الموهبة الفنية: هل نُولد مُبدعين؟
لا أحد يدرى بالضبط كيفية عمل العقل البشري. ولن يفعل أحد أبدا. و(حتى) إن فعل، فلن نعرف أبدا كيف تعمل مخيلة الانسان، وعقله الباطن. ماذا يجعل لشخص حس جيد فنيا، أو حساسية عالية فى فهم الألوان، وربطها بمشاعر مختلفة، بدلا من حب صخب الألوان ، الذي قد يجتذب آخرين؟…
وكما ترى ليلا قصة فى حلم، لا تعرف معانيها، ولا من أين تأتى وماذا تريد،و قد تحاول جاهدا لتخمين أسباب ظهورها فى عقلك، كذلك هو الحال مع الموهبة الفنية… حيث أنك لا تعلم بالضبط أين تبدأ، ومتى تنتهى… هل مثلا موهبتك فى الرسم قد بدأت فى أول مرة أمسكت فيها بفرشاة رسم؟ أم أنه أمر آخر يتعلق بكل شيء فى الدنيا وفى حياتك إلا هذه الفرشاة وهذه الورقة، وقد يكون كل ما سبب موهبتك هو ما انتابك من مشاعر فى أجواء مختلفة، أو خليط من ذكريات يخلف مكانه أجزاء من صور التقطها عقلك، أو ألوانا تعلق فى ذهنك ، أو خليط من أصوات لا يعبر عنه إلا بموسيقي تصنعها أنت حتى تنقل للعالم ما هو بداخل عقلك.
تعريف الفن هو العملية أو نتاج أو تشكيل العناصر المختلفة لتصدر جمالا… بالطبع الجمال قياسه ربما يكون نسبيا، أو مختلف من شعب لآخر، وإنما الجمال يكمن فى قدرة ذلك الانتاج الفنى على التأثير على المشاعر الانسانية لدى الآخرون، حتى يرون مشاعرهم وأجزاء من أنفسهم فيه ويتصلون به، ومن ثم قد يعطيهم نظرة جديدة للحياة.
فى رأيي،الفن و الابداع هو قدرة تأتيك كمبدع بالالهام كما الأحلام. ففى الأحلام يجمع عقلك من كل أجزاء الأحاسيس والايماءات والمعانى الباطنية لما رآه فى اليوم، ويعيد عرضها عليك بشكل متقطع متفرق متناثر. كذلك فى الفن، عقلك يجمع هذه الأفكار بطريقة حتى أنت لا تعرفها، وفنك هو الذوق الذي لديك فى إعادة تجميع هذه العناصر والأفكار التى جمعها عقلك وقلبك على مر حياتك، ثم تعيد وضعها وترتيبها سويا بشعورك حتى تصدر جمالا. أيبدو ذلك سهلا؟ …. ليس بالضرورة.
الشخص العادى لا يمكنه أن يتصور مدى التعقيدات والمشاكل التى تدور فى عقل المبدع… فى الواقع، ليس هناك تعريف لكلمة “الشخص العادى” إذ أن كل شخص له مجال خاص يبدع فيه، مهما كان نوعه، وحسبما يطوره هو( أى قد يعيش الشخص طوال حياته دون أن يعرف مجاله..). لكن كل منا لا يتخيل صعوبة الابداع فى مجال الآخر.
فالمهم ألا تضع العواقب أمام دماغك المملوءة بالأفكار، حتى تتيح له السعة الكافية القادرة على اختلاق الفن الجديد. والعواقب كثيرة… منها ما يظهر من داخلك ومنها الخارجى.
هناك الكثير من العوامل الخارجية المحيطة بالمبدع والتى قد تؤثر بالسلب عليه، وخاصة إن كان ابداعه هو وظيفته الرئيسية. حينها تعرض موهبته للمصاعب. فمثلا، العميل دوما على حق… أليس كذلك؟ العميل صعب الارضاء يجعل من حياة الفنان جحيما. وخاصة أن هناك نوع من هؤلاء هو ليس صعب الارضاء فى الحقيقة، إنما هو فقط لا يحب الرضا بالناتج النهائي بسهولة، فيقتل وقت الفنان وطاقته بأسئلة ماذا لو، ماذا لو غيرنا العنوان، أو شكل هذه الصورة، أو الألوان ههنا، أو لقطة الفيديو هذه… وفى نزوة من هذه يعيدك إلى نقطة البداية ! مع العلم أن كل هذه الأشياء التى يود تغييرها الآن هو بنفسه قد وافق عليها فى مرحلة سابقة ! وهناك العميل الذي لا يفهم تماما كل ما تقول، لكنه يجاريك بأى حال من الأحوال ظنا منه أنه بذلك يعلى من قدره فى عينيك، حتى لا تحاول أنت كمصمم خداعه ! فتضطر للشرح مرارا و تكرارا للأمر نفسه، وهو فى عناد يقول لك “أفهم جيدا ما تقول”. وهناك العميل الذي يسبب له المشاكل من النواح المادية، متى الدفع؟ كيفية الدفع؟ والكم؟ وأنت كمصمم لا تتمنى حتى التواجد فى هذه المواقف، لكنك إن كنت ستعمل عملا حرا، فعليك توليها كلها بنفسك. أما إن كنت تعمل تحت إمرة مدير، فغالبا ما تجد المدير فيه كل المساوئ المذكورة أعلاه فى العملاء المختلفين مجتمعة فى شخص واحد! وذلك المدير لن يرحل مع نهاية المشروع.
أو تخيل أن تستيقظ يوما لتستكمل عملك من اليوم الماضي، ولديك الكثير والعديد من الأفكار المشوقة الجديدة التى ترغب بشدة بدء تطبيقها على الفور فى انتاجك الجديد أو هذه القطعة الجديدة من الفن التى تعمل عليها حاليا، فتدخل إلى غرفة عملك أو مكتبك لتغوص فى خيالك بين جهازك وأدواتك . لتجد نفسك محاصرا بشتى أنواع المشاكل التى تعيدك للعالم الواقعى، كأعطال فى أى من أجهزتك مثلا، أو وجوب لأن تخرج من بيتك للذهاب …
أترى ذلك يفسد يومك؟ وماذا إن كثرت الأماكن التى ينبغي عليك الذهاب اليها، أو المشاكل الصغيرة اليومية التى يجب عليك حلها. فمثلا إن كانت لديك سيارة، فقد تعطلت ويجب عليك أخذها للورشة حيث يتم اصلاحها، واتصل بك أحد من عائلتك يحتاجك أن تذهب إليه للخروج معه، ويريد أحد أصدقاؤك منك خدمة، ..ستصاب بالضيق والاعياء ولا تستطيع العمل ذلك اليوم مطلقا، وتعود لمنزلك لتتناول عشاءك وربما تضيع ساعة أو اثنتين قبل أن تخلد للنوم فى شعور بالضيق لضياع يوم بأكمله دون عمل. لكن غدا هو يوم جديد، وحين تستيقظ إلى مكتبك، على الرغم من حسرتك على اليوم السابق، إلا أنك تجد أن عقلك يعمل بشكل جيد، بل وقد أتاك بأفكار من حصيلة ما رأيت من اليوم السابق، فمثلا فى الورشة لفت نظرك كيف يلمع الضوء عن سطح معدنى، وأعجبك ذلك التشكيل، وحين خرجت مع عائلتك رأيت أشكالا وألوانا جميلة فى الشارع، حدائق ومبان، وفى منزل صديقك رأيت ألوانا وتماثيل وأشكال زخرفية… فربما كانت هذه بالضبط هى الأجازة التى يحتاج إليها عقلك، أو لقبها برحلة اصطياد الأفكار، لا شيء ولا فعل فى العالم بلا قيمة.
أما داخليا، فمن الصعب أن تكون فى حالة اتزان مزاجى وفكرى بين عقلك وأحاسيسك. كما أن البعض حين يقدرون جمال ما تصنعه أيديهم، يقلقون بشأنه! يفكر فى ماذا لو ضاعت موهبته، أو استنفذت، أو نفذت منه الأفكار… أحيانا كل هذه الأفكار تحاصر المبدعين يوميا، بل أن أعظم المبدعين غالبا ما ينعتون بالمجانين، لعدم قدرتهم فى كل الأوقات الانتصار على أفكار الشك والصراع الداخلى. لذلك يقولون أن هناك خطا رفيعا جديدا، بين العبقرية والجنون !
المساوئ عديدة أحيانا لا تحصى، لكن إن كنت تعمل كمبدع فى أى مجال، فأخرج كل ذلك من رأسك، كلها أشياء ثانوية، عملك ينحصر فى علاقتك بين رأسك ويديك وأدواتك، لاشيء آخر.
فنحن مثل من يتعلم فن المشي على الحبال، إن نظر لأسفل فقد تركيزه وتوازنه وأصبح فى خطر، والقلق يزيد وزنه جاذبا إياه للأسفل.