"الحجامة"على الطريقة السودانية
تجدها دوماً على وجوه المسنين والجدات إذا ما زرت السودان، إنها علامات وشقوق على الجبين أو جانبى الوجه، أو فى أى منطقة أخرى قد لا تراها، يحمل كل منها ذكرى وقصة، تتراوح بين قصة حول المرض أو قصة حول الشجاعة، إنها الحجامة، أو كما يطلق عليها السوادنيون «التشليخ» والمقصود بها «فصد» الجباه بعمل ثقوب أو شقوق في الجلد، وهى ثقافة سودانية قديمة، انتقلت عبر السودانيين إلى بعض القبائل العربية وأيضاً إلى مصر، وكانت قديماً رمزاً للانتماء القبلي والطائفي، وقد أبدع البعض في أشكالها، ورسومها، وكانت الفتيات السودانيات تعتبرها مظهراً للجمال، كما تعتبرها القبيلة تميزاً لها عن غيرها من القبائل.
ورغم أن الحجامة بدأت فى السودان كنوع من محاولة علاج بعض الأمراض، عن طريق الاعتقاد الذى كان سائداً بأن فتح جرح بالوجه وإخراج بعض الدم الفاسد إنما يزيل الأمراض فى مقدمتها الصداع المزمن وأمراض العيون والالتهابات العظمية، إلا أن هذا العلاج تبين أنه نوع من الوهم والإيحاء، رغم ذلك تطورت الحجامة فى مراحل لاحقة، وأصبحت ثقافة ترسخت في الأذهان، ارتبطت بالجمال والشجاعة عند الرجال في ذلك الوقت، إلى أن تغير مفهومها الجمالي حالياً وأصبحت لدى السودانيين أنفسهم عبارة عن تشوهات للوجه، حتى بات الأبناء والأجيال الجديدة ترفضها وأصبحت كعادة قديمة فى طريقها للاندثار بسبب انتشار الوعي الصحي بأضرارها وزيادة نسبة التعليم، وتغلغل القيم الحضرية، إضافة إلى ما صدر من قانون يحظر إجراء مثل هذا «التشليخ» لدى الأطفال.
ووفقاً لتحقيق مصور أوردته صحيفة «العرب» اللندنية، فإن قبائل عدة في جنوب السودان، مثل قبائل «دينكا»، و«النوير»، و«المندري»، و«الزند»، و«اللوتوهو»، كانت تمارس طقوس «التشليخ» لدى الأشخاص كرمز للانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى، فيما تعامل معها الاستعمار البريطانى بوصفها علامات على الهوية الأفريقية، ووفقاً لما قاله «سانتو أغسطينو لاكو»، الباحث السودانى في التراث فإن المستعمر استغل «التشليخ» ليميز بين القبائل، حيث كان لكل قبيلها رسومها وخطوطها الخاصة فى الوجه، فمثلاً قبيلة المنداري بالولاية الاستوائية الوسطى (جنوب)، ترسم شكل ثلاث سبعات (777) على الجبهة، وهناك أربع سبعات للقبائل التى تتميز بشباب الفتى، وارتبطت لدى قبائل جنوب السودان الـ «64» بقيم جمالية تميز الشباب والرجولة في غالب الأحيان، فالشخص غير «المشلخ» ينظر له على أنه صبي مراهق مهما بلغ من العمر، بجانب استخدامها فى علاج الأطفال من أمراض الصداع والرمد المزمن، وهى بهذا كانت أقرب ما تكون إلى أحد الموروثات الطبية العربية، والمعروفة بـ «الحجامة» التي تعتمد على إخراج الدماء الفاسدة من مناطق بعينها في الجسم، غير أن «الحجامة» غالباً ما تكون بعيدة عن منطقة الوجه.
وكما سبق الإشارة، فإن «التشليخ» كان يتم في مجموعات لمواليد الشهر الواحد، ويطلق عليهم في اللغات المحلية مصطلح «الدفعة»، ثم تقام احتفالية للدفعة بعد التئام أماكن التشليخ وتحولها إلى خطوط بيضاء واضحة، أى بحوالى شهر من «التشليخ»، وتذبح بالاحتفالية الذبائح، ولا يسمح لهم بالاقتراب من مجتمعهم إلى أن يغتسلوا في البحر، وبعدها يمارسون حياتهم العادية، وتهدى لهم أثناء الاحتفال الأدوات الحربية القديمة باعتبارهم المحاربين الجدد للقبيلة، كما ينالون إعجاب الفتيات، ولا يُسمح للآخرين وصفهم بالصبيان حتى إن كانوا صغاراً في السن.
وكنتيجة لتزايد الوعى الصحى بين قبائل السودان، بدأت عادة «التشليخ» في الانحسار مؤخراً، نتيجة انتشار معدل الوعي وزيادة نسبة التعليم، وتغلغل القيم الحضرية وسط مجتمعات جنوب السودان، إلى جانب الخوف من بدائية الآلات المستخدمة في «التشليخ» التي لا تخضع للتعقيم بجانب أن سوء استخدامها أدى فى حالات كثيرة إلى قطع شرايين الرأس، ومن ثم تسبب النزيف والوفاة، إضافة إلى أن جروح عملية «التشليخ» قد تدوم لفترات طويلة، وتشوه الوجه أيضاً، ومنها ما يصل إلى العظام، ورغم تراجع هذا التقليد، كما تم حظره قبل أربع سنوات، عندما أُقر قانون الطفل في دولة جنوب السودان، كما أن العديد من المجموعات والقبائل عقدت مؤتمرات منعت فيها عادة «التشليخ»، إذ ينص قانون الطفل لعام 2008 بوضوح على ضرورة حماية كل الأطفال من الممارسات الثقافية والاجتماعية السلبية والمؤذية كالقرابين والوشم ووسم الرؤوس والثقب، وقلع الأسنان، إلا أن بعض أفراد القبائل لا يزالون يتمسكون به كتقليد وموروث قديم