*خرج ديك الجن وصديقه بكر بين الحقول والكدر يأخذ منهما مأخذه..
بين البساتين .. وكانا قد دخلا ارضاً تابعة لأحد الديرة النصرانية عن غير وعي منهما .. سمعا بين ظلال اشجارها اصوات صبايا يتسامرن ويتراقصن ويغنين .. فاقتربا من الجمع .. واصاخا السمع حتى خرجت تنهيدة من ديك الجن لجمال الصوت الذي سمع .. فانكشف امرهما ..
اقتربت الصبايا منهما ..وهددتهما احداهن بان تصرخ فتجمع علبه اهل الدير لينالا عقاب كشف سترهن والتعدّي على حرمة الجمع في مكان مخصص للدير واهله فقط ، هنا قال لها ديك الجن وقد فتن بجمالها وبياض خديها ، اوتدرين لمن البيات التي كنتِ تتغنين بها منذ قليل .. قالت هذه لشاعر يدعى ( ديك الجنّ) فقال لها أنا ديك الجن ... فلم تصدقه قائلة ان ديك الجن اكثر شهامة ومروءة من هذه التصرفات ولا يعقل ان تكون انت .. واذا كنت انت فاتني بابيات تثبت ذلك من وحي افكارك الان .. فقال لها ..بصوته المتهدج الذي خالطه الوجد والجوى اللاعج ..:
قولـي لطيفـك ينثنـي
عن مضجعي وقت المنام
كي استريـح وتنطفـي
نار تؤجج فـي العظـام
دنـف تقلبـه الأكــف
على فراش من سقـام
أما أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من دوام ؟
سرت الحسناء .. لكنها لم تصدق بعد .. وقالت له باستطاعة اي هاوٍ قول ذلك مرة واحدة او حفظ الأبيات .. فهلاّ غيرت القافية ..
قال :
قولـي لطيفـك ينثنـي
عن مضجعي وقت الرقاد
كي استريـح وتنطفـي
نار تؤجج فـي الفـؤاد
دنـف تقلبـه الأكـف
على فراش مـن قتـاد
أما أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من معاد ؟
بدات الحسناء عندها تتيقن ولكنها طلبت منه تكرار تغيير القافية كي تقطع الشك باليقين ..فقال :
قولـي لطيفـك ينثـنـي
عن مضجعي وقت الهجوع
كـي استريـح وتنطفـي
نار تؤجج فـي الضلـوع
دنـف تقلبـه الأكــف
على فراش مـن دمـوع
أمـا أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من رجوع ؟ ...
وكرر ذلك مرة رابعة .. ايضاً .. فأعجبت الغادة الحسناء بشاعريته .. وقد كان اسمه قد سبقه اليها فوقعت في غرامه كما هام بها .... وبارك لهما هذا الحب صديقه بكر .. الذي كان يفديه بروحه ودمه ليراه سعيداً ...
تزوج العاشقان ... ديك الجن الحمصي .. وورد بنت الناعمة
وكانت حياتهما عسل وشهد وحب ووفاء .. وصديقه بكر بن رستم أكثر منهما سعادة من فرط حبه وإخلاصه لــ ديك الجن .. رفيق صباه ودربه .. وكذا ديك الجن كان يثق بصديقه ويسر له بكل صغيرة وكبيرة ..
لم يعجب هذا الوضع شيطان اسمه ( ابو الطيب ) ابن عم ديك الجن .. فبدأ يتردد على بيته ويتودد من ورد في غياب زوجها ديك الجن بحجة سؤالها ان كانت تحتاج شيئاً .. وهي تصده وتصون غياب ديك الجن .. فبدأ الشيطان يخيط في رأس أبي الطيب مكيدة .. ينتقم بها من ابن عمه وينفث سموم حقده .. خاصة وانه كان يخاف ان تذيع ورد سرّ مراوداته لها ومحاولاته اليائسة للنيل منها ..فيفتضح امره ..
كان ديك الجن متلافاً للمال .. فقد انفق كل ما ورث عن ابيه وجده من مال وعقار .... واستدان مبلغاً من أبي الطيب ذات يوم .. قبل زفافه من محبوبته .. فوجد أبو الطيب ضالته بهذا المر .. وبدأ مضايقاته لــ ديك الجنّ بحجة المال وحاجته له والإصرار عليه في اقرب وقت .. ولم تنفع توسلات ديك الجن معه .. فقرر ديك الجن السفر الى سلمية احدى مناطق الشام لمقابلة الأمير الهاشمي فيها ( احمد بن علي ) الذي كان يوده ..لعله يحضر ما يسد به حاجة ابن عمه ويقضي عنه دينه .. اوصى صديقه بكر خيراً بــ ورد .. وودعها وسار مع القافلة ..،
ما ان تاكد ابو الطيب من مغادرة القافلة لــ حمص حتى ذهب بذريعة الإطمئنان عن زوجة ابن عمه الى بيته .. وعاود عليها عروضه السخية بالمال .. والهدايا ..لكنها صدته شر صدود .. واسمعته من الكلام ما يليق بخائن مثله .. وحافظت هلى حب الغائب الرابض في قلبها ... ديك الجن .. فزاد كل ذلك من قهر أبي الطيب .. الشيطان الذي لم يعد يفكر الاّ بطريقة للإنتقام من ورد .. ومن حبيبها .. لبث بضعة ايام .. وعلم ان القافلة في طريقها عائدة من سلمية الى حمص ..فارسل خبراً مفاجئاً لــ ورد مع نفر من مقربين له .. ان ديك الجن تعرض في الطريق هو والقافلة لقطاع طرق وقتلوه .. وان رهطاً من المدينة ذهبوا لاحضاره للدفن ...
لكم كان وقع الخبر صاعقاً على روح ورد وقلبها ... فلا الدمع يفيه حقه كحبيب ولا العويل ...
وكي يستكمل ابو الطيب مخططه الشيطاني .. مع اقتراب وصول ديك الجن للحي .. ارسل مسرعا في طلب بكر .. الذي صدق الخبر بموت صديقه وصعقته الصدمة أيضاً .. لكن ابا الطيب قال له ان ورد في حالة من الحزن والكمد الشديدين وليس لها من شخص تثق به سواك .. فانت الصديق الوفي للمرحوم ابن عمّي .. اذهب اليها وهدىء من روعها وحزنها ريثما تصل الجنازة ونتدبر الأمر ...
ذهب بكر الى بيت صديقه وهو لا يكاد يرى طريقه لغزارة دموعه .. ووصل الى ورد .. يبكي معها حيناً ويهدئ لوعتها حينا آخر ..ومع وصول ديك الجن ... كان اول من استقبله ابن عمه ابو الطيب .. فقال له .. ان زوجتك لم ترع غيابك با ابن عمي .. وقد قضت كل وقت رحلتك تسامر صديقك في بيتك وتخونك معه والامر تفشّى في حمص واصبح فضيحة لنا جميعاً .. فيا للعار ... انهما الآن معا .. يتجرعان الحب الحرام ... هب ديك الجن لبيته ... فوجد صديقه بكر .. ياخذ بيدي حبيبة قلبه ورد .. والدموع في عينيهما .. فظن انها دكوع افترق الخائنين ( حبيبته وصديقه ) بسبب قرب وصوله ... فتدارك سيفه .. وهوى عليهما معا .. فقتلهما .. ليسدل الستار .. على اكثر قصص الحب نقاءً وحسرة عبر تاريخ الشام ... جلس الى جوارهما وهما ينزفان دما .. وقد فارقا الحياة .. يبكي مرّة .. ويتشفّى منهما اخرى .. لقد اعماه القهر والغيرة على حبيبته ... .. وقال اروع قصيدة عرفها الشعر العربي في رثاء الحبيب .. وهو من قتله ..
يا طلعة طلـع الحمـام عليهـا
وجنى لها ثمر الـردي بيديهـا
رويت من دمها الثرى ولطالمـا
روي الهوى شفتي من شفتيهـا
قد بات سيفي في مجال وشاحها
ومدامعي تجري علـى خدّيهـا
فوحق نعليها وما وطىء الحصى
شيء اعزّ علـيّ مـن نعليهـا
ما كان قتليها لأنـي لـم اكـن
أبكي إذا سقـط الذبـاب عليهـا
لكن ضننت على العيون بحسنها
وأنفت من نظر الحسود إليهـا .
ارتجل هذه المرثاة وكاد يودع عقله لولا حضور بعض صحبه لمسامرته حتى الصباح ..
انتشر الخبر في ارجاء حمص .. وبكى العاصي لهول الجريمة .. وعاش ديك الجن بعد دفنهما كميت .. خاصة وان ابن عمه ابو الطيب قد دعاه بعد فترة وهو يحتضر وأسرّ له بالمكيده ...وان صديقه لم يخنه .. وحبيبته اطهر من مياه العاصي .. وانه راودها عشرات المرات ولم تضعف وصدته عنها شر صدّ ... فانفطر قلبه من جديد .. وبدأ يخلط كأس خمره .. بحفنة من تراب قبر ورد .. وكاسا اخرى بحفنة من تراب قبر بكر .. ويضع كاس ورد عن يمينه .. وكاس بكر عن شماله .. يرتشف من الكأس اليمنى فيظنها قبلة من شفتي ورد ...ثم يرتشف خد صديقه بكأسه ... ويبكي ... حتى نفذ جسمه .. وعقله ...
ينظر الى قبرها ... ويكرر مرثيته .. ,,,
( يا طلعة طلع الحمام عليها .......)
ثم ينظر الى قبر بكر .... وينشج ...
يا سيف إن ترم الزمان بغدره
فلأنت ابدلت الوصال بهجـره
قمر انا استخرجته من دجنـة
لبليتي وزففتـه مـن خـدره
فقتلتـه ولـه علـى كرامـة
ملء الحشا وله الفؤاد باسـره
عهدي به ميتاً كأحسـن نائـمٍ
والحزن ينحر مقلتي في نحره
لو كان يدري الميْتُ ماذا بعده
بالحيّ حلّ بكى له في قبـره
غصص تكاد تفيض منها نفسه
وتكاد نخرج قلبه من صـدره
وقد كانت اخت بكر تترصده وتبحث عنه لتقتله انتقاماً .. فلما سمعت ابياته هذه عفت عنه ورقّت لحاله ... واجابته عليها :
يا ويح ديك الجن بل تباً لـه
ماذا تضّمن صدره من غدره
قتل الذى يهوى وعمّر بعده
يا رب لا تمدد له في عمره.
وهو يبكي بحرقة على القبرين ... ويردد :
أساكن حفرة وقـرار لحـد
مفارق خلةٍ من بعـد عهـد
أجبني إن قدرت على جوابي
بحق الودّ كيف ظللتَ بعدي ؟
اقترب رحيل الشاعر بعد ان فقد كل اتصال له مع السعادة ... وذبل رويداً رويداً ...حزنا وكمداً .. وغصصاً .. على حبيبة فؤاده .. وصديقه الوفيّ ... وأبلغ ما قال قبل رحيله :
بانوا فصار الجسم من بعدهم
ما تصنع الشمس لـه فيّـا
بــأي وجــهٍ أتلقـاهـمُ
إذا رأونـي بعدهـم حيّـا .
**راقت لي من ذكرياتي**
وأرجو أن تروق لكم