الدراسة الجامعية في بلادنا:
نظام غبي يحطّم الموهبة والتفكير
إن ذهبنا حالاً لأى جامعة عربية، و رأينا أى مجموعة من الطلاب أو الأصدقاء جالسين سويا، و أجرينا حوارا صغيرا معهم ما هو إلا سؤال واحد فقط : كيف هي دراستك الجامعية الآن فى مقابل كيفما كنت تتوقعها أن تكون قبل الانتساب للجامعة؟ نجد أن الاجابات قد تعددت، لكن النتيجة واحدة…
فتجد منهم من كان يأمل أن يجد دراسة ممتعة، أو دراسة حقيقية للعالم الواقعى، و ليس مجموعة من المعلومات النظرية المجردة فقط. و منهم من كان يتمنى معرفة العلم و كل أصوله و يتوسع فيه و يخوض بعقله كله إليه حتى يشبعه و يمتعه، ولم يجد ذلك قط. بل فقط وجد كم كبير من المعلومات التى يلزم عليه حفظها، ولا يجد المصادر، وحتى إن وجدها لا يجد الوقت لها. و منهم من قرب لموعد التخرج، وقد أمضى الوقت كله فى دراساته الجامعية، لكنه يشعر أنه لا يعلم شيئا أبدا بشكل فعلى عن عمله. منهم من هو فى عامه النهائي، و قريبا سيقدم مشروع التخرج، وهو لا يملك المال ليمول مشروعه والجامعة لا تقدم أى مساعدات ولا حتى تسهيلات. وسترى منهم من يتحدث إلى نفسه فى سيره، إذ أنه كان يريد تقديم مشروع و عمل عليه مطولا طوال العام حتى جاء معلمه فى الجامعة قبل تقديم المشروع بشهر واحد وقرر أنه يريد الطالب أن يغير المشروع بالكامل. منهم من كان طالبا مثاليا طوال العام وأبلى جيدا فى آداء الامتحانات، وفى نهاية الأمر وجد أنه على حافة النجاح ببضع درجات، وذلك لأسباب لا يعلمها إلا الله.
فكل من هؤلاء الطلاب محبط لأسبابه الخاصة، لكنها تصل كلها لنتيجة واحدة وحقيقة واحدة، حقيقة تعلمها أنت جيدا إن كنت من أحد طلاب الجامعة أو قد كنت واحدا فى الماضي، وهى أن التعليم الجامعى فى بلادنا خدعة.
وليس التعليم الجامعى وحده، بل النظام التعليمي كله. وهو يعانى من علل أكثر من أن تحصي. بدءا من المراحل الابتدائية.
ما أن تضع الطفل فى المدرسة، حتى يجد كم المعلومات الغير مفيدة على الإطلاق والتى يجب حفظها عن ظهر قلب دون حتى فهمها ولا حتى محاولة من أى معلم لشرحها، ولا حتى-فى المواد التطبيقية- يفهم فيم وكيف تستخدم تلك المعلومات التى تكتظ بها رأسه وما فائدتها فى الواقع العملى. ولا حتى اهتمام ممن يصحح الامتحان و يضع الدرجات بمحاولة قراءة ما يكتبه الطلاب، فإن كان مختلفا عن نص الكتاب الدراسي يعتبر تلقائيا خطأ. حتى وإن كان صحيح المعنى بتغير فى الألفاظ أو طريقة التعبير! وحتى طريقة تقديم المعلومات ليست فى إطار شيق أو ممتع ولا حتى لأكثر الأطفال رغبة فى التعلم فى العالم. وماذا يسعك فعله إن كان هذا الطفل هو ابنك؟ لاشيئ. و هل يمكنك أن تغير ذلك النظام العتيق المستبد الذي أمضي عصورا طوال يعبث بعقول أبنائنا؟ بالطبع لا.
و هل تخيلت احساس الزرافة من قبل؟ أن يكون مثلا رأسك فى الطابق الثالث موصولا بجسدك الذى هو فى الطابق الأول؟ شخصيا، لم يعجبنى ذلك التصور. لكن هل أبدا وجدت زرافة تشكو حالها و تحاول تقصير رقبتها؟ هل رأيت من قبل زرافة عندها دوار دائم من المرتفعات؟ كل ما أعنيه هو أن الانسان كسائر الكائنات الحية يقبل و يألف وضعه و يستكمل حياته بناء عليه، فإن خلفية الانسان الفكرية هو كل ما صنعه به العالم فى طفولته، و ما اكتسبه من معرفة و مشاعر وطريقة ومنهجية للتفكير فى كل شيئ. فمن يربي على التفكير والإبداع يكبر لتكون له القدرة للتغيير والتعديل، حتى ما يحسن العالم كله من حوله. ومن كان فى تربيته مسيّرا داخل نطاق تفكير محدود و ضيق فإنه يكبر
ليحافظ على نفس ضيق التفكير وإن حاول التغيير فإنه يجد
صعوبة شديدة فى الخروج عن حدود المألوف –بالنسبة إليه- و يحارب فقط ليزيل العوائق الذهنية التى فرضها عليه محيطه و بيئته ليبدأ بعدها فقط محاولة أن يجاري سائر المبدعين من حوله. إذن فالتربية هى الأساس، والمدرسة قد وضعت لكى تفعل- ما لا تستطيع الأسرة فعله- وهو أن تسير الأطفال على منهج واحد متعدد فيه دراسات لكل فروع العلوم. لكن إن كان ذلك النظام فاسدا، فإن الطلاب يتأثرون و يحملون عيوب ذلك النظام أبدا فى عقولهم. و حينها تحتاج لمعجزة لتستطع تغيير عقول أولئك الطلاب أو تحسين طريقة تفكيرهم.
فاحذر دوما عند تربية ابنك من القالب الذي تضعه و تضع عقله فيه، فهو بالضبط الحال الذي سيكبر عليه. وإن كنت أنت نفسك ممن كانوا ضحايا ذلك النظام فحاول التحسن والخروج من سجنه، حاول توسيع مداركك، ليس لنفسك فقط بل لصالح أبنائك. يخلقنا الله كما يشاء فى أشكالنا وأوضاعنا و حياتنا، لكن يعطيك فرص للتغير والتغيير.
و حين يصل الطفل للمرحلة الثانوية ويمر بها، يجد أن – فى الكثير من بلادنا – ما زال نظام التعليم فيها يوزع سنويا على كل كلية عددا من الطلاب وفقا لمجموع درجاتهم، فتجد من لهم أعلى الدرجات يتهافتون على كليات يطلق عليها اسم “كليات القمة”، و كأنما باقى التخصصات العلمية كلها ليست بأهمية ما يدرسونه فى “كليات القمة” فتجد أن كليات ككليات التجارة والآداب والفنون لا تعد من “كليات القمة” ، بل بالأحرى “كليات القاع” نظرا لقلة ما تطلبه من مجموع درجات. فهكذا أصبحنا نعيش فى بلاد اختفى منها العلم والآداب والفنون، كما يختفى منها كل شيء آخر من متطلبات الحياة الانسانية شيئا فشيئا.
حينها تشعر بقمة النفاق و يتردد فى ذهنك درس القراءة الذي تعلمته فى المدرسة والذي يعلمك أن كل وظائف المواطنين فى غاية الأهمية و كل منهم يكمل الآخر، حتى عمال النظافة و جمع القمامة هم أعضاء فى المجتمع في غاية الأهمية ولا يمكن التخلى عنهم، لأننا كلنا نعيش فى منظومة حيث يكمل كل أحد منا الآخر.
بشكل عام وفى الغالبية العظمى المجال الذي تريد دراسته يختلف تماما عن ما تنتسب إليه فى الدراسة، وكلاهما مختلفان تماما عن مجال العمل.
و كيف لك أن تتميز وتتقدم فى مجال دراستك و أنت لا تحبه أصلا و مجبر عليه؟ ولماذا الوضع هكذا من البداية؟
لما فرض التعليم هذا؟ لماذا يمنع عن الانسان اختيار مجال تعليمه؟ لما هذا القهر؟
وما المشكلة فى أن يكون كل انسان ما يريده؟ لمن يسئ ذلك؟ وما لا يطاق هو خلل المعيار المعتمد لالقاء كل طالب فى كلية… المجموع الكلي الذى حصل عليه فى كل المواد الدراسية والتى يكون معظمها لا علاقة له من الأساس بالمجال الذي يتمنى ذلك الطالب لدراسته. أى أنك كثيرا ما قد تتعرف إلى شخص، وتلمس بنفسك أنه عبقري فى علوم الرياضيات (و حقق فيها الدرجات كاملة حين كان يدرسها) ، ثم تكتشف بعدها أنه قد التحق بكلية الآداب مثلا
لأنه لم يأت بمجموع درجات عام فى الثانوية العامة كاف ليلتحق بكلية الهندسة أو العلوم الرياضية لأنه كان ضعيفا فى دراسة اللغة العربية فكانت درجاته فيها ضعيفة، وذلك هو ما خفض مجموع درجاته النهائي العام! ياللهول. النظام الدراسي قد جعل الشاب يلتحق بكلية الآداب لأنه كان ضعيفا فى اللغة العربية! ولم يلتحق بكلية الهندسة أو العلوم الرياضية بعد أن كان عبقريا في الرياضيات. وذلك هو النظام! و كأنه نوع من العقاب أو التلذذ بإشقاء أبناء الأمة. أى نوع من الظلم هذا؟ ثم ينظر ذلك الشاب فى حسرة لا متناهية و غيرة لأصدقائه الآخرين ، والذين كانوا أضعف منه فى الرياضيات والعلوم الرياضية ( والتى ربما كان أيضا هو من يشرحها ويفسرها لهم) وقد جاءوا بمجموع كلى (فى جميع المواد الدراسية) أعلى منه لتميزهم عنه فى المواد اللارياضية، فأهلهم النظام الدراسي للالتحاق بكلية الهندسة. وهو يظل ملقى خارج أسوارها و الآن لا يسعه شيئا سوى البكاء.
و كم كان لشخص مثل ذلك أن ينهض بالمستوى العلمى للبلاد فى مجال الرياضيات إن كانت له الفرصة. لكن النظام التعليمي كان أغبي من أن يسمح له بذلك. فلا لوم إذن على مثل هذا الشخص أن يذهب للخارج و يدرس ويتميز و يعمل هناك أيضا، و حينها تكون بلاد الخارج هى الأحق بعلمه من بلده الأصلى. فلو كان قد بقى هذا الشخص فى بلده لأصبح عاطلا أو فاشلا أو محبطا لآخر حياته أو حتى مجرما، وعاش مع كل الضحايا ممن هم مثله، ولن يجد عملا لائقا ولا راتبا للكفاف حتىن وحينها لا حل له سوى أن يكون مجرما، أو أن يحاول فى شتي الطرق للهجرة الشرعية وغير الشرعية. يالضياع الموهبة.
أما لو درس فى بلاد الخارج، تجد أنها قد أخذته – بعد أن كان كالمهملات فى بلده – وحولته لشخص عظيم. وأعطته الحياة والعلم الذان كان يحلم بهما و يستحقهما.
ففى الخارج – خذ كندا مثلاً حيث أدرس - لا إجبار فى التعليم، لا تفضيل لمجال علمى عن آخر، لا يمنع العلم عن أحد قط. من يحب اتجاه علمى يدرس و يعمل فيه. فإن منع العلم عن طالبه جريمة فى حق الطالب والنظام التعليمي و الأمة والانسانية كلها.
ففى الخارج يمكن دراسة أى شيء تريده فى أى وقت ، وحين تنتسب لنظام دراسي فإنك تجد تماما ما تريده، أى أنك إن كنت ممن يريدون الدراسة بشكل عملى فقط لمعرفة المعلومات التى ستستخدمها فى مجال وظيفتك، فإنك ستدرس كم المعلومات الذي تحتاجه بالضبط، و إن كنت ممن يهوون البحث و التنقيب عن كافة المعلومات التى تدرسها، و أصولها وكل ما هو منوط بها من معلومات أخرى، فإنك ستجد ذلك أيضا، بل و ستجد أن النظام الدراسي نفسه سيساعدك و يدعمك فى تلك الأنشطة الإضافية.
فإن النظام الدراسي – فى الخارج- قد وضع لخدمة الطلاب، وذلك هو التفكير المنطقى، فيكون من حق الطالب تغيير كل ما يريد ليحصل على علمه بالطريقة المناسبة، فإن كان من يعلمه حتى لا يعجبه أو يتسبب فى أى مشكلة لدى الطالب، فإن من حق الطلاب تغييره. كما يقيّم المعلم بالضبط كما يقيم الدارس فى آخر العام. و ذلك بالطبع لضمان تحقيق أفضل النتائج المنتظرة من الجيل الجديد. وما هو جدير بالاحترام هو رؤية الاحترام المتبادل بين المعلم و الطالب، والمساواة بينهم. فكلاهما مواطن له حقوقه و له كرامته، الطالب بالطبع مدين لمعلمه بالاحترام والتقدير، لكن فى نفس الوقت، المعلم أيضا يتقاضى راتبا مقابل خدماته. و المعلم نفسه قبل أن يكون معلما كان طالبا، و كان ينظر نظرة الاحترام تلك لمن علموه، فهو فقط جزء من واجبه أن ينقل تلك التعاليم بأمانة. كما أنه أيضا بذلك يخدم نفسه، أولن يكبر ذلك الطالب الصغير ليصبح عضوا عاملا منتجا فى المجتمع و سيعلو به كله و يدفعه للأمام، ألن يكون ذلك الطالب فى ذلك قد خدم معلمه و أبناءه حتى؟ و قد يصبح عالما كبيرا أو صاحب اكتشاف عظيم تفخر بها الدولة كلها، بل البشرية كلها. فنحن بكل أفعالنا وعلمنا و أعمالنا حلقات تكمل بعضها الأخر.
وبالطبع حينما ستبدأ مستقبلك المهنى فى وظيفة، ستضمن حتما أن تصل لكل ما تبتغيه، حتى و إن كنت ستتعب من أجله، لكنك فى النهاية ستصل لكل ما تريد و وضعك المهني سيثمر بنفس مقدار جهدك بالضبط. ولن تشعر أبدا بالظلم أو ضياع الجهد. و إن سألت أى ممن جرب النظام فى بلده الأصلي ثم بالخارج سيقول لك هذا: “بالخارج سوف تتعب لكنك ستجد، أما هنا فإنك ستشقى ولن تجد شيئا فى النهاية.”
أما فى بلادنا ، فعلى ما يبدو أن النظام التعليمي كله – وخاصة بالجامعات – قد وضع لخدمة المدرسين فقط ولا أحد غيرهم. مما أدى إلى تأليه المعلمين والمدرسين. و ذلك فى كل شيء. ففى أغلب الجامعات (وخاصة المجانية) الآن، يكون المعلم هو الآمر الناهى فى كل شىء. والمتحكم المطلق فى كل درجات الطالب بداية من الحضور و أعمال السنة و إلى نتيجة امتحان آخر العام. مما بدوره يؤدى لارتفاع كبرياء، و أحيانا قد يصل به الأمر لمعاملة طلابه باحتقار وضيق و تطاول. والتحكم فيهم حتى ماديا أحيانا لشراء كتبه، واستغلال درجاتهم و نجاحهم كما يريد بلا رقيب. فيضطر الطلاب لتقبل كل ما يفعله و محاولة ارضاءه بشتي الطرق و الدعاء لله أن يمر عامهم الدراسي بخير دون أن يقعوا تحت براثن معلمهم أو التعرض لأى مشاكل معه.
وأخيرا، إن حالفك الحظ ووصلت لكلية عملية مثلا أو تطبيقية، لا تجد فيها لا علما، ولا معرفة أو تطبيق عملى، ولا تفكير عملى ولا دراسة شيقة. و حين تتخرج لتعمل، تجد أنك فى الواقع لا تعلم شيئا، فحينها تبدأ وحدك التعلم الفعلى من خلال العمل، فتجد أن لا قيمة فى الواقع لشهادتك إلا لأنها تصلح أن توضع فى إطار معلق على الحائط. و بعد أن ظننت قصيرا أنك أخيرا قد تحررت من عبودية معلمك فى الجامعة، تستعبد من قبل صاحب العمل، الذي لا يرى سوى أنك آلة رخيصة لا تستحق الأجر.