لغات الإبداع في الآفاق وفي أنفسنا
لكل شيء في الوجود لغة، يفهمها من يفهمها، ويجهلها من يجهلها وربما لم يعلم بوجودها في الأصل. لعل هذا ما قصده جاليليو حين قال أن:“العالم مكتوب بلغة هي الرياضيات”.بعض اللغات على مر التاريخ مُنعت عن الناس عمدًا، كتلك اللغات التي كتب بها السحرة القدامى كتب السحر وأسرار الجن. ربما يتفنن من له مصلحة معينة في إخفاء لغات موجودة أو تشفيرها بحيث لا يتم فهمها كما يحدث في المراسلات الحربية. كما أن اللغة لا تقتصر على الحروف المرسومة والكلام المنطوق، وأنه حتى اللغات التي تشترك في الحروف تختلف في اللكنات.
من إبداعات الفن التجريدي – للفنان البرازيلي روميرو بريتو
لغة الجسد لعلها أشهر المصطلحات حاليًا ارتباطًا بكلمة لغة، العيون هي الأكثر شيوعًا في الغزل، القمر يلهم الشعراء، المهمومون يخاطبون البحر، وآينشتاين يلهمه إبداعات موزارت، هيلن كيلر كانت لا ترى ولا تسمع ووصلت إلينا كتابتها، الأمواج الكهرومغناطيسية يحولها المذياع إلى صوت أم كلثوم الذي تحوله الآذان إلى طرب أصيل يقشعر له الجسد بالكامل من النشوة، الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، المادة والطاقة وجهين لعملة واحدة كما قال علماء الذرة، وكَأن المعادلات الرياضية التي ذكرها جاليليو تتجلى في أكثر من نطاق.
وعلى ظني بأن اللغات هي آيات لله الذي خلقنا شعوبًا وقبائل، فإن هذه الآيات متذبذبة في أفكاري في الآفاق وفي أنفسنا في جدلية تُثري بالحكمة كلما فكرت فيها. كلّما أردت الزعم بأن العبقرية والإبداع ينبعان -فقط-من داخل الإنسان؛ وجَدتُ أنه لا وجود لهذه العبقرية أو هذا الإبداع بلا كون خارجي يؤثّر فيه ويتأثر به. كل منهما مرتبط بالآخر كعلاقة البحر والشاطئ، الشمس والقمر، الليل والنهار، الذكر والأنثى. هي علاقة لا أرى فيها تضادًا بقدر ما أرى تكاملًا وجوديًا، فهذا الضد يكمل ضده وبالأصل موجود لوجوده.هناك زعم أن الجمال مكانه النفوس، وأن النفوس الجميلة ترى الوجود جميلًا، وأننا إن أتينا ببدوي من الصحراء فلن تطربه الأوبرا، ولن تمتعه مشاهدة الباليه، ولن يفتح فمه اندهاشًا أمام لوحة الموناليزا، وقد يؤثر العيش في الخيام على العيش في منزل متسع الأرجاء صممه أفضل المعماريين، لكن هل يمكن لهذا البدوي أن يصير يومًا عبقريًا في أحد هذه الفنون الناتجة عن الحضارة؟
الاستغراب والاندهاش، تلك النظرة التي نظرها نيوتن لتفاحة سقطت كملايين التفاحات على سطح الكوكب، “وجدتها” كانت نتيجة لاندهاش أرشميدس، الاستغراب هو مؤشر يحذرنا بأن هناك مالا نعرفه بعد، وأن العالم ليس – فقط – هذه الرقعة المعرفية التي أدركناها. وَعَيُ الإنسان حقيقة جهله هو دافعٌ لطلب المعرفة، هو مفتاح ينقل هذا البدوي إلى أعلى درجات الإبداع البشري. ولكن كيف نندهش؟
الأمر بالكامل بأيدينا والقرار يرجع للإنسان “يمكنه أن يرى كل شيء في الوجود على أنه عاديٌّ، ويمكنه أن يرى كل شيء على أنه معجزة” هكذا قال آينشتاين، غير أن لكل قرار مسئولياته. خلق الله الأرض واستعمرنا فيها، وهو وحده لديه الحقيقة الكاملة وكل ما بأيدينا هو السعي والمحاولة وبناء المقاربات للوصول إلى الحقائق ولتعمير الأرض، من أجل ذلك علينا أن ننخرط في هذه الجدلية، علينا أن نمعن التأمل في أنفسنا وفي الكون. إن العباقرة والمبدعين الذين أثروا بشكل ملحوظة في تاريخ البشرية خرجوا يومًا عن السائد والمألوف وأخدوا قرارات تحملوا مسئوليتها وكافحوا من أجلها، منهم من سبق اتهامه بالجنون والهرطقة، غير أنهم في نهاية الأمر وبعد مرور السنين ثبت سبقهم وعبقريتهم وأنهم بالفعل تجاوزوا حاجز المفاهيم الخاطئة التي سادت في الزمن الذي عاشوا فيه.