الإمام الرضا "عليه السلام"ذروة الكمال الإنساني
إن الدارس لتاريخ أئمة أهل البيت(ع) ليشعر ان هناك عناية إلهية أحاطت بتلك الشخصيات العظيمة جعلتهم في مقام الذروة من الكمال البشري اذ شكل كل واحد منهم(ع) قاعدة للفكر الاسلامي ومنطلقا غنيا للعلوم المختلفة ومفتاحاً لكنوزها ومنهلاً لطلابها فأجلوا غوامض العلوم وبينوا مناهج الاحكام وأسسوا دعائم الفكر فكانوا اقطاب للدين وفيضاً للعطاء إن الظاهرة التي امتاز بها أئمة أهل البيت(ع) ان لهم الحق على الاخرين في الاخذ منهم وليس لاحد من الناس عليهم حق الاخذ منه وان المتتبع لتاريخهم ليجد انهم لم يأخذوا أو يتتلمذوا على يد أحد سوى آبائهم وقد شهد لهم بذلك حتى خصومهم، وتاريخهم حافل بتميزهم الفريد الذي لا يشاركهم فيه أحد من علماء الامة وحكمائها في العلم والحكمة والفكر.
ولم يعهد عن أي واحد منهم(ع)عي أو تلكؤ في الإجابة عن أي سؤال ورد عليه في مختلف العلوم والقضايا رغم ان البعض منهم(ع) كان في سن لا تسمح له الاجابة عادة ولا ندعي هنا الغلو فيهم وانهم يعلمون الغيب كما يقول البعض عنا بل عقيدتنا فيهم انهم مبلغون عن صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله) ما خفي على الامة من أسرار الرسالة وكوامنها والحافظون لكليات التشريع والعارفون بموارد تطبيقاته وهذا ما أخذناه من وصيه جدهم الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله) في الحديث الذي روي عن الخاص والعام (أني أوشك أن أدعى فاجيب, واني تارك فيكم الثقلين, كتاب الله وعترتي, كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض, وعترتي أهل بيتي, وان اللطيف الخبير, اخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض, فانظروا كيف تخلفوني فيهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تعلموهم فأنهم اعلم منكم).
والامام منهم(ع) منصوص عليه من الله سبحانه وتعالى بالامامة ويكون تعريفه الى الامة بواسطة الامام الذي قبله فنرى كل امام عندما يحس بدنو اجله يكثر من الوصايا بالامام الذي بعده لكي لا تختلف الامة في امامها ولكن على الرغم من الوصايا الكثيرة من الأئمة(ع) بتعيين خلفائهم في منصب الامامة.
من هذه الفرق الضالة المضلة فرقة الواقفية، التي ظهرت بعد وفاة الامام موسى بن جعفر الكاظم(ع) مباشرة والتي ادعت ان الامام الكاظم لم يمت بل رفع الى السماء كما رفع عيسى بن مريم وانه المهدي ولا إمام بعده وقد روج لهذه الفكرة التي احدثت انقساماً كبيراً وخلافاً حاداً بين الشيعة وكثر اصحابها ولم تقتصر ضلالتهم على انفسهم بل عملوا جاهدين على حرف الشيعة عن الامام الرضا(ع) ومذهبه الحق.
لم تكن هذه الانطلاقة الشاذة الجديدة ناشئة عن اعتقاد واقتناع من قبل اصحابها بواقعيتها بل هي رغبات ماديه وعوامل دنيوية اثرت في نفوسهم فقادتهم الى هذه الفكرة المنحرفة اذ ان مبتدعي هذه الفرقة هم ثلاثة من اصحاب الامام الكاظم، وهم علي بن ابي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي وقد شهد هؤلاء الثلاثة تشييع الامام (ع) وتغسيله ودفنه وكانوا من خزنه الاموال التي تجبى للامام من شيعته فكان عند أحدهم سبعون ألف دينار وعند كل من الاثنين الاخرين ثلاثون ألف دينار فنازعتهم انفسهم في تسليم هذه الاموال للامام الرضا(ع) بعد وفاة الامام الكاظم(ع) وتحيلوا لذلك بانكار موت الامام الكاظم(ع) وانه حي يرزق وانهم لن يسلموا الاموال حتى يرجع فيسلوها له.
وقد استفحل امر هذه الفرقة وكثر اتباعها فغرروا بالبسطاء وألقوا عليهم الشُبه والتشكيكات المريبة فأذعنوا لهم ودانوا بباطلهم حتى احدثت هذه الفرقة شرخاً كبيراً في الصف الشيعي فكانت هذه الفرقة هي اول ما واجه الامام الرضا(ع) في امامته من المحن والبلايا.
كانت هذه الفترة القاسية جداً على الامام الرضا(ع) عمقت في المأساة فإضافة الى الالم الذي كان يعتصره لسنوات طوال وهو بعيد عن ابيه(ع) الذي كان تلك المدة الطويلة في سجن هارون ولم يفرج عنه الا وهو ميت كان يعاني من جهة من محاولات جلاوزة السلطة للقضاء عليه ومن جهة اخرى تلك الفتنة التي اثارها بعض اصحاب ابيه وبدؤا يحرفون الناس عن الصراط القويم وكانت الخلافات والمنازعات بين اصحاب هذه الفرقة واصحاب الامام المخلصين على أشدها وأول عمل قام به الامام الرضا(ع) في امامته هو درأ الخطر عن المذهب الحق ووأد الفتنة فدحض اباطيل الواقفية وكشف دخائل نفوسهم وتعريتهم امام الملأ لئلا تنخدع بهم النفوس الضعيفة والعقول المريضة فاستطاع ان يرجع كثيرا من الناس الى رشدهم وهدايتهم الى الطرق القويم.
***الامام الرضا(ع) ذروة الكمال الاخلاقي والانساني
كانت حياة الامام الرضا(ع) مدرسة تفيض بالعطاء وتشع بالعلم والادب وشخصيته قدوة في الاخلاق الفاضلة فهو اضافة الى ما تمتع به من علم وفقه امتاز بادبه العالي وخلقه الرفيع ولا يسعنا هنا الحديث عنه(ع) مفصلاً ولكن نورد باقة من صفاته الكريمة على لسان أحد معاصريه فعن ابراهيم بن العباس الصولي انه قال (ما رأيت ابا الحسن الرضا(ع) جفا احداً بكلامه قط, وما رأيته قطع على احد كلامه قط حتى يفرغ منه وما رد احداً عن حاجة يقدر عليها وما مد رجليه بين جليس له قط ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط ولا رأيته تفل قط ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط بل كان ضحكه التبسم وكان اذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس –الى ان قال- فمن زعم انه رأى مثله في فضله فلا تصدوه)
ويكفينا هذا الحديث للدلالة على شخصية الامام ومقوماته الاخلاقية التي انسجمت تماماًَ مع رسالته تصدقوه فجسدها عملاً رسالياً تسلق به قمة الكمال الانساني وأرتفع الى مشارف العظمة الذاتية فحينما يجلس الامام(ع) الى مائدته ومن حوله مماليكه وبوابه وسائس دوابه ليس إلا ليعطي الامة درساً في الانسانية الفاضلة التي تؤمن بكرامة الانسان وليعرض نظرية الاسلام عملياً في طبيعة السلوك الذي يجب ان يعتمده الانسان مهما كان مركزه مع اخيه الانسان فرفعه المقام وسمو المركز لا يستدعيان ان يحتقر الانسان من دونه في ذلك أو يشعره بوضاعة شخصيته فتتسع الهوة بين افراد الامة ويتوزع كيانها في فصائل متنافرة يمزقها الحقد وتنهشها البغضاء فهذه النماذج العملية من اخلاقه وانسانيته(ع) والتي استمدها ميراثاً نقياً يعبق بالرحمة من جده الرسول الاعظم(ص) وآبائه الطاهرين(ع) هي التي تستمد الامم قوتها منها وتبني عليها دعائم مجدها وتضمن بها ديمومتها.
محمد طاهر محمد
المصدر