قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
هما وصفان لله تعالى ، واسمان من أسمائه الحسنى ، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، و الرحمن أشد مبالغة من الرحيم ، لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا ، وللمؤمنين في الآخرة ، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة . وعلى هذا أكثر العلماء . وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا . وفي تفسير بعض السلف ما يدل عليه ، كما قاله ابن كثير ، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : { الرحمن } رحمن الدنيا والآخرة ، و { الرحيم } رحيم الآخرة . وقد أشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال { ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن } [ الفرقان : 59 ] وقال { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] ، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ، قاله ابن كثير ومثله قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } [ الملك : 19 ] أي : ومن رحمانيته : لطفه بالطير ، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء . ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ] إلى قوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] وقال : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] فخصهم باسمه الرحيم . فإن قيل : كيف يمكن الجمع بين ما قررتم ، وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم : « رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما » فالظاهر في الجواب - والله أعلم - أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا ، لكنه لا يختص بهم في الآخرة ، بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضاً ، فيكون معنى رحيمهما رحمته بالمؤمنين فيهما .
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضاً أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] ، لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم في الدنيا ، وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضاً . وكذلك قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ، فإنه جاء فيه بالباء المتعلقة بالرحيم الجارة للضمير الواقع على النَّبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ، وتوبته عليهم رحمة في الدنيا وإن كانت سبب رحمة الآخرة أيضاً . والعلم عند الله تعالى .
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن