سيوة … عندما هبت علينا نسائم الفردوس
لم أكن أتصور في حياتي أن يأتي يوم أتحدث فيه عن بقعة في بلادنا وأنا في معرض الحديث عن أماكن ساحرة في العالم ! .. لكن تلك الجزيرة الفريدة الهادئة في بحر رمال مصر الأعظم تستحق .. سيوة ! … لقد أسَرْتِنِي حواسا وعقلا وروحا …شاء الله أن يظهر لي في رحلة سيوة جانبا من بديع صنعته في الكون ، كنت أتخيله وأتمناه ، ولم أتصور أن يكافئني بتنفُّسِه وتنسُّمِه وتلمُّسِه … بل الغرق فيه حتى النخاع …. عشق الطبيعة والذوبان في مفاتنها أعتبره أهم تعبيرات الفطرة الإنسانية السوية .. وقد طمأنتني سيوة على فطرتي كثيرا. إنني من هؤلاء الذين يثخنون خط الانترنت الخاص بهم في تحميل الصور الطبيعية الخلابة ، وانتهاب الزمن في التأمل فيها والاستزادة من معينها الذي لا ينضب ، و تشغيل مراكز الخيال بالطاقة القصوى لتتواكب معها… لكن كثيرا ما تخلل هذا شعور بالحسرة والنقص لاعتقادي بأن هذه الأماكن البديعة لا قِبَلَ لي بها الآن … فهي إما في آخر الدنيا أو جنة الآخرة. ! لم أكن أتصور أبدا أن هناك نموذجا أوليا من الفردوس يُلوِّح لي ويناديني نداء خفيا من هناك على بعد بضعة مئات من الأميال فقط مني ! هناك في سيوة – رغم أنف العبث البشري الجاحد – نِعَمٌ متلألِئة ، وطبيعةٌ بِكْرٌ ما زالت تحبو في دلال في طفولتها الأولى .. جبلٌ شاهق ، رملٌ ناطق ، نخلٌ باسق ، ماءٌ رائق ، وجهٌ صادق ، سحرٌ شائق.لقد اكتشفت في سيوة أرضا غير الأرض وسماء غير السماء. لقد كنت أتسلق الشموخ في سيوة .. وعلى قمة أي تل وليد هناك كانت تستلبني مشاهد الطبيعة الرقراقة تنساب من بعيد إلى عين متعطشة طالما أسهدها الشوق إلى هذا المحبوب الذي هو الآن ملء السمع والبصر ..مشهد تعانق الجبال والرمال والنخيل هو مشهد للتاريخ … لمثل هذه الروائع عرفنا قيمة مراكز الإبصار والذاكرة في عقولنا ..صحراء سيوة هي إجابة حية لسؤال : لماذا كتب عرب الصحراء الشعر وأبدعوا فيه ، – وأنَّى لهم ألا يفعلوا ؟ -!! ..محيط أصفر ساحر تضرب أمواجه صميم الروح فتغمرها بالجمال والإلهام ….يقولون إن الصحراء ليلا هي تجسيد الوحشة والرعب … بالتأكيد من قالوها لم يكن لهم تلك الصحبة المتميزة التي تملأ الزمان والمكان ، ولم يحلِّقوا بأبصارهم نحو السماء المرصعة بالنجوم الساهرة خصيصا من أجل ألفتهم ومتعة أنظارهم …وغرائب صحراء سيوة لا تعد ولا تحصى … فمثلا لا تفارقني دهشتي – حتى الآن – وأنا أتذكر العينين الساخنة والباردة اللتيْن صادفتانا أثناء جولة السفاري في قلب الصحراء ، ورغم أن المسافة بينهما لا تتعدى الدقائق ، فإن إحداهما تكاد مياهها تغلي من السخونة وكأنها تنبجس من بركان تحت الأرض ، والأخرى أفزعتنا برودة مياهها فعلا وكأن هناك ثلاجة طبيعية في قاعها ، خاصة ً المتسرعين الذين أسرهم جمالها ، فألقوا بأنفسهم فورا في مياهها قبل اختبار حرارتها ومن هدير أمواج بحر الرمال الذهبية إلى ضجيج الازدحام الأخضر البني .. وما أدراكَ ما غابات النخيل في سيوة ! لن أنسى أبداً مشهد مئات الأفدنة من النخيل المتشابك المتعانق المتراقص وهي تمتد على مرمى بصري وأنا أتأمل فيها من فوق إحدى التلال .. وأود لو أستعير جناحي طائر لأحلق فوقها لتلتهم عينايْ الهائمتين كل مشاهدها ..لن أنسى أيضا عندما توغلت في إحدى غابات النخيل التى تشبه ممراتُها المتاهات ، وأتنقل بينها على غير هدىً ، وإذ فجأة أخرج في الجانب الآخر على ساحة ممتدة من الرمال تفضي إلى جبل مثلث كالهرم يرتج بالموسيقى التقليدية التى تنبعث من عِقد البيوت الذي يتحلى به سفح الجبل … قرية لطيفة في بطن ” جبل الدكرور ” تحتفل بإحدى الزيجات …. ما إن اقتربنا من الناس حتى دعونا للسلام على العريس ! وأخذ واجب الضيافة والاحتفال … سلمنا عليهم ودعوْنا لهم ، وتسلقنا ما استطعنا إليه سبيلا من الجبل ، وقصت علينا المشاهد التى نراها على مد أبصارنا الولهانة روايةَ الجمال والإبداع المعتادة ..هل ستصدقني إذا أخبرتُك أنني ذهبتُ إلى جزيرة في سيوة ؟!! … تخيل أنكَ على جزيرة في واحة في قلب صحراء ! ….. ” طغاغين ” جعلتني أفعلها .. في إحدى البحيرات المحيطة بسيوة – هي بحيرات كوَّنها فائض مياه الصرف الزراعي الجوفية – يمتد لسان صغير من الأرض ، هذَّبته اليد البشرية وأضافت إليه بعض اللمسات التى تليق بروعة وأهمية الاجتماع رفيع المستوى المنعقد فيه بين الماء والرمل والملح والصخر والنخيل والورد والسماء والغيوم والضوء والظلال …لو أن أحدهم اختطفني ، وغطى عيني .. وذهب بي إلى هذا المكان ، ثم كشف عني الغطاء .. لظننت لأول وهلة أنني في جزر هاواي !قضينا نصف وقتنا في ” طغاغين ” في الهواء ! ، فأكثر ما التقطناه لأنفسنا من الصور كنا نمارس فيه التعبير الإنساني الرمزي الأبسط عن الانطلاق والسعادة ….. القفز في الهواء ! حتى أن أحد أصدقائي كاد يكسر ظهره وهو”يتشقلب” من السعادة أمام الكاميرا !! جوانب الرضا والسرور في سيوة كثيرة …. لكن عشقي للطبيعة حاز السبق في نفسي وروحي ، ولذا آثرت سحرها بهذا المقال .. ولكن كما قال تميم البرغوثي ” إن الصفات خياناتٌ لما تصِفُ “ .. فالكلمات مهما أبدعناها تعجز عن نقل كل جوانب ومعاني الإبداع الذي نصفه بها .. لكن رجائي أن أكون قد نجحت في مسح بعض الأتربة عن وجه المعدن النفيس ، وبعثْتُ في نفوسكم – في هذا الزمان المحتقن بالطاقات السلبية – بعضا ً من الأحاسيس الإيجابية التى أنعم الله بها عليّ في الأيام الثلاثة التى قضيتها في إحدى جنانه على الأرض…