الدين الزائف
محمد حرب
مسمى الدين مرادف للمقدس ، فأي دين معبر عن الصلة السماوية لصاحبه ، حتى الاديان التي لا تضع السماء ضمن معتقدها فهي تقدم طرحا تفسيريا للوجود الانساني و مصيره ، وحالة التقديس والاذعان للدين تجعل غالب المؤمنين بصلاحية هذا الدين يعطلون مقدراتهم التي وهبهم الله إياها و يعتمدون على الاخبارات التي يقدمها لهم هذا الدين كيقين لا يقبل النقد ، فالمقدس يحل محل الخصائص الانسانية عند الذين يحسبون أنفسهم متدينيين ، فأن الأجهزة الإنسانية في نظرهم ليس من ضمن مجال سلطتها الدين لكونه يسموا على هذه الاجهزة والتي يراها المتدين بأنها معطوبة وقاصرة عن إدراك ماهية محيطه أو تفسير الوجود الانساني بتحديد مصدره و أبعاده و مآله .
وحالة التضاد بين مفهوم المقدس و انسانيتنا جعلت الكثير يرون في الدين مخلصا لهم من هذه الانسانية المرهقة فانه في رؤيتهم لا يتعين عليهم البحث عن معلومات موفرة آنفاً من صاحب الوجود وموجده، و أنه لا يجوز لهم أن يشكلوا فهما خاصا لهم بعيدا عن مظلة المقدس الذي إستلموه ممن سبقوهم وهذه المفاهيم هي عين الحق و الحقيقة وهي التي تقيهم الزلل والانحراف ، و أن القطع بصحة و صدق و يقين ما وصل لهم عبر الاخبارات معبر عن صدق إيمانهم حتى لو كانت هذه الاخبارات تتصادم مع معلومات أخرى ثابتة في النفس وأصل وجودها فطري أو عقلي ولكن هذا ليس ذا قيمة فالواجب على من هو محكوم بالارادة الجبارة الخفية أن يطبع هذه المعلومات في ذهنه وأن يحلها محل المفطورات و أن لا يسمح للعقل بالبحث فيها فان ذلك اعلاء للقاصر المحدود فوق المقدس الكامل .
اذن الدين هو الحقيقة الكاملة في نظر أناسه و لا يجوز التشكيك في ذلك لان ذلك يعد منازعة غالبا ما تتطور الى ما هو أشر من ذلك ، ولكي نعي إشكالية هذا الفهم للدين وللمقدس فعلينا أن نتجرأ عليه أكثر ، و لأن البشرية اليوم تقاسي من عذابات لا حد لها و للدين المزور نصيب كبير في إشعال المآسي و إنتاج الحروب فأن هذا الدين له مدخلية في سوأة واقعنا ، و دعوى عصمة مسمى الدين و أن القصور من أصحابه دعوى ساقطة فنحن قد نصمت على سلبية الدين اتجاه فعل الخير و منع الشر لكن ان يصبح الدين هو الاساس الذي يقوم عليه الشر فهذا بالتاكيد ليس قصورا في اصحابه بل هو خللا داخله و في فهمنا له وفي كونه قد خالطه ما هو نقيضه او لربما أننا وقعنا في دين كامل التزييف يتشابه شكلا مع الدين و يتنافى موضوعا وغاية مع الدين ولان الدين يمتلك حصانة التفتيش فانه يمرر على الجميع ويدخل ادمغتنا دون تمحيص او بحث ويظل فعله واثرة مستمر الى ان يفنينا و نحن نلتفت حولنا عن سبب نكباتنا دون ان نشك او نبحث في امتعتنا عن سبب ما يجتاحنا من نكبات و هزائم
المزيف قد يشبه الأصيل في شكله الخارجي ولكنه يتباين معه في مواده الخام و الهدف من إيجاده و صلاحيته ، و هذا الزيف الذي يقدم في مغلف ديني عماده تمزيق الوحدة الإنسانية و تفتيت المشتركات البشرية لحساب التباينات التفصيلية ، وهذا التزييف يبتني وجوده من خلال إرساء قواعد البغض والكراهية و إقامة القواطع الطائفية و المذهبية و الحزبية و القبول بالسقف الذي يحد من الإنطلاق المعرفي و الإحتكام للغة القوة العمياء في إدارة العالم ، و من أهم وسائله تتبع الفرد المنقوص و تعطيل العقول و إقصاء المجموع و إغفال الحقيقة و نشر الخرافة و تنمية النوازع و قتل الحب و فرض اللامنطق و تزكية التعالي و محق البساطة والعفوية و تأمير الأشرار و تسليط الظلمة و الإحتكام للقوة و البناء على ما هو كائن لا على ما يجب أن يكون .
فالدين المزيف لا يقوم إلا على فساد و لا يسير إلا بالإفساد ، و ليس له غاية إلا مزيداً من الفساد ، وإستمراره رهن بإرادة الشيطان الضعيفة لذا لا صلاحية لوجوده فهو خرب منذ أن كان، و الذين قبلوه هم من سنخه لا يروون إلا ذواتهم في كل الأشباح التي يروونها و إنتسابهم لهذا الدين إما لكونهم مقموعين عبيد أو أسياد متسلطين لذا فهم إستحقوا الطين الذي كانوا منه ونالوا الطينية بوضاعتهم و إنغراسهم في نشوتهم العارضة .
فيا معشر المتدينيين أعيدوا فحص الدين الذي إرتضيتموه لكم و لأجيالكم القادمة ، إعرضوا هذا الدين على فطرتكم و عقولكم و كرسوا جهدكم لتتعرفوا أكثر على مراد ربكم والغاية من خلقكم ، ولا تقبلوا أي بضاعة تقدم لكم في مغلف براق لامع .
دين الله الذي إرتضاه لعباده و أرسل جيوش الرسل لهذه البشرية العوجاء منذ البداية ، لم يأتينا إلا ليستخرج أجمل ما فينا ، هذا الدين ليس نظاماً يضمن خضوعنا لقوة نجهلها فهو لا يزرع الخوف بل يكبح التعدي ، هذا الدين لم يداهمنا ليقسمنا شيعاً وطوائف و أديان ولكنه إعادة صياغة للبشرية وفق المنطلق الأول وإزالة أسباب الإنحراف التي تأتي على مواطن الجمال فتغرقها في ماءها الآسن ، هذا الدين لم يكن بيننا ليقمع حريتنا لحساب مستبد ولم يدعوا يوماً للجبرية الفكرية ولم يقر لأحد جعله أداة لرفض الآخرين بسبب دينهم أو عرقهم أو فهمهم أو أرائهم .هذا الدين بدأ من حيث جذورنا الواحدة و سعى للإصلاح للمسيرة البشرية على الدوام ، وأرادنا مثالاً لله في صفاته الجمالية ، أراد أن يقوم عجزنا البشري بصلتنا السماوية و أن يكمل نقصنا الطبعي بأن يدلنا على مكامن القوة التي سكنتنا وبحثنا عنها في كل الأمكنة الخطأ ، دين الله هو نور كامل لا مجال لطمسه أو رؤية الأشياء على حقيقتها بدونه وهو دين الأحرار الصادقين والصالحين والذين قبلوا أن تذوب ذواتهم في نهره الجاري وهم بهذا إستحقوا الإنتساب للدين وصاحبه فكانوا إلهيين .
فلسطين ، غزة