سجين سياسي – الحلقة الثانية
صحوت على صوت مزلاج الباب يفتح ...... فتحت عيوني ونظرت .... كنت ملقى على الارض مكبا على وجهي ومستغرق في النوم لكثرة ما عانيت ... من التعب الشديد
رفعت رأسي ونظرت ناحية الباب ........ كان قد اغلق
وتركوا لي اناء فيه بعض الطعام .......
بدأت استوعب حالتي .... انا فعلا في سجن ... لقد افقت على الحقيقة
لكن لماذا ؟
نسيت وسط ما يحدث اني لم اتناول شيئا منذ ليلة امس ........ سحبت الاناء ونظرت فيه ..... كان فيه طعام هزيل لا يسد جوعه طفل .........
لكني تناولت بعضا منه على مضض ..... مع اني لم اترفع على طعام ابدا منذ ولدتني امي وعلمتني ان احترم نعمة الله مهما كانت بسيطة وحتى لو لم تعجبني
جلست وقرأت ما احفظ من القران باحثا عن هدوء لنفسي ........
الا بذكر الله تطمئن القلوب ....
اللهم اني لا اسألك رد القضاء ولكني اسألك اللطف فيه .......
يجب ان اتماسك فأنا رضيت بالواقع وبدأ عقلي يعمل بكفاءة اعلى من النهار الذي مر بي ........ ترى كم الساعة الان ؟ ومنذ متى انا نائم ؟ وهل هو الليل ام النهار ؟
ولم هذا المكان هادئ ؟ لا اصوات او حركة ؟ الا وقع بعض الاقدام بين فترة واخرى .............
استغرقت فترة لا اعرف كم من الوقت غارقا في الذكريات التي غزت عقلي مثل فايروسات مقتحمة لا ترحم الجسد وتنهش فيه نهشا .......
ربما جرب بعضكم هذا الشعور القاسي عندما نسقط في بئر عميق من المشاعر المتناقضة والقاسية ..... وتصفعنا بين حين وحين الحقيقة
.........
وفي غمرة غرقي فيما انا فيه ......... دبت فجأة حركة ما في الممرات ....اصوات اقدام عديدة مسرعه جيئة وذهابا وهمهمات غير مفهومة ......
وصرخات تعلو فجأة .... تحرك .... امش للامام .... يا ابن الـ( ..... ) .... وسيل من الشتائم البذيئة ... خمنت انها موجهة لمتهمين جدد قد تم احضارهم .... لكن بعد دقائق عديدة مرت كأنها دهر ... تعالت اصوات تطلب الرحمة .... وصرخات الالم ... والتوسل بحق كل المقدسات .... وسط اصوات غاضبة تطالب بالاعتراف وشتائم .....
كانت اصوات تثير الرعب والقشعريرة في البدن .....
الان قد اصبح لدي تصور حقيقي ... وصدقت كل ما كان يقال عن السجون والتعذيب ... فأنا كنت اسمع لكنني لم اكن اعرف مدى صحة ما يقال ... كنت اعتقد ان هناك مبالغات .... لكن ها انا اسمع الحقيقة بنفسي .... وربما سأجربها بعد قليل عمليا ....
لابد ان اتمالك نفسي ...
استمرت الصرخات تنطلق مدوية .... واصوات الاقدام تذهب وتجئ .... وصرير المزاليج بين الفينة والاخرى .... والسباب والشتائم ....
كان احدهم يستغيث بالله وبرسوله ويتوسل انه برئ ويقسم ... ربما كان في قلبه يتوسل الله بجاه الائمة ال بيت الرسول عليهم السلام ويصيح على الكاظم الذي لا يبعد ضريحه الا مئات الامتار عنا... ولا يستطيع ان يجهر بذلك لانها ستضيف جريمة اخرى الى الجريمة الاولى التي ربما هو على الاغلب برئ منها ....
كم هو صعب ان تبوح بايماناتك فتوصم بالجريمة الكبرى ... لقد اصبحت عندي قناعة مكملة لما اقتنعت به في الاحداث الاخيرة من اننا دولة طائفية ....
رغم قناعاتي التامة ان العراقيين لم يكونوا طائفيين .... لكن على الاقل عرفت يقينا ان التمييز الطائفي وصل الى حد خطير ....
لقد رأيته في الخارج عندما يقصى من لم يكن له الولاء المطلق للصنم من دائرة السلطة او امتيازات رجالها واتباعها .... ان كان من هذا المذهب او ذاك او من هذه القومية او تلك ...
اعتقدت ان المسألة لا تتعلق بايماناتك الروحية والعقائدية بقدر ما تتعلق بولائك المطلق وايمانك ... بالحزب دينا وبالصنم اله لك ....
اعترفت لنفسي اخيرا بالجريمة التي ارتكبتها والتي انا بصدد مواجهة تداعياتها .... لقد واجهت مفرزة من البعثيين تضع حاجزا على الطريق ورأيتهم يضربون النساء والاطفال باعقاب البنادق والاحذية .... لم يكن هناك رجال او شبان ... فقط النساء والاطفال ...
اوقفت السيارة العسكرية التي كنت استقلها وجنودي .... وتوجهت الى امر المفرزة قائلا : اخي هذول نسوان وجهال ليش خطية تضربهم .
قال : هذول كلاب ولد كلب كلهم مخربين
قلت : دعهم يذهبون وسويهه لله
قال : مستحيل الا أنعل والديهم
كانت هناك امرأة كبيرة في العمر تمسك عكازا بيدها وبدا انها عاجزة , امسكت بملابسي من الخلف وصاحت : ابني دخيل الله ودخيلك لا تعوفنا
حينها احسست ان الدم يصعد الى رأسي بتدفق عجيب يوازي يأس المرأة العجوز وخوفها .... لقد اطلقت العجوز رصاصة الرحمة على ايماني بالواقع وحقيقة ما يجري ..... العملية فيها نوع من الابهام .... انا لا انتمي للمرأة والرجل هذا في شئ وفق الاعراف المقيتة السائدة حينها ... ربما يجمعني معه اني رجل دولة مثله ... لكنني تذكرت انسانيتي اولا وعراقيتي ثانيا .... وصدرت الاوامر اللاارادية من اعماقي ... الامر واضح وصريح ( لا تترك العجوز وهي التي نخت فيك كل مبدأ وقيمة شريفه ... انها وراء ظهرك وعيونها تبحث في يأس وتتسائل مع نفسها:هل اسمعت و ناديت حيا ام لا حياة لمن انادي........
اجتاحني الزلزال المدمر الذي فجر الحمم بداخلي ....... فأنا تربيت مثل كل العراقيين على كل الطيب والنخوة والشهامة واغاثة الملهوف .... فهل انا في هذه اللحظة عراقي ؟ ام ماذا ؟
جاءني الجواب القاطع من الاعماق ووصل الى رأسي وصك أذني ..... انت عراقي .... ابن دجلة والفرات ... انت ابن لهذه المرأة الكبيرة العاجزة التي نختك ...
مرت لحظات من الصمت ... وكان الجميع ينظر الي .... ستحسم كلمة مني الموقف كله ... الخيار بيدي ... اما اكون او لا اكون ....
فلتذهب كل الاعتبارات الى الجحيم ... لن اخيب املك ايتها المرأة العراقية ....
قلت للرجل : دعهم يذهبون
قال : ما لك علاقة لا تتدخل بشغل الحزب
قلت : كافي والله ما احد دمر العراق غيركم
قال : انت گد كلامك
قلت : على الاقل واجه رجالا وليس نساء .... اين كنت عندما حصل الهجوم الكبير على البلد .... عندما واجهنا كل الترسانة الامريكية ؟
قال : كل واحد بواجبه
قلت : وواجبك ضرب النساء العراقيات ؟
لم يستطع جوابا ... لكنه انتفخ
التفت الى النساء وقلت : اذهبوا
سحب الرجل مسدسه وقال : بس يتحركون ارميهم
كان فوق سيارتي العسكرية احد الجنود ( اسمه جاسم من اهالي الكوت ... والاخر خضر من اهل الموصل ... والثالث كريم من اهل الحلة)
قلت : جاسمدير البي كي سي واي واحد منهم يرفع سلاحه على النسوان ارميه فورا ....
مرت لحظات كان جنودي يوجهون سلاحهم الى المفرزة وسط الذهول وصمت الجميع .... واحسست بيدي المرأة العجوز تتشبث اكثر من قبل وتسحبني ....
كنت مصمما على قتل هؤلاء الحثالة بمجرد حركة بسيطة تمنيت ان يأتي بها احدهم ... لكن لم تكن لديهم الجرأة والشجاعة عندما رأو الاصرار في عيني وعيون جنودي .... خفضوا اسلحتهم واستسلموا ....
تنفست الصعداء والتفت الى النساء وقلت : اذهبوا
هرعت النسوة واطفالهن بسرعة واختفوا في الازقة المجاورة ..... وعندما اطمأن قلبي انهن بأمان انسحبت بهدوء متوجها الى سيارتي فقال امر المفرزة : الثمن الذي ستدفعه سيكون باهضا ....
قلت : المهم ضميري ارتاح ... و خـ.... عليك وعلى الحزب
هذه الحادثة .... والمرأة العجوز غيرت لي مفاهيمي كلها .... شعرت اني لم اعد انا ... لقد احسست انني انسان جديد ... على الاقل انا راض عن نفسي ...
........... دوت في الممر صرخة كبيرة .... انه صوت امرأة تصرخ ... وتصيح بألم ...
ما هذا ؟ النساء ايضا يسجن ويعذبن ؟
لم اكن اتخيل هذا .... لكنني بدأت اعي الكثير من الأمور منذ فترة وجيزة ....
استمرت الصرخات ... والاستغاثات ... تطرق اذاني وعقلي ... وانا اترقب ... متى سيحين دوري ....
وفجأة ساد السكون .... وعاد الهدوء .... ترى كم ساعة استغرق الامر ؟
لا ادري فلم اكن استطيع ان احسب الزمن .... ربما مرت ساعات ... ربما ايام ...
لا ادري ............