في حقيقة الأمر يحتاج تكوين مجتمع المعرفة إلى جملة من المطالب من بينها تبني الحكومة والنخب المثقفة لهذا المطلب، واتفاق الطرفين على أهمية نمو الوعي الاجتماعي،

وحدوث طفرة معرفية في الحياة الاجتماعية تدفع الأفراد لاتخاذ مواقف إيجابية في مختلف القضايا، وتتيح لكل واحد منهم القدرة على المحافظة على مكتسباته الشخصية، وعلى نجاحاته السابقة في ظل الرؤية النافذة،

والأفق الممتد الذي يرنو إليه والذي تهيّأ له من خلال النمو المستمر، والتواصل الحقيقي مع المعطيات المعرفية يوماً بعد يوم، ومرحلة تلو مرحلة.



ومن المحزن حقاً أن يظن بعض الناس أن تكوين مجتمع المعرفة هو مسألة ترفية أكثر من كونه قضية أُمّة بأكملها،

إما أن تأخذ بأسباب النهضة الحضارية فتحسّن قيادة ذاتها، وتعيد تقديم نفسها للعالم بصورة تليق بها،

وإما أن تفقد القدرة على الالتزام بشروط النهوض الحضاري، وحينها تغرق في شبر ماء، وتصبح صيداً سهلاً لكلّ صياد محترف، وأخشى أن أقول هاوٍ يضرب في كل اتجاه، فإذا ما وقعنا في مرمى صيده لم نُبْد أيّة مقاومة،

واستسلمنا لقدرنا الذي اخترناه بأنفسنا في فترة غاب فيها الضمير، ونام فيها العقل، واختلط فيها الأمور على نحو مؤسف.



وإذا كان احتراف النجاح هو النتيجة الحتمية للجهود المضنية التي يبذلها مجتمع المعرفة، فإن احتراف الفشل والسير بالمقلوب يصبح النتيجة الطبيعية للمجتمع الفاقد للقدرة على الحزم وضبط النفس، والأخذ بأسباب القوة،


والتي من أهمها الاتصال العاطفي والعقلي مع قيم التعلم المستمر، ومبادئ الالتزام بالسّير في درب العلم دوناً عن سائر الدروب، والخطوط المبعثرة لجهود الأُمّة والممزِّقة لوحدة صفها دون مواربة.



ومما لا تخطئه عين البصيرة ولا يتخطاه نظر العقل أنّ المجتمع الذي لا تتوفر فيه شروط مجتمع المعرفة يصبح كل فرد فيه معلماً، وكل عضو فيه فيلسوفاً، وكل صرعة فيه نموذجاً يستحق الحمد والتقدير!!!

قد توجد عناصر قوية ومتميزة في المجتمع الزاهد بقيم التعلّم المستمر، لكن هذه العناصر يظل دورها محدوداً ولا يرقى ليتحول لقوة ضغط تمنع استفحال الرغبة الجانحة في مواصلة النوم والاسترخاء الغير مؤقت بزمن، ما أدى لاتهامنا بالتفريط بقيم التفوق ومقوّمات الحضارة، تلك التهمة التي يوجد ألف دليل على صحتها، مع الأسف الشديد!!


وجود النخب المثقفة إذن لا يكفي وحده لصياغة مجتمع معافىً، وجلب مناخ معرفي صحي ينعش الحياة الفكرية للمجتمع بأسره، وإنما لابدّ أن تتدخل الدولة ممثلة في وزاراتها ومؤسساتها المختلفة لتنجز هذه المهمة وتقوم بهذا الجهد.



والمثقف في هذه المرحلة هو الشخص الذي يجني ثمار تعبه ونتائج جهوده المسبقة.

حيث إنّ البنية المعرفية التحتية لأي مجتمع من المجتمعات تصنعها النخب الفكرية (كمرحلة تحضيرية)، تسبق الانتقال إلى مجتمع المعرفة وتمهد لها، وكلما كان دور المثقف أكثر ظهوراً وأداؤه أكثر قوة،

وكلما زاد عدد الرموز الفاعلة أسهم ذلك دون شك في تسريع الانتقال إلى مجتمع المعرفة، وساعد على تقليص المسافة الفاصلة ما بين تحسين الأداء المجتمعي للأدوار المناطة بالأفراد وما بين الصورة المائلة التي يعكسها الأداء غير المنظم للمجتمع الذي لا ترقى به أدواته لبلوغ الأفق الذي نتحدث عنه.


فاعلية المثقف إذن هي خط أحمر لكل مجتمع يريد أو يراد له أن ينهض ويستقيم.




المصدر