ثورة النجف عام 1918م والذاكرة العراقية
د. نجاح هادي كبة
لمنطقة النجف تاريخ عريق- كأكثر المدن العراقية- منه بعيد يمتد في أغوار التاريخ، وبعضه قريب، ويذكر ان القائد خالد بن الوليد قد مر بالقرب منها اثناء الفتوحات الإسلامية، وهي قريبة من الحيرة عاصمة المناذرة العرب اللخميين، وقريبة من الكوفة موئل الحضارة العربية الإسلامية، التي اتخذها الامام علي (ع) عاصمة للمسلمين بعد المدينة،
وفي العصر العباسي استوطنها الشيخ ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي البغدادي (385هـ- 460هـ) اذ نزل فيها عام 448هـ من بغداد، واستقل في عصره بالزعامة الدينية، وتقلد الطائفة الإمامية الإسلامية، وله تصانيف كثيرة، ومن هذا التاريخ والنجف تميزت بالعلوم الإسلامية واللغة العربية لاسيما في ميدان الأدب والشعر بخاصة، اذ فيها تخرج عدد كبير من الشعراء والأدباء بخاصة، منهم الجواهري شاعر العرب الأكبر، وللنجف- كانت ولا زالت - هوية عربية, إسلامية، اذ استوعبت المسلمين والعرب من شتى الاقطار، وزودتهم بالثقافة الإسلامية والتاريخية والفلسفية بوساطة حوزتها الدينية ومكتباتها العامرة كما استوعبت ابناء المدن العراقية للدراسة فيها والعمل.
ويتفق المؤرخون على ان للنجف دورا سياسيا في العهدين التركي والانكليزي فقد حاربت الاتراك كما حاربت الانكليز عام 1918 وعام 1920م وتختزن الذاكرة العراقية الكثير عن ثورة النجف ضد الاحتلال الانكليزي عام 1918م وكان المخطط لهذه الثورة (القيادة) رجال دين، تحت تنظيم جمعية النهضة الإسلامية، اما المنفذ أو الجناح العسكري او الدموي -كما سُمَي وقتئذ- فهم فرسان ابطال، لا يتجاوز عددهم اثناء مهاجمتهم دار الحكومة البريطانية بالنجف أكثر من (13) بطلا، دفعتهم غيرتهم العربية وحميتهم الإسلامية للقيام بهذا الهجوم وعلى اثر ذلك قتل مارشال – القائد الانكليزي- وآخرون، عندئذ هاج الانكليز ودفعوا أكثر من (45) الفا من الجنود لمهاجمة النجف عن طريق جبهة الكوفة، وحوصرت النجف (40 يوما)، وكان حصارا بشعا كما وصفه المؤرخون، اضطر النجفيون إلى اكل لحوم الحمير ووقع عدد من الفقراء صرعى الجوع وماتت الحيوانات كالحمام والقطط والحمير، وكان لحم الحمير يباع بالأسواق علنا وارتفعت اسعار المواد الغذائية وشرب الناس مياه الابار المالحة خلافا لحقوق الإنسان، واختفى الناس والثوار في السراديب النجفية المعروفة، وكان للعملة وجه اخر، اذ القي القبض على الثوار، واعدم (13) منهم وسجن (9) اخرين ونفي إلى الهند (123) منهم لاتهامهم بالعلاقة بالثورة(5).
منهاج جمعية النهضة الإسلامية:
صاغت الجمعية لها منهاجا مؤلفا من احدى وعشرين مادة، وجاء في مقدمته: لما تفاقمت الخطوب، وتكاثرت الحوادث المحزنة في اغلب اقطار العالم، وتفرقت الامم، واختلفت اراء الشعوب، وانقسمت جملة من الدول العظمى اقساما، بل وتمزقت شر ممزق، كل ذلك من ويلات الحرب العامة الطاحنة وطال امد الفوضى والثورات الداخلية في أكثر العوامل، كما كان قبل الحرب، تأثر الامم والشعوب من قرارات مؤتمر الصلح الجائزة، المخالفة لروح العدل والمساواة في الحقوق، وانتشرت الدسائس الاجنبية، وكثر الخداع والمكر السيء بالمسلمين(7). (فكان لابد من) السعي لاعلاء كلمة الإسلام وسعادته وترقيته، ومراعاة القانون الاعظم في ذلك الا وهو الشرع الشريف المحمدي والعمل به طبقا لقوله تعالى: وما جعل الله الكافرين على المسلمين من سبيل، ونبذ التقاليد الافرنجية الذميمة ورفضها مع مباراة الامم المتمدنة ومجاراتها في المزايا الجميلة ودرس الأحوال السياسية والعمل بما ينتفع به المسلمون، ويعلو به الإسلام.(7) واكدت الماده الثانية ضروره العمل من اجل تحكيم المفاهيم الاسلامية تحت رابطة( الجامعة الاسلامية ) في حين تبنت الجمعية في الماده الثالثة تاييد الاستقلال المطلق للحكومات الاسلامية بوجة عام والعراق بوجة خاص , ونظمت المواد 11 و 12 و 13 النظم الادارية والحزبية في الهيئات الفرعية , وباشرت منذ البداية بطبع وتوزيع النشرات التي تندد بالاحتلال وسياساته واصدرت نشر دورية كانت توزعها في الاوساط الجماهيرية وتلصقها على الجدران وابواب الصحن الحيدري
الشريف (9)
زعماء جمعية النهضة الإسلامية:
وهم الذين صدر حكم الإعدام عليهم وأبدل بالنفي خارج العراق خوفا من اندلاع اعمال عنف، منهم:
1. العلامة محمد علي بحر العلوم: وهو رئيس جمعية النهضة الإسلامية وكاد ينفى إلى الهند، لولا تدخل خزعل الكعبي الذي انتهى بابقائه في الاحواز.
2.العلامة الشاعر محمد جواد الجزائري: وهو نائب الرئيس و اول عالم ديني صدر عليه حكم الاعدام عام 1918م من قبل محكمة عسكرية بريطانية، عقدت في سجن ام العظام في بغداد، وقد ابدل الحكم بإبقائه في الاحواز مع العلامة محمد علي بحر العلوم، بتداخل من الشيخ خزعل ايضا(5).
يقول حسن العلوي: ومن المؤسف ان هذا الشيخ المجاهد، لم يسلط عليه أي ضوء، ولم يدخل تاريخ العراق السياسي، ولا في حركة التحرر الوطني العراقية(6) واضيف كقارىء- ان الناقد العراقي لم يسلط الاضواء على شعره، لا سيما السياسي منه، فقد كان سجلا لتاريخ العراق السياسي في العهد الملكي (1921- 1958) وله ديوان مطبوع وكتب اخرى منها حل الطلاسم ونقد الاقتراحات المصرية في تيسير العلوم العربية وغيرها.
يقول: قلت في زمن احتلال الانكليز للعراق، وقد كنت في قيد اسرهم، معتقلا في سجونهم ببغداد على اثر الحرب النجفية الانكليزية في شهر رجب من سنة 1336هـ:
مددنا بصائرنا لا العيونا
عشقنا المنون وهمنا بها
وقمنا بها عزمات مضات
رعينا بها سنة الهاشمي
وصنّا كرامة شعب العراق
وجحفل اعدائنا الانكليز
يهاجم شعب بني يعرب
وسرب المناطيد ملأ الفضاء
وفزنا غداة عشقنا المنونا
وعفنا اباطحنا والحجونا
ابت ان نسيس الردى او نلينا
نبي الهدى والكتاب المبينا
وكنا لعلياه حصنا مصونا
يملأ سهل الفلا والحزونا
ليشفي احقاده والضغونا
يصب القنابل غيثا هتونا
إلى ان يقول:
ولم نلو للدهر جيد الذليل
وان يكن الدهر حربا زبونا"1"
وكان (كاتم السر ) محمد علي الدمشقي اما سكرتير عام الجمعية فكان عباس اسد الخليلي ومن اعضائها سعد صالح وكريم الحاج راضي والاخَوَان احمد ومحسن.(9)
وكان دور سعد صالح فكريا وسياسيا قبل ان يسطع نجمه كسياسي ووزير وشاعر فيما بعد .
من اعضاء الجناح العسكري لجمعية النهضة الإسلامية:
الحاج نجم البقال: هو الحاج نجم البقال الدليمي المحمدي المولود في الدليم قصبة الرمادي، وأمه صايلة من عشيرة الخميسات نزحت اسرته إلى الحلة ثم إلى النجف بحدود 1850هـ، على اثر مشادات عشائرية، وكان فقيرا كادحا يبيع التمر والخضراوات، واعتنق المذهب الجعفري وكان على المذهب السني، وعائلته معروفة في النجف ولعل من أسباب هجرة العائلة إلى النجف العامل الديني ووجود مرقد الامام علي (ع) ومقابر الموتى التي بجوار الامام.اخذ الحاج نجم يعد العدة لتوفيق كل المستلزمات العمل الجماعي الثوري، السري منه والعلني وصولا إلى الغاية المرجوة التي وضع الاساس المتين لها منهاج الجمعية الإسلامية السالفة الذكر(10)، بقول علي الوردي:
كان الحاج نجم البقال يعد العدة منذ فترة غير قصيرة لاشعال الثورة في النجف وقد الف عصابة من بعض شجعان النجف ومغاويرها لهذا الغرض، وعصابته هذه أكثرهم شباب وليسوا من اهل السوابق، ولم يسبق لهم ما يدل على مثل هذه الجرأة والاقدام... ويقال ان قائدهم الحاج نجم اختارهم من قليلي الاقوال كثيري الافعال(11). وكانوا على شكل جماعات لايعرف احدها الآخر.
ومما يذكر ان من رفاق نجم البقال، محسن ابو غنيم، صادق الاديب، جودي ناجي، هادي حسن الحداد، عودة الشكري وقد تنكر الحاج نجم البقال اثناء خطة الهجوم على دار الحكومة بصفة بوسطجي أي حامل رسالة إلى المارشال الانكليزي وعندما فتحت الباب اطلق الثوار الرصاص على حارس الباب فاردوه قتيلا ثم تقدموا فاطلقوا النار على المارشال الانكليزي واردوه قتيلا ايضا، ويذكر ان الحاج نجم كان يرتدي ملابس الشبانة للتضليل(3).
كاظم صبي:
وهو من زعماء ثورة النجف، وكان رجلا شجاعا غيورا له مواقف جريئة بعد ان اجهزت الثورة ودخل الانكليز اسوار النجف قبض عليه وجماعته- كما تقدم- اذ سيقوا إلى مجلس عرفي صوري، وحكم عليهم بالاعدام شنقا، وقد تم تنفيذ حكم الاعدام عليهم في شريعة الكوفة (الجسر) في العشرين من شهر شعبان سنة 1336هـ في خان علي حمزة نصر الله ودفنوه في وادي النجف بين مقبرة الهنود ومقبرة السيد علوي البحراني (2).
يقول: الشيخ الاديب والشاعر علي الشرقي:
وكان في طليعة اولئك المساعير البطل "كاظم صبي" رجل الشهامة ومثال الفتوة، ذلك الكهل الوسيم المهيب جميل المخائل والشمائل عذب الكلمة: يتفصص نيلاً وبطولة، هباب للطيبات، مقدام يطفح في الرعيل الاول يخور عزم الليث ولا يخور عزمه. وكان كبير ضباط الانكليز يقدر بسالة (كاظم) ويحترم شهامته وحرصا على حياة ذلك البطل ارسل اليه من يخبره ان الدفاع اصبح لغوا ومن دون جدوى فهو يطلب منه الاعتزال وتضمن له السلامة والكرامة.
وعندما اسر ذلك الوسيط النبأ إلى (كاظم) انتفض عزة واباء، انتفض وهو يقول: ما انا فرد انما انا مجموع هؤلاء المنافحين ولا خير في الحياة بعدهم، انا النجف وما ضم سورها، فلا سلامة لي الا بسلامتها ولا كرامة الا بكرامتها... ولما استيأس الناس ونفد كل ما في عبابهم من صبر وعتاد، جاء كاظم صبي ووقف بإزاء الاسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر الانكليزي الذي أكثر كاظم صبي فيه القتلى والجرحى قائلا للحرس:
امسكوني: انا كاظم الصبي واطلقوا النجف الاسيرة.. وهكذا يمشي البطل إلى المشنقة بخطى متزنة مترفعا ومرتفعا على عمود الشرف والاعتزاز(2).
من انضم إلى جمعية النهضة الإسلامية من القبائل والافراد:
وهم من خارج النجف فقد كانوا- كما يذكر جعفر الخليلي- سلمان الفاضل رئيس قبيلة الحواتم، ومعه مشكوف، والشيخ وداي العلي رئيس قبيلة ال علي، ومرزوق العواد رئيس قبيلة العوابد، والحاج رايح رئيس قبيلة الحميدات(3) ويضيف الأستاذ صالح على الأعضاء اسماء أخرى هم الشيخ عبد الكريم الجزائري والسيد محمد البغدادي والسيد محمد رضا الصافي، واظنهم من النجف"3".
ولا بد من الإشارة إلى ان المصادر تشير إلى خيانة افراد للثوار اذ تواطؤوا مع الانكليز منهم نفر من عائلة آل السيد سلمان (وليس كلهم)(4) وشخص يدعى تومان عدوة الذي لم يطق الموقف في أثناء إعدام الثوار فانهد بالبكاء وترك محل اعدام الثوار مهرولاً(8)، في حين كانت دار الشاعر المشهور احمد الصافي النجفي مقرا لاجتماعات الثوار فكان يلقي القصائد الحماسية التي تبث روح الاقدام والعزيمة في نفوس المحاربين الاحرار... وبعد الهجوم الانكليزي على المدينة المقدسة اختفى الشاعر احمد الصافي النجفي مع صديقه محمد علي كمال الدين وافترقا في البصرة، اذ سافر الصافي إلى الكويت ثم إلى ايران. خوفا من حبال المشنقة(4) وصحيح ان الانكليز قد خنقوا انفاس الثوار، لكن ثورة عام 1918م اتت اكلها، اذ مهدت لثورة الشعب العراقي من جنوبه إلى شماله وكانت في الفرات الاوسط بقيادة الزعيم الديني محمد تقي الشيرازي الذي جعل من كربلاء والنجف مركزي اشعاع للثورة في العراق.
يقول الشيخ علي الشرقي عن اسباب محاربة العراقيين للانكليز وقيام الثورات ضدهم : انهم لم يعملوا على تثقيفنا وتدريبنا , وكم طلبنا منهم ان يتركوا لنا الحكم الداخلي , ويخففوا من مركزيتهم , لان اهل مكة ادرى بشعابها .... بهذا ومثله سمرت مع القوم ..... حتى وقف علّي بعض الشرطة فاذهب معه الى انكليزي فظ شرس يسألني عن عملي , ومن اتيت .... وبعد الاجابة قال لي : انتم تقولون " كلّم الناس على قدر عقولهم , وهؤلاء حمير فكيف تكلّمهم بمثل هذا ؟ " , قلت انهم بشر ولن اكلّمهم بالغامض فقال " وهل في العراق بشر قلت : انهم مثلكم وعلام هذا الشطط في القول ؟" ..... لقد كرههم رجال الدين لانهم مغتصبون يحتلون بلادا اسلامية , وهم لا يتصلون في الاسلام في سبب واغضبوا المدنيين لانهم وجدوا امية الريف اقرب الى اهدافهم , وحرموا على المثقفين حرية الاجتماعات وحرية ابداء الرأي وحرية الصحافة , وازعجوا طبقة النبلاء بتقديم الطبقة غير النبيلة لانها تقدم لهم بما لايقوم النبيل(2).
فالعراقيون الذين رأوا فساد العثمانيين ظهر لهم ما هو اشد غطرسه وظلما من العثمانيين وهم الانكليز, فحاربوهم عام 1914 م في الشعيبه بقيادة الشاعر الثائر محمد سعيد الحبوبي , وحاربوهم بثورة النجف عام 1918 م, وفي ثوره العشرين عام 1920م , وكان كل واحدة من هذه الثورات ممهدة للاخرى لاسيما اذا عرفنا ان العشائر العراقية والنجفيين كانوا مدججين بالسلاح ومدربين وكان لحركة التنوير القومية في بلاد الشام ومصر دور في تحريك الشخصيات الوطنية والدينية كمحمد علي بحر العلوم ومحمد جواد الجزائري ومحمد علي الدمشقي وغيرهم .
المصادر
1.الجزائري، محمد جواد، ديوان الجزائري، بيروت، نشر مكتبة الاتحاد، طبع مؤسسة خليفة للطباعة، 1970، ص: 15- 16.
2.الشرقي، الشيخ علي، موسوعة الشيخ علي الشرقي النثرية، الالواح التاريخية، القسم الاول، جمع وتحقيق موسى الكرباسي، يغداد، مطبعة العمال المركزية، 1988، ص: 50- 51والقسم الرابع , ص 306-307 .
3.صالح، كريم وحيد، نجم البقال قائد ثورة النجف الكبرى ضد الاحتلال الانكليزي عام 1918م، مطبعة النعمان، النجف، ص: 66- 42- 67- 73- 74- 79- 65- 87.
4.الصالحي، خضر عباس، شاعرية الصافي، بغداد، دار المعارف، 1970، ص: 15
5.العارضي/ محسن جبار، 90 عاما على ثورة العراق التحررية الوطنية، في /30/ حزيران، 1920، ص: 31- 33- 34.
6.العلوي، حسن، الشيعة والدولة القومية، 1914- 1999، دار الثقافة للطباعة، ايران، قم، عن: ط2، لندن، 1990، ص: 96، نقلا عن العارضي، محسن جبار، نفسه، ص: 33.
7.كمال الدين، محمد علي، معلومات ومشاهدات، بغداد، 1987، ص: 66، نقلا عن صالح، كريم وحيد، نفسه، ص: 66.
8.مجلة الف باء، ع: 6، س: 1، 1968، ص: 23، نقلا عن صالح، كريم وحيد، نفسه، ص: 91.
9.محمد , رفعت عبد الرزاق , جريدة المدى , ع : 2621 في 14/9/2012 , ص , 19
10.المظفر، محسن عبد الصاحب، مدينة النجف الكبرى، رسالة ماجستير غير منشورة، مايس، 1975، كلية الاداب، بغداد، ص: 265، نقلا عن: صالح، كريم وحيد، نفسه، ص: 42- 67.
11.الوردي، علي، لمحات اجتماعية، بغداد، 1978، ج5، نقلا عن صالح، كريم وحيد، نفسه، ص: 67.
منقول