كون النوع الإنساني نوعاً اجتماعياً لا يحتاج في إثباته إلى بحث كثير، فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، ولم يزل الإنسان يعيش في وضع اجتماعي على ما ينقله لنا التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي يعيش فيها الإنسان ويحكم على هذه الأرض.



وقد أنبأ القرآن الكريم عن ذلك أحسن إنباء في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾1.



وقال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾2.



وقال تعالى: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾3.



وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾4 إلى غير ذلك من الآيات.



الإنسان ونموه في مجتمعه

المجتمع الإنساني كسائر الخواص الروحية الإنسانية، وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاماً كاملاً لا يقبل النماء والزيادة، بل هو كسائر الأمور الروحية الإدراكية الإنسانية لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية والمعنوية،

وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن تستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الإنسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر الخواص الإنسانية التي لها ارتباط بقوتي العلم والإرادة تدريجية الكمال في الإنسان.



والذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من المجتمع فيه الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي، وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلاً بخلاف مثل التغذي وغيره،

ثم ظهرت منه الخاصة التي سميناها بالاستخدام وهو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة، ورئيس القبيلة، ورئيس الأمة،


وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولاً أقواهم وأشجعهم، ثم أشجعهم وأكثرهم مالاً وولداً، وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة، وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية، وقيامها على ساقها حتى اليوم.



وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها (المنزلي وغيره) وإن لم تفارق الإنسانية في هذه الأدوار، ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلاً بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الأخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك.



والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الإنسان بالاجتماع تفصيلاً واعتنى بحفظه استقلالاً نبهته به النبوة، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ﴾6.



وقال أيضاً: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾7، حيث ينبىء أن الإنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف،

ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة. وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾8.



فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه، فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.



والآية: ـ كما ترى ـ تحكي هذه الدعوة (ودعوة الاجتماع والاتحاد) عن نوح عليه السلام، وهو أقدم الأنبياء أولي الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم، ثم عن موسى، ثم عن عيسى عليهم السلام، وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الأحكام،

وأوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى، وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الأناجيل وليس في شريعة موسى ـ على ما قيل ـ سوى ستمائة حكم تقريباً.



فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن، والتاريخ يصدقه.



*قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم، العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي، دار الصفوة، ص8-10.





1- الحجرات:13.

2- الزخرف:32.

3- آل عمران:195.

4- الفرقان:54.

6- يونس:19.

7- البقرة:213.

8- الشورى:13.