سجين سياسي – الحلقة الثالثة
مع بدأ الاحداث ما وراء توقف الهجوم البري على الكويت ووقف اطلاق النار
رأيت العراقيين البسطاء يوفرون الطعام والملابس والمأوى للجنود المنسحبين عشوائيا بكل حب وطيبة شأنهم كما كانوا دوما لم يقترب احد من مؤسسة حكومية خدمية ولا بيت عبادة ولا مدرسة ولا مستشفى بالعكس لقد حافظ منتسبوها والناس عليها ولم يمسها عراقي بسوء
بل ولم يخطر ببال احد انها ممكن ان تتعرض لاي تخريب
سيستطيع الان العراقيون ان يعبروا عما بداخلهم من اراء وطموحات ... وايمانات ... وشعائر حتى ... دون الخوف من السجن والتعذيب ....حتى ان الكثير من الجنود كانت لهم ردود افعال غاضبة عندما وجه احدهم مدفع دبابته الى جدارية ( للريس )ونسفها نسفا بقذيفة ...... في ساحة سعد بالبصرة ... انا نفسي احسست بأن عبئا رفع عن كاهلي بعد ان ايقنت بسقوط الطغيان
.....
.... كان هناك شعور يغمر الناس بالأسى لما حل بنا ... وشعور يغمرهم بالأمل من جانب اخر بأن الطغيان قد أتى على نهايتهلكنه كان املا مشوبا بالخوف والحذر مما تخبئه الايام القادمة....
لم اخفي ما افكر فيه على بعض من زملائي لكنهم قالوا لي اني متشائم ....
كنت افكر ... هل ستكتفي امريكا بهذا الحد ؟ الم تفكر فيما سيفعله الشعب العراقي في الدفاع عن بلده ؟ بدون صدام .. بل بالحب الكبير لارضهم وترابهم وتاريخهم ومقدساتهم
كنت اتوقع ان تسقط الحكومة وتبدأ مرحلة من المقاومة ضد الامريكان يقوم بها الشعب ... والشعب وحده
...... على صرير المزلاج يشق السكون ..... صاح صوت عال : دير وجهك على الحايط لا تباوع .... ثم اغلق ثانية .... التفت كانت هناك ثلاث صمونات اكبر قليلا من حجم البيضة قد وضعت في الاناء ..... تأملتها ولم استطع ان اميز من ماذا صنعت ....
فتح الباب مرة اخرى ..... وكان يقف احدهم وصرخ : باوع علگاع لا تباوع بوجهي ..... تعال اطلع للمغاسل .... بسرعه ....
وجهني نحو الممر يمينا وفي نهايته استدرت .... كانت هناك بابين يمينا ويسارا وفي الوسط باب حديدي بمزالج كبيرة .... وكان البابان الصغيران يؤديان الى مجموعتين من المغاسل والمرافق الصحية .....
قال : دقيقة وحدة بس .... استعجل
واعادني الى الغرفة او الزنزانه مرة اخرى .....ومع هذا لم استطع ان ارى نور الشمس خلال رحلتي القصيرة هذه ....
استلقيت على الارض ورحت انظر الى السقف .... الى المصباح العنيد الذي يأبى ان يرتاح او ينطفئ ....
قرأت في مرة ما بمجلة علمية ان بعض العلماء قاموا بالتلاعب بجينات بعض الحيوانات فانتجت مسوخا لا يعرف لها هوية .... وحذر بعضهم من خطورة الامر ... كنت ابحث عن اسم المجلة .... ولم اتذكره ..... لقد خطر الخبر ببالي عندما رأيت نماذج الحراس والعاملين في هذه المؤسسة ....
انها مسوخ انتجها مختبر صدام حسين .... بعد ان تلاعب بتركيبة الشعب العراقي .... بجيناته الاجتماعية ..... لقد احضر الجهلة وولاهم مواقع سلطة وتسلط .... لقد جعل الفلاح يترك مسحاته ويبدلها ببندقية ..... او مسدس وبوت ومثلث احمر ....
ان المسوخ ليس لها ذنب ..... فهي لم تختر ان تكون مسوخا ...
لقد اراد الرجل ان تسود ثقافة الجهل والجهلاء ليستطيع التحكم بالناس .... نعم .... الجهل ثقافة خاصة .... والجاهل لا يتمتع بالعقل ..... ينفذ فقط ولا يرى الامور الا بعين سيده ..... وولي نعمته الذي انتشله من العراء والحفاء والفاقة .... والبسه نعالا واعطاه سلاحا وملأ جيوبه بالمال .... ومسخه .... الذنب ليس ذنب المسوخ ....أذن...
لماذا يضعونني وحيدا في الزنزانة ؟ ترى هل لديهم زنزانات تكفي لكل الناس ؟
طبعا لأن الشعب اضحى العدو رقم واحد لهم بعد الاحداث الاخيرة ....
مرت الايام لا استطيع ان اعدها ولا اعرف الليل من النهار .... والاحداث نفسها ... ضجيج وصراخ واستغاثات .... ثم هدوء .... رحلتان يوميا الى المغاسل ....
لكن لا احد يقول لي شيئا ....
بدأ اليأس يدب في نفسي ..... والقلق يسيطر على اعصابي .....
لقد تعدى الوقت شهرا ربما اكثر بقليل .... او بكثير ..... لا ادري .....
عادت اصوات الصراخ مجددا ... وانا مستلق استمع كما كل يوم الى سمفونية العذاب .... الى معزوفة امتهان الانسان ....
فتح المزلاج بقوة وصرخ احدهم قبل فتح الباب .... علحايط .....
(لا بأس انه مسخ مسكين لا ذنب له)
قيد يدي وعصب عيناي .... وسحبني بقوة الى الخارج ..... اذن انها المواجهه ....
(رب اشرح لي صدري ويسر لي امري واحلل عقدة من لساني يفقه قولي .... يفقه قولي )... نعم يجب ان يفقه قولي .... لن يهزموني اليوم
سرت في الممر المعاكس للممر الاول واوقفني وفتح بابا لم يبد حديديا .... وسمعت صوت حذاءه يطرق الارض ويقول : جبته سيدي....
وحشرني في الغرفة حشرا .... ثم اجلسني على كرسي حديدي ........ وساد الصمت .... كنت اسمع فقط دقات قلبي المتسارعة ..... لن اقول انني لست خائفا ... كلا كنت خائفا جدا ..... كنت اخاف من نفسي ان تضعف امام المسوخ ... كنت اخاف الانهيار .....
مرت دقائق تتلوها دقائق خلتها دهرا ..... سمعت صوت احدهم يتنحنح بهدوء وصوت اوراق تتصفح ....
جائني صوته هادئا : انت فلان ؟
قلت : نعم
قال : انت وفق كتاب المكتب العسكري للحزب المرقم كذا والمؤرخ كذا .... متهم بالتهجم على الحزب والثورة والتعاطف مع الغوغائيين .... فماذا تقول ؟
قلت : قضيتي ليست كما مكتوب ولـــ..............
فجأة ثار وصاح:ليش المكتب العسكري جاي يچذب ولك ؟.... علگوه ....
وانقض علي مسخان وربطا يدي بسلسلة ما وابتعدوا عني .....
صاح : ارفعوه
وسمعت صوت سلسلة تسحب وتطرقع وارتفعت يداي من خلف ظهري الى الاعلى حتى سحبتني .... المتني كتفاي واحسست ان مفاصلها ستنكسر ..... سحبني احد المسوخ من ساقي بعد ان اصبحت معلقا بالهواء مما زاد الامي وانتقل الالم الى ظهري ...... بقيت دقائق قليلة ثم انزلوني .....
حاولت تحريك كتفاي من شدة الالم لكنها اصيبت بالخدر .... وجائني صوته
قائلا : اعترف لا تخليني استخدم اساليب اخرى
قلت : هل اعترف مباشرة بدون التفاصيل
صرخ ثانية : علگوه ...
كان الالم اخف هذه المرة نظرا للخدر السابق .... لكن هذه المرة ازداد تصميمي واحسست ان شيئا ما في داخلي يدفعني للصمود .... لن ادعي البطولة .... كلا فأنا انسان .... وفي النهاية لدي حد للاحتمال .... هذه المرة طالت فترة بقائي معلقا في الهواء .... ووصل الالم الى ساقي ....
كلما تململت يتحرك الالم بين اكتافي وظهري .... واذا لم اتحرك انتشر الى اسفل ساقي .... حتى التنفس اصبح مؤلما ....
صاح : نزلوه ... كافي
سقطت على الارض اكاد افقد وعيي .... وعزائي اني لم اطلق أي صرخة او تنهيدة .....
قال : اعترف احسنلك
قلت : غير احچي التفاصيل
قال : ولك انوب ما تندگ الا بجماعة المكتب العسكري .... لعد لو چانت رتبتك چبيرة ويامن راح تندگ ؟
قلت : التهجم ما انكره ....
قال : أي عفية اعترف ولا تطولها على روحك
قلت : لكن الجزء الاخر من التهمة باطل
فتحوا السلسلة التي تربط يدي .... واجلسوني على الكرسي .... وانا لا اقوى على الحركة ... احس كأن شللا اصاب جسدي
قال : اتركونا
سمعت صوت اقدام تغادر ويغلق باب الغرفة ......... وهنا
قال : شيل النظارة عن عيونك ولا تلتفت عليه ( كان يقف خلفي)
رفعت يدي بجهد كبير وازحت النظارة المطاطية عن عيوني .... ورأيت امامي منضدة وورائها كرسي ... والكثير من الادوات الغريبة .... وكانت على الارض الكثير من قطرات الدماء المتخثرة ....
قال : انظر حولك .... هل تريد ان استخدم معك هذه الادوات لانتزع اعترافك ؟ ....
قلت : والله الحقيقة مثل ما گتلك
قال : هل تعرف أن عقوبة التعاطف مع الغوغائيين .... هي الاعدام ؟
واستطرد : انت ضابط وبعدك شباب ليش ورطت نفسك ويه الغوغائية ؟
قلت : كانوا مجرد اطفال ونساء
قال : الكتاب لا يذكر هذا ... ليش ما تعترف ... انت ويه حزب الدعوه لو جماعة بدر ؟
قلت : انا وين وهم وين ؟
قال : مواني دا اكول .. شوف راح اطول خلگ وياك .... وراح اسمع قصتك ....
احسست انه متعاطف معي بشكل ما ..او ربما تهيأ لي ذلك .. وبدأت اقص عليه القصة كما رويتها لكم ...
قال : زين اذا كانوا بس نسوان وجهال مثل ما تگول ..... شنو الاثبات ؟
قلت : الله الشاهد
قال : ونعم بالله ونعم بالله ... زين منو چان وياكم بالحادثة من جماعتك ؟
قلت : ثلاثة جنود
قال : انطيني اسمائهم ..... وامليت عليه الاسماء واسم الوحدة وكتبها
قال : خلي النظارة على عيونك .... فوضعتها ..... ثم سحبوني الى الزنزانة نفسها والقوني فيها .... تنفست الصعداء ... وارتميت على الارض ورحت في نوم عميق .... وعندما استيقظت على صوت المزلاج للذهاب في رحلة المغاسل .... كان جسدي يؤلمني بشدة .... ولم استطع النهوض الا بصعوبة بالغة .....
ضحك المسخ قائلا : ها لازم الجماعة علگوك
هززت رأسي مؤيدا ... وعندما عدت واعطوني وجبة من الطعام .... انتبهت الى ان الهدوء قد عم المكان .... كنت احسب النهار من نوع الطعام والليل كذلك ....
قضيت اياما اخرى ما يقارب العشرين ولا احد يجئ الي او يقول شيئا ...
وفجأة فتح المزلاج على غير موعد ووثقوني وسحبوني الى الخارج وقادوني في طريق الممر الاخر لكن استدرنا الى اليمين هذه المرة وادخلوني غرفة اخرى ...
صرخ بي صوت ليس للمحقق الاول : اعترف لا انعل والديك
سحبت نفسا عميقا .... وتذكرت المسوخ ... المساكين .... وقبل ان اجيب كنت معلقا في الهواء وكانت هناك عصي تنزل بالضرب المبرح على رجلي الاثنتان بدون رحمة .... والله المتني جدا لكن تفكيري انحصر في عدم اصدار صرخة او طلب رحمة .... هذا ما لديهم ... فماذا عساهم يفعلون ؟
سرى الألم وسخونة في ساقي ولم اعد احس بوقع العصي اللاذع عليهما .... وفجأة توقفوا ... وانزلوني والقوني على الارض ....
قال المسخ : ولك انت من جماعة الدعوه لو منظمة بدر ....
قلت : لا من ذوله ولا من ذوله
وفجأة احسست بالماء ينصب على جسدي من سطل كبير ومعه ضربات من العصي اذكر ان شيئا ما ارتطم بمؤخرة رأسي ولم اعد اعي شيئا .....
لماذا يصر هذا المسخ على انتمائي لهؤلاء ؟
رأيت جاسم الكوتاوي يقول : ...تره احنه ما ننساك ....
وكانت هناك غيمة بيضاء جميلة .... لكن نفسي يضيق ويضيق ... واحسست اني اختنق .... انتفضت وانقلبت على ظهري .... كنت في الزنزانة ... ملقى على الارض .... حدقت في المصباح اللعين .... واستغرقت دقائق لأعي اين انا ثم تذكرت ( الحفلة ) حفلة المسوخ ... كانت الام فظيعة تغزو جسدي في كل ناحية منه .... حاولت النهوض لكنني لم اقو .... وعدت للنوم او الاغماء ثانية ...