سجين سياسي – الحلقة السادسة
كنا نجلس نحن السجناء ... جماعة التهجم سوية ونتشارك نفس الغرف في ابو غريب .... كان النقيب الطيار مهدي من الديوانية تهمته ( انه قال وين الله وال البيت ... ياعلي ... يا علي ... ) خلال هجوم جوي للطائرات الامريكية على قاعدة الامام علي (ع) فاتهم بالطائفية المادة 226 ق ع ع .... والنقيب عبد العظيم في نفس القاعدة من الموصل ( قال خلال الانتفاضة : حقها الناس خلصت گلوبها من الظلم ) فدخل المادة 225 ق ع ع .... والمقدم نبيل من الموصل ( قال خطية صدام ... انقهر عليه ... شلون من يگعد الصبح يباوع وجه سجودة ... چنها قرد ) فدخل 225 ق ع ع .... العميد المهندس رسول من بغداد في التصنيع العسكري خبير منظومات دفاع جوي ( قال الى متى يبقى البعير على التل ) 225 ق ع ع ....ملازم اول حسن من بغداد في التجنيد قال للامر ( سيدي كملنا قوائم جماعة مدينة الثورة ) وعنفه الامر ( گول مدينة صدام ) وهذا حسن راسه يابس ( قال سيدي هي مدينة الثورة ولساننا ماخذ عليها 225 ق ع ع .... ورائد عباس من الحلة سب الرفاق البعثيين ودخلوه بمادة 225 ق ع ع واني ورد بلائحة الاتهام گايل للرفيق ( أز...... عليك وعلى الحزب) عفوا منكم على الكلمة غير اللائقة .....
لا تتعجبوا صدقوني بالله العظيم هذه هي التهم الموجهة لنا والله على ما اقول شهيد .....
مرت الايام بطيئة .... ونحن نعيش بالروتين الممل نفسه ... حاولت ان اشغل نفسي باستطلاع احوال السجناء ومعرفه ماسيهم .... ولكننا لم نكمل الشهر فقد ابلغنا الحراس باننا سنتحول خلال ايام قليلة الى السجن الاساسي ( رقم واحد ) وكانوا قد اتموا بناء جدار عازل بين السجناء وسجن ( الغوغائية ) ..... ونقلونا بباصات نوافذها مغلقة الى الحارثية ....
كانت الاوضاع افضل نوعا ما من ابو غريب حيث الشمس متيسرة هنا .... كذلك الساحات التي نقضي فيها اوقات النهار .... وكان مقسما الى قواطع ... قاطع للضباط القادة وقاطع للضباط الاعوان وقاطع لضباط الصف وقاطع للجنود وقاطع خاص للغوغائيين ..... هكذا كانو يسمون ولم يكن يجرؤ احد على نطق غير هذه التسمية .... وضع السجن لم يكن يقلقنا .... لكن مصيرنا كان مقلقا .... فقد صدر قرار بالغاء محكمة الثورة التي كان من المفروض ان نعرض عليها .... ولم يحدد لها بديل .... كما ان مديرية الامن العسكري التي اوقفنا على ذمتها ارتبطت بجهاز الامن الخاص بدل مديرية الاستخبارات العسكرية العامة .... وهذا وحده سبب لبث الرعب فينا .... كما كان مصير المتهمين بالغوغاء يتحكم به شخص سمين ذو شارب كثيف يدعى ( ابو درع)كان هو المسئول عنهم ..... كان قاطع الضباط الاعوان ( دون رتبة مقدم (ملاصقا لقاطع جماعة الانتفاضة يفصل بيننا جدار ارتفاعه خمسة امتار تقريبا .... وكنا نقضي النهار في الحديقة الامامية حيث يفتح لنا الباب الداخلي وفي المساء يتم غلقه .....في يوم ما جاء نائب الضابط المكلف بقاطعنا وطلب منا الدخول لانه سيغلق الباب واستفسرنا عن السبب
قال : ما ادري اشو عالگة وجماعة الامن الخاص جايين
دخلنا واغلق الباب .... كانت الغرفة التي اشغلها لها هوائيات عالية .... وهي تواجه الساحة التي وقفت فيها سيارات الامن الخاص .... فقمت بقلب السرير وجعلت منه درج وصعدت لارى من الهوائية ماذا يجري ....
كانت هناك شاحنة بيضاء نوع هينو مغطاة (بچادر عسكري ) ووقف ابو درع قبالة باب قاطع جماعة الانتفاضة وبيده قائمة ....... وحوله تحلقت مجموعة من ( المسوخ)
قال : الي اقره اسمة يطلع بسرعة ....
كان احد المسوخ يحمل بيده كيسا كبيرا منتفخا .... وكلما قرأ ابو درع اسم شخص ويحضر .... يقوم المسوخ بضربه وركله بقساوة ويخرج المسخ حامل الكيس قطعة قماشية حمراء يسلمها لهم فيضعونها على رأسه وبها ( شناطة) ويكبلون يديه ويحملونه ويرمون به في داخل الشاحنة ....
وابو درع يصيح : الى جهنم وبئس المصير يا خونة يا كلاب
وبعد ان امتلأت الشاحنة غادرت .... وجاء امر السجن وفتح الباب ودخل علينا مع ( ابو درع ) وبدأ يسألنا فردا فردا
- انت شنو ؟ ليش مسجون ؟ .... وين اهلك ؟
قال : هذوله الخونة راحو للاعدام .... طبعا بس الي ارتكبو جريمة قتل واعتداء ... ومثبته عليهم ... والباقين الي ما عدهم جريمة بس مهوسين ضد الحكومة والريس راح نعفيهم وننطيهم فرصة ثانية .... انتو تحولت قضاياكم يمنا .... لا تديرون بال شغلتكم هينة ... راح احچي ويه الاستاذ ومن يشوف الريس ( الله يحفظه ) مزاجه مرتاح يفاتحه بموضوعكم .... بلچي يعفي عنكم .... عجل شلون ... ول يابه
وغادر .... هو وامر السجن .....
ضحك ملازم اول حسن( المسجون معنا ( كثيرا وقال : عجل شلون ول يابه .... والله الا يعدمكم الريس .... ويخلي طشاركم ماله والي
قلت : حسن ليش ما تسكت وتستر على نفسك وعلينا
قال : والله شوفة ابو درع ما تبشر بخير .....
وضحكنا كثيرا رغم ان موقفنا لا يبشر بالخير ......... وخلال الايام القليلة التالية كانت لازمة ( عجل شلون ول يابة ) لا تفارق افواهنا مع ضحكات عالية .....
صادف الشهر العاشر من سنة 1991 وحدثت امور عديدة منها لجان تفتيش من حقوق الانسان العالمية تفتش سجون النظام للبحث عن السجناء الكويتيين والسجناء السياسيين ...... احضروا لنا باصات منشأة نيسان مدنية ... وصارت حركة قوية بالسجن ..... علسريع كلمن يلم اغراضة .... وجاء امر السجن وسألناه
قال : اجانا امر ندزكم كل واحد للوحدة مالته .... يمكن اكو عفو
استبشرنا بحلول انتهاء المعاناة .... وكانت باصات تقل جماعة الانتفاضة كل حسب محافظته سارت اولا باشراف جماعة الحرس الخاص .... وركبنا باصا متوجها الى الفيلق الخامس في الموصل .... حيث كانت وحدتي قد نقلت اليه .....
وارسلت الى انضباط الموصل في معسكر الغزلاني .... ومن هناك تم تسفيري الى الفيلق .... الى شعبة الامن .... كان معاون مدير الشعبة مقدم ...
قال : اخي عرفت انت ليش جاي هنا ؟
قلت : لا
قال : ستبقى موقوفا في وحدتك لحين ارسالك للمحكمة
وارسلت الى وحدتي وكان باستقبالي الامر ( الرائد احمد من اهالي الحلة ) وكنت قد خدمت معه اثناء الحرب العراقية – الايرانية في البصرة ....
قال : عزيزي .... لا تعتبر نفسك مسجون .... انت الامر .... وكل شي تريده يجرالك ... وما عليك مكتوب بالكتاب ممنوع المواجهة ... راح اخليك تشوف اهلك بالسكته ...
انا هنا كنت محظوظا ... امر الوحدة صديقي ... واحظى باحترامي الكامل نظرا لكوني ضابط ... فكيف بالاخرين ممن لن يحظوا بهكذا فرصة ؟
عندما ينام الجنود وتهدأ الحركة ليلا ... كان الامر يرسلني بسيارته العسكرية الى البيت ... ويعود السائق صباحا بالساعة السادسة قبل بداية الدوام .... كنت اذهب للبيت كل اسبوع مرة ....
ومرت الايام .... وجائني تبليغ بالمحاكمة ... وارسلت الى المحكمة العسكرية الدائمية /23 ... فاحالت اوراق القضية الى مديرية الامن العسكري لكون الموضوع ليس من اختصاصها ...
بعد فترة كم شهر ... تم استدعائي من قبل مديرية الامن العسكري مخفورا وذهبت ... وتم ادخالي الى سجن الشعبة الخامسة بنفس الطريقة الاولى ... مكتوف الايدي ومعصوب العينين .... كانت قد مرت فترة تقارب السنتين على القضية ....
وعند دخولي الى الزنزانة تفاجأت بزملاء لي في سجن رقم واحد ... كان الرائد نعمان من اهالي بغداد موقوفا وفق المادة 225 ق ع ع
قلت : ها نعمان شني السالفة
قال : راح يدزونا للمحكمة الخاصة الاولى والي هي بديل محكمة الثورة
لا ادري لم انتابني شعور بالاسى ... لو انني هربت عندما سنحت لي الفرصة ... ولكن ماذا سيكون موقف رائد احمد صديقي العزيز وهو مسئول عني ... وهل كنت لأبيع صداقتنا وكل ما مر بنا في سبيل ان انجو بنفسي من مصير مجهول ... كلا لقد فعلت الصواب بعدم المساس بصديقي ... وليكن ما يكون ...
خلال الايام القادمة ارسل نعمان الى المحكمة الخاصة ... وعندما عاد كان مذهولا
قال : جماعتنا كلهم موجودين بالمديرية بغير زنزانات ... اليوم شفتهم بالمحكمة
قلت : شنو حكمت عليك المحكمة
قال : تأجلت بعد اسبوع .... بس .... بس ....
قلت : بس شنو ؟ شبيك ؟ احچي
قال : تعرف عميد رسول مهندس الصواريخ
قلت : أي اعرفه شبيه ؟
قال : انحكم اعدام
صعقني الخبر وذهلت .... واحسست ببرودة سرت في جسدي حتى تخشبت اطرافي ولم اعرف ما اقول ....
قال : مقدم نبيل انحكم مؤبد .... ونقيب مهدي انحكم عشرين سنه .... وعبد العظيم نفس الشي ....
بعد اسبوع مر كأنه الدهر بأكمله ذهب نعمان الى المحكمة ... وكنت انتظر عودته بفارغ الصبر .... ولدى عودته كان مذهولا ولم يتكلم رغم محاولاتي معه .... احترمت صمته وسكت منتظرا ان تنجلي الغمامة الحزينة التي علت وجهه عله يتكلم ... كانت افكاري مشوشه واحس في داخلي بنار مستعرة ... ترى هل الحياة رخيصة الى هذا الحد ... تدفع عمرك وحياتك وحياة عائلتك مقابل كلمة .... كلمة نطقت بها في ساعة غضب ... او في لحظة .... لحظة حقيقية اجتاحت نفسك .... فعبرت عما في داخلك ..... وان يكن ... فليس الثمن عادلا ... الا لعنة الله على الظالمين .... لعنة الله على الظالمين ....
قال نعمان وهو ينظر الى عيني مباشرة : اليوم عدموا عميد رسول رميا بالرصاص
وأجهش بالبكاء .... وبكيت معه .... احسست ان هناك ورما كان بداخلي وانفجر ... لم اكن اعلم لماذا .... هل هو الحزن على مصيرنا ... ام على موت عميد رسول ( ابو انمار ) الذي كان ينظر الي كأني ابنه عندما كنا في ابو غريب ..... لقد كان انسانا بكل معنى الكلمة .... كان يضحك بوجهي ويقول انت تذكرني بأبني انمار ... وكلما اسمع واحد يصيحلك يطفر گلبي .... وكنت انا كثيرا ما اعد الشاي ابو الهيل واحضره له واجلس معه لساعات لأخرجه من حالة الحزن التي كانت تلفه ... واليوم ... اليوم اين هو ؟ .... انه بجوار ربه .... يشكو له ما تعرض له من الظلم ... يشكو له مقتله .... يشكو ويشكو لدى رب كريم لا يظلم عنده احد ...
قضينا الليل كله بين بكاء بصمت على عميد رسول ... ودعاء له بحرقة والم .... مرت ببالي كل مأسي الانسانية .... ادركت ان الحسين ما يزال يقتل كل يوم ... ويزيد حيا ويظلم كل يوم ... انها معادلة الخير والشر ... تبقى الى يوم يبعثون ... سيحشر عميد رسول مع الحسين واتباع الحسين ... سيفوز بالنعيم ... وسيصلى قتلته نارا ذات لهب ...
استمرت صرخات الاستغاثة ... والشتائم .. والضرب والتعذيب .. يا الهي ... يا الهي .. الا يكل هؤلاء القوم او يملون ... قبل سنتين تركتهم هكذا ... والى اليوم هم يمارسون نفس النشاط
والامتهان ... من اية طينة جبلوا ؟ ... لكني تذكرت نظريتي السابقة بشأن المسوخ ... لا بد ان يتم توثيقها فقد ثبتت صحتها ولم يعف عليها تقادم الزمن ...
ونحن ماذا دهانا ؟ .... سنظل نبكي كألنساء ؟ .... ماذا لو قتلونا نحن ايضا ؟ ..... لن نكون اول المقتولين ولا اخرهم .... لكني ندمت انني لن اموت لأجل هدف نبيل وعمل عظيم ... سأموت ربما ... لكن لأجل ماذا .... لأجل كلمة قلتها ....
لكن عزائي ان هناك امرأة عجوزا .... ستتذكرني دوما وربما تحكي عن موقفي لجاراتها وبناتها .... انها لا تعرف من انا ولا تعرف اسمي ولا انتمائي .... ستقول واحد ابن حمولة .... الله يستر عليه .... وگفلنا وگفة وخلصنا من المجرمين .... ربما سيتذكرني الاطفال الصغار الثلاثة الذين كانوا برفقتها .... وعندما يكبرون سيحاولون ان يكونوا عراقيين اصلاء .... لا يهمهم ثمن الكلمة الحق والموقف الصادق.... كنت اعزي نفسي ليس الا ... واحسست بطمأنينة وسكنت نفسي ... ورضيت بحكم الله...