الملازم لذلك.
وفي دراسة تمت فيها مراجعة أكثر من 600 مقالة، وجد الدارسون أن هناك علاقة وطيدة بين البيئة والمحيط الذي يتواجد فيه المريض وبين سرعة العلاج والشفاء والنقاهة (جودة أعلى ومضاعفات أقل) بل وزيادة إنتاجية مقدمي الرعاية الصحية.
وهذا ينطبق على مستوى القطاع العام الصحي كما هو الحال في القطاع الخاص، فالدراسات كلها تؤكد أن غرفة مفردة بسرير واحد لكل مريض ستؤدي إلى خفض تكلفة العلاج نظراً إلى عوامل عديدة منها ما ذكرناه أعلاه، ونضيف إليه خفض تكلفة نقل المريض من غرفة إلى غرفة أخرى وزيادة إشغال الأسرة وانخفاض تكلفة العمالة،
بل وجد أن تكلفة العلاج تكون أكثر فعالية إذا توفرت في تصميم غرفة المريض عناصر تساهم وتسارع في شفائه مثل إضاءة طبيعية ومنظر جميل وتصميم داخلي بألوان مريحة (تطبيق مفهوم الشفاء بالتصميم)، كما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والفعالية المقدمة في الخدمة (التمريض خاصة)، فيقلل بذلك من الاحتياج إلى عدد من كوادر التمريض.
ولذلك أصبح الاتجاه السائد في أمريكا هو سرير واحد فقط في كل غرفة، وصار مطلبا من مطالب الجودة في بريطانيا وأستراليا ودول أوروبية كثيرة ستصبح قريبا خالية من غرف للمرضى بها أكثر من سرير واحد، وقد نشرت مجلة الجمعية الطبية الأمريكية Journal of the American Medical Association في عددها رقم 300 في تاريخ 27 أغسطس 2008م نتيجة مراجعة وتحقيق 16 دراسة تقارن بين تصميم الغرف المفردة بسرير واحد والغرف التي بها أكثر من سرير فوجد الباحثون مزايا الغرفة المفردة فوق ما قلناه ما يلي: انخفاض نسبة الالتهابات سواء المنتقلة عبر الهواء أو باللمس، سهولة تنظيف وتعقيم غرفة المريض،
التزام أكبر لمقدمي الرعاية الصحية بتعقيم أيديهم من غرفة الى أخرى مقارنة بسرير إلى سرير آخر في الغرفة نفسها، سهولة حركة المريض، زيادة راحة المريض وزيادة رضاه وخصوصيته.
أحسب أنني قدمت الأدلة الكافية على ضرورة تخصيص غرفة مفردة لكل مريض، وأنها مطلب وحق لكل مريض، وأنها جزء لا يتجزأ من العلاج والصحة والسلامة والجودة.
واليوم وبعد أعوام من الدراسات والإحصاءات التي تبين ضرورة ما ندعو إليه ما زال كثير من المستشفيات في عالمنا العربي يضع مريضين أو أكثر في غرفة واحدة ضاربين بذلك كله عرض الحائط،
وأنا واثق بأن الجميع عاجلا أو آجلا لن يترك له الخيار، وستصبح هذه النقطة من أهم مطالب الجودة والوقاية، فهلا بادرنا إلى إحداث ذلك التغيير في بلادنا الغالية لما في ذلك من مصلحة للمريض ودفاع عن حقه، وهذا واجب كل طبيب يدرك عظم المسؤولية المنوطة إليه.
وإنني أدرك تماما أن التغيير أمر صعب، ولذلك فإنه يستوجب تضافر الجهود من مؤسسات صحية رائدة لها ثقلها وأضرب لذلك مثال التأثير الفعال الذي حققته كل من أرامكو وبرنامج الجودة الشاملة في منطقة مكة المكرمة في رفع مستوى جودة الرعاية الصحية في المملكة، عندما كافأت كل من نجح في الحصول على شهادة الجودة في الصحة من الهيئة الدولية المشتركة للجودة «JCI»،
مما ساهم في دعم الجهود القائمة في المنطقة لرفع مستوى الجودة، وقد علمت أن التوجه في وزارة الصحة كذلك هو ترخيص المستشفيات الجديدة على أساس سرير واحد للغرفة ويعتبر هذا سبقاً في المنطقة، كما أحب أن أشيد بجهود أرامكو في رفع مستوى الرعاية الصحية كذلك بوضع قائمة أسعار جديدة لتكاليف رعايا أرامكو،
بنسبة زيادة لكل مستشفى حاصلة على شهادة الجودة، وما زلت أتساءل لماذا تأخرت أرامكو في دعم فكرة غرفة مفردة لكل مريض وقد عودتنا دائما أن تكون الرائدة، فلماذا تقبل في عقودها مع المستشفيات أن يوضع مريضان في غرفة واحدة،
وإننا جميعاً نعلم حرصها على اتباع وتطبيق ودعم أعلى معايير الجودة في كل ميادين الحياة، خاصة في أغلى شيء وهو الإنسان وصحته وسلامته .. وقد يكون في قبول أرامكو لهذا الوضع سهواً مكافأة ضمنية لمن يضع مريضين في غرفة واحدة، ومعاقبة لمن خصص غرفة مفردة لأي وكل مريض؟
نعم من السهل على المستشفى أن تضع مريضين في غرفة واحدة إذا كان الهدف ماديا بحتا، ولكنني أقول دائماً إن للمبادئ ثمنا وإن تغيير المجتمعات ليحتاج إلى تضحيات ويتطلب من الدعاة إليه الثبات والصبر على ما يرون أنه الصواب والحق،
وأنا من هنا أناشد أرامكو أن تكون كما عودتنا مساهمة في رفع مستوى الرعاية الصحية واتباع أفضل المعايير، ووضع النموذج والقدوة لكي تحتذي بها المؤسسات الصحية الأخرى، وأن تطالب بغرفة منفصلة مفردة لكل مريض أيا كان.
كما أنني أناشد وزارة الصحة وجميع القائمين على تقديم الخدمات الصحية في القطاعين الحكومي والخاص أن يساعدوا في تطبيق ذلك، فالمسألة لم تعد من الكماليات أو الخدمات الفندقية الزائدة، وإنما أصبحت ضرورة صحية لتوفير السلامة للمريض وجزءا لا يتجزأ من العلاج وحقا لكل مريض.
*نقلاً عن "عكاظ" السعودية