الهزيمة .. هزيمة القيم
العزة, الكرامة, المروءة، الاستقلال والحرية, الشجاعة والتضحية والشهادة في سبيل الله وغيرها قيم رفيعة لا يمكن أن يصفها أحد بأيّ صفة غير لائقة أو أن يقلل من قيمتها، لكن أين هي من مفردات العقل العربي هذه الأيّام

هذه القيم التي نادت بها العروبة بشهادة تاريخها وأدبياتها ووكّدها الإسلام في ميادين التضحية والفداء وما وصلنا من أقوال مأثورة شريفة حتى أصبحت جزء لا يتجزّأ من ثقافة الأمة على الرغم من خنوع الخانعين لألوية الظلم والجور والعمل الدءوب على تبريره لتصبح ثقافة مثبطة لثقافة القيام والدفاع عن الحرية والكرامة. فقد وضع الإسلام مفهوما راقيا للحياة والموت كما جاء في الموروث الإسلامي: "الحياة في موتكم قاهرين والموت في حياتكم مقهورين" وجاء " موتٌ في عز خير من حياة في ذلّ "، وهو تأكيد للمفهوم القرآني الأصيل في قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وتأصيل لما عاشه جميع الأنبياء وعظماء الأمة على مر التاريخ.
وقد سطّر المسلمون الملاحم البطولية في الدفاع عن القيم الحقة في تاريخنا المجيد الذي أصبح زاداً للأمة لا ينضبومناراً للسبيل مهما حاول القاعدون طمس معالمه, وما هبّة اليوم إلا استدعاء لتلك النفحات من قيم العزة والكرامة التي زرعها الإسلام في هذه الأمة وعمل الاستبداد على إطفاء شعلتها لتتنعّم في خيرات المحرومين بلا رادع وإذلال الأمة أمام سياطه ليسلّط على رقابهم بلا منازع. إن بقاء الأمة واحدة رغم ذهولها عن رسالتها التي سطّر لها ربها في بسط القسط والعدل للإنسان إنما نتيجة بقاء هذه القيم الإنسانية والإسلامية الجامعة، وهذا الشيء لا يزال يؤرق الطامعين الذين لن يرضوا إلا بالركوع أمام خططهم وتوزيع خيرات بلادنا فيما بينهم وتحويلنا إلى بقرة حلوب همها علفها, وقد عمدوا في سبيل ذلك بضرب هذه القيم بوضع مسميّات جديدة ضبابية لأدبيّاتنا بتسمية المقاومة إرهابا،ً والالتزام بقيم العزة والكرامة تطرفا،ً والخنوع والانسلاخ من القيم اعتدالاً، وأسر جند العدو المحارب اختطافاً يُدان، ودخول صاحب الأرض في أرضه اعتداءا على المحتل لابد له من إيقاف، ولابدّ لحدود الاحتلال من حراسة، وللمحتل قوات حماية.
لا عتب على الإمبريالية العالمية وربيبتها إسرائيل الغاصبة في هذا التحريف, فهم لا قيم تحكمهم بل هم في حرب ضد قيم الإنسان والسماء معاً, إنهم أحرص الناس على حياة وكل ما يقولون عن القيم محض ادّعاء وحرف للحقيقة لخدمة أطماعهم. نعم لا عتب عليهم في ذلك إنما العتب على أبناء أمتنا من الحكام الذين يفرحون ويتفاخرون بما يسمهم الأعداء من الاعتدال ويعنون به اللين والخنوع أمام ظلمهم وجبروتهم وراحوا يصفقون وراء العدو في حربه ضدّ من يدافع عن حقوقه وكرامته وأرضه المدنّسة بالأقدام الهمجية ويسمي عمليّاته مغامرة. وأكبر العتب على المطبّلين وراء حكامهم ممن يحملون مسؤولية الكلمة والاتصال بالجمهور من كتاب وصحافيين وخطباء لقاء نظرة رضىً منهم أو الحصول على فتات موائدهم. المأساة تتجلّى عندما يفلسف المثقفون الرضوخ أمام مطالب العدو وأطماعه في دفن كرامتنا ويسمونه بالواقعية, فإذا كان هذا واقع انهزامهم الداخلي فليـ"فكّوا عنّا", ويكرمونا بسكوتهم بدل أن يعملوا في الأمة بالتثبيط ووأد الهمم، وكذلك تتجلى عندما يسمون بسبب خوائهم الروحي وانقطاعهم عن السماء يسمون الإيمان بوعد الله بالنصر والفتح أحلاماً تارة, وأوهاماً تارة أخرى وهم لا يلبثون من ترديد مقولات الإمبريالية وتشويه الحقائق وخلط الأوراق.
أن أخطر ما تواجهه الأمة اليوم هو هذه الحرب على القيم وسياسة التجويع والحصار المطبق من جميع الجهات، لتوصيل الدرس للجميع بأن التضحية في سبيل العزة والكرامة وهم لا يتأتى منه إلا الدمار، والصبر على البلاء مفهوم يتعشعش في أذهان أصحابه لا وجود له في أرض الواقع ومنتهاه القبول والإذعان، والأمل في النصر حلمٌ ينبغي التخلي عنه والاستيقاظ لقبول واقع اليأس والاستجداء. فعليه, إن مواجهة هذا الخطر لا يقتصر على الدفاع عن النفس أو استرجاع الأرض المغصوبة في جنوب لبنان أو غزة أو جنين العزّ, إنما كل الأرض ميدان وفي كل وقت معركة ضد منطق الخنوع والاستسلام. إن عدم الاستماع لمنطق الخانعين مقاومة، وتحقيرهم وتسفيه آرائهم التافهة نوع آخر من المقاومة، ونشر ثقافة العزة والكرامة والأمل بالفجر الصادق من أرقى أنواع المقاومة, ونقول للذين يعيّرون حماستنا ونخوتنا لا .. لن نذهب إلى أي مكان، بل نبقى هنا مقاومين لخارطة المهانة والذل التي يرسمها العدو ولا نترك الأرض للذين يفسدون ولا يصلحون.

حسن خيرالله
جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية