أصل التزكية والزكاة – لغوياً – يدور حول عدة معاني، هي: الطهارة، والنماء والزيادة والبركة، والمَدح، والصلاح، وكلها قد أستُعمل في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.

فأما مدح الإنسان نفسه فقد ذمه الله تعالى، وأما باقي المعاني فهي داخلة في معنى التزكية المطلوبة شرعاً، والتي نتحدث عنها، وهي تتضمن جانبين: جانب التطهير، وجانب النماء والزيادة، وكلاهما عامل في صلاح الإنسان.



ولا يخرج معنى التزكية اصطلاحاً عن معناه اللغوي، فهي: طهارة الإنسان من السوء، والنماء والارتقاء في الخير. وإنما يوصف الإنسان بالصلاح بقدر ما يكون عنده من الطهارة والارتقاء.


وهذا التعريف هو وصف لحقيقة التزكية من حيث هي، وتطلق التزكية ويراد بها عملية التزكية وفعل التزكية، فتكون التزكية عندئذ بمعنى: التطهير من السوء والترقية في الخير، فبقدر ما يَطْهُرُ الإنسان ويرتقي؛ يكون مُزكىً أو زكيّاً.



وطهارة الإنسان من السوء تشمل: طهارة عمله وقوله، وظاهره وباطنه، ونفسه وقلبه وجسده، واعتقاداته ونياته وعباداته ومعاملاته وأخلاقه وأحواله، وتشمل كذلك الفرد والمجتمع، وترقية الإنسان في الخير.

وحيثما ذكرت التزكية في القرآن الكريم فهي شاملة لهذين المعنيين: التطهير والترقية، كما بيّن ذلك كثير من المفسّرين.




وإذا أراد الإنسان أن يُطهّر نفسه؛ فإنّه يُطهرها من: الكفر والشرك والنفاق والرياء، ومن أمراض القلوب، ومن المعصية كبيرها وصغيرها، ومن البدع والشبهات والشهوات، ومن الأخلاق المذمومة.


وإذا أراد الإنسان أن يرقّي نفسه؛ فإنّه يرقيها بالإيمان واليقين، وبالسريرة الصادقة، وبالأعمال الصالحة فرائضها ونوافلها، وبالأخلاق الحميدة والمعاملات المشروعة.



وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتعطي الإنسان الخير كله في الدنيا والآخرة، فبيّن الله للعبد العلم الصحيح، وبيّن العمل المطلوب، وهيّأ وسائل ذلك، وبعث الرسل.




فأعطى دينُنا كلَّ الاهتمام لِتطهير الإنسان من سيِّئاته وإصلاحه وترقيته، وقد سمّى الله تعالى حال الإنسان بهذا الاعتبار تزكيةً،

فقال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران/ 164).




فكما جاء النبي (ص) ليتلوَ علينا ما أوحى الله إليه، ويعلمَنا ما في القرآن والسنة من علم وحكمة وأحكام؛ فقد جعل الله من وظيفته تزكية النفوس.


وبيّن الله تعالى أن فلاح الإنسان ونجاته متوقفة على التزكية، فقال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى/ 14)، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10)، (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طه/ 76).




ومما ينبغي أن تحدثه التزكية في المسلم، أن تحول الاعتقاد من كونه اعتقاداً في الذهن، فحسب، إلى عمل يعيشه، والتزكية هي التي تنقل علم الاعتقاد، ومعرفة الله، والعلم بالفقه والأحكام إلى واقع، من خلال تطهير النفس، وتنقيتها، وجعلها قابلة للعمل بما يقتضيه العلم،

فكم من إنسان عالم بالعقيدة يعلم بأنّ الله يسمع ويبصر؛ وهو يعصيه. وكم من إنسان يعلم أنّ الصلاة فريضة وهو لا يصليها، ماذا أفاده فقهه وعلمه؟ فلابدّ من تطهير للنفس لتصل إلى الانتفاع من العقيدة والفقه.




وإذا زكّى الإنسان نفسه صار إنساناً طيباً، صالحاً، جميل الأخلاق، جميل الحال، صالحاً بين يدي الله، محبوباً عند الناس، مرتاح الضمير، سليم التفكير، سعيداً في دنياه وأخراه.

ومما يدل على الحالة النفسية الطيبة التي يتمتع بها من زكّى نفسه بالإيمان والعمل الصالح قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (محمد/ 2)،

كما يدل على سعادته في حياته قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97)، ومما يدل على حب الناس له ما بيّنه النبي (ص) أنّ الله إذا أحب عبداً وضع له القبول في الأرض.



إنّ التزكية مطلوبة من كل فرد في المجتمع المسلم، ولا يمكن أن ترى الأثر العظيم لتزكية النفس حتى تظهر في المجتمع كله، فتظهر حقيقة العبودية فيه لله، وحقيقة الإستقامة، وحقيقة الخلق الراقي والأدب الرفيع، وحسن المعاملة، وغير ذلك.



والتزكية إذا وجدت في المجتمع المسلم؛ فإنّها وحدها من أعظم وسائل الدعوة إلى دين الله، فإنّ الناس إذا رأوا جمال خلق المسلم وحسن معاملته وأدبه وطيب كلامه؛ ينجذبون إليه ويميلون إلى دينه الذي تربى عليه، وأوصله إلى هذا الجمال والرُّقيّ،


فالإسلام دخل كثيراً من البلاد – كشرق آسيا وبعض إفريقيا – بأخلاق تُجّار المسلمين وحسن معاملتهم وصدقهم. ولا يمكن أن تقوم حضارة راقية إلا على معاملة طيبة وأخلاق راقية، وكل حضارة تنقصها الأخلاق والمعاملات الصالحة فهي مهددة بالزوال. وأذاها لشعوب الأرض وإفسادها وتهديدها بالدمار، سيكون أكبر من الخير الذي تقدمه أو تُسعد به البشرية.




المصدر