سيادة القانون
مبادئ اساسية
الانهيار التام
قام تتار القرم، وهي مجموعة صغيرة من المسلمين الذين إستوطنوا في شبه جزيرة القرم في القرن 14، بالانضمام بكل تفاني الى معركة الإتحاد السوفياتي ضد ألمانيا النازية. ولكن أثناء الحرب العالمية الثانية، شكّك القائد السوفياتي جوزيف ستالين بولاء التتار كمجتمع وذلك بسبب تقارير عن بعض التتار الذين قاموا بالإنضمام الى الكتائب النازية، عندها أمر ستالين بترحيل جميع السكان التتار الى اسيا الوسطى. في 18 مايو 1944 بدأ وكلاء من الشرطة السرية السوفياتية (NKVD) باعتقال التتار وترحيلهم بالقطار الى أوزبكستان وكازاخستان.حتى بلغ عدد المنفيين ما يقارب الـ200000 من التتار في غضون يومين وقد توفي حوالي ثلث هؤلاء المنفيين في وقت لاحق من جراء سوءالأحوال الجوع والطقس والمرض. وقد قام نظام ستالين باتخاذ اجراءات مشابهة ضد جماعات عرقية اخرى صغيرة في القوقاز في محاولة لتخليص المنطقة من جميع الأقليات.
وكانت عمليات التطهير العرقي التي حدثت في عهد ستالين أمثلة واضحة عن حكمه التعسفي والمطلق، التي كلفت عشرات الملايين من الناس حياتهم. وتعتبرهذه الاعتداءات من الامثلة على الانهيار المطلق لسيادة القانون.
ضرورة ترافق حكم القانون والديمقراطية
يعتبر استخدام القوة التعسفية في الديمقراطيات منافيا لسيادة القانون. ففي الأساس تعد الحدود الدستورية الموضوعة على السلطة سمة أساسية للديمقراطية والالتزام بسيادة القانون. ومن هنا يمكن تعريف حكم القانون على انه خضوع سلطة الدولة لدستور البلاد وقوانينها التي تم انشاؤها أو اعتمادها من خلال الموافقة الشعبية، ويعتبرهذا التعريف المستشهد بها غالبا "حكومة من القوانين وليس الأشخاص" عبارة شهيرة أدلى بها" جون أدمز" الرئيس الثاني للولايات المتحدة. حيث قال انه يجب أن يبقى القانون في هكذا نظام متفوقا على نزوات الأفراد بما فيهم الموجودين ضمن هياكل الدولة.و بالتالي فان سيادة القانون هي المدافع الرئيسي الذي يوازن بين السلطة السياسية اذا استخدمت ضد حقوق الانسان.ولا يمكن للديمقراطية أن تبقى على قيد الحياة دون تنظيم سلطة الدولة عبر نظام من القوانين والاجراءات والمحاكم.
وبالرغم من ان سيادة القانون تسعى لحماية الأكثرية من بطش السلطة والطغيان، الا انه يجب عليها أيضا حماية الاقلية من السلطة التعسفية ومن طغيان الأغلبية (أنظر أيضا "حكم الأغلبية / حقوق الأقلية") . وفي غياب سيادة القانون من المرجح أن تسود الديكتاتورية أو حكم الغوغاء. وقد أشاد بعض المفكرين الثوريين بحكم الرعاع كأعلى شكل من أشكال العدالة السياسية والاجتماعية. ومع ذلك فان حكم الغوغاء ما زال يعني العنف والفوضى السياسية، وهي الشروط ذاتها التي كثيرا ما تؤدي لصعود الديكتاتورية وممارسة السلطة التعسفية والحرمان من الحقوق الفردية.
حكم القانون : تعريف
تعتبر عبارة "سيادة القانون" مصطلحا غامضا ولا يوجد اتفاق واسع النطاق حول ما يعني بالتحديد،كما لا يوجد ايضا اتفاق واسع النطاق حول مصطلح "مجتمع عادل". ولكن نستطيع ان نقول ان هناك أرضية مشتركة بخصوص الميزات الأساسية لسيادة القانون.
ولكي نحدد تعريف سياده القانون يجب أن نسأل عن الغرض أو الهدف المرجو من القانون المعتمد. ووفقا لأحد المعلقين، فان لحكم القانون ثلاثة أغراض أساسية. أولا، ينبغي على القانون أن يحمي ضد الفوضى أو من حرب "الكل ضد الكل" كما سمّاها الفيلسوف توماس هوبز. ثانيا، على سيادة القانون أن تسمح للناس بتدبير شؤونهم بقدر معقول من الثقة التي تمكنهم من معرفة العواقب القانونية لأعمالهم المختلفة مسبقا. أما الغرض الثالث والأخير، فيتعين على سيادة القانون أن تقدم على الأقل ضمانات ضد بعض أنواع التعسف الرسمي.[1] ببساطة، ان الغرض من سيادة القانون هو أن توّفر الحكومة الأمن والقدرة على التنبؤ والمنطق.
ويحدد معلّق اخر مفهوم سيادة القانون بناءا على خمسة "أهداف"هي: الزام الدولة بالقانون، وضمان المساواة أمام القانون، وتوفير النظام والقانون، وتأمين العدالة بكفاءة ونزاهة،واخيرا والتمسك بحقوق الانسان.[2]
يمكن للمرء أن يضيف أن المفهوم الغربي لسيادة القانون ينبغي أن يشمل الفصل بين الدين والدولة كمبدأ دستوري اساسي، نظرا لأن تأثير المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة على تطبيق القانون يمكن أن يؤديا الى تفسيرات تعسفية على حد سواء.وكما نرى وحتى في الدول الغربية هنالك وجود ديني قوي ولذلك فان سياسات الدين المنظم منفصلة عن تلك التابعة للحكومة.
مؤسسات سيادة القانون
هناك العديد من المبادئ التي تعتبر سمة من سمات سيادة القانون:
1. ان تحتكر الدوله استخدام القوة في حلها للنزاعات في اي من البلدان ويصل الحد الى ان يستخدم العنف فيه خارج سيطرة الدولة، فان ذلك يعتبر بلد خارج عن السيطرة وليس البديل لسيطرة الدولة على القوة ان يسيطر أمراء الحرب على هذه الدوله ففي كلتا الحالتين يعتبرهذا شكل من اشكال الأمن غير الشرعي من الناحية القانونية.
2. ان يشعر الأفراد بالأمان من الناحية الشخصية وفي ما يخص ممتلكاتهم ومن نواح عدة، ان توفير الأمن هو الهدف الاساسي لأية دولة، حيث يجب ان توفر الدوله الاحتياجات الأساسية للشعب والتي لا تنحصر على الأمن الشخصي فقط بل تتعداها للخدمات المدنية الأساسية والمرافق العامة، وذلك قبل القيام باي محاولة طويلة المدى لتحسين سيادة القانون. وعلى الدولة أيضا ان تحمي حقوق الملكية وهذا يعني ان الناس لديهم الحق في استخدام ملكيتهم والتصرف بها كما يريدون ولن يتم مصادرة ملكيتهم الشخصية دون اتباع الاجراءات القانونية الواجبة.
3. ان الدوله بذاتها هي ملزمه بموجب القانون ولا تستطيع أخذ قرارت تعسفية حيث يجب أن يكون سلوك الدولة متلازما مع القواعد المراعيه للاجراءات ولا يجدي نفعا ان تلتزم الدولة بالقواعد اذا كان بالامكان تغيير القواعد نفسها طبقا للأهواء اذا كانت مجردة من الأسباب المنطقية. ويجب ان يتم اتخاذ قرار معلل بحجج منطقية ينطبق على الجهات التنفيذية والقضائية والتشريعية.
4. . يمكن تحديد القانون بسهولة وان يكون مستقر بما يكفي للسماح للأفراد بتدبير شؤونهم بناءا عليه. الفرضية الأساسية لمجتمع يحكمه القانون هو أن هناك توافقا واسع النطاق على ما هية القانون: أي ان يكون هناك قاعدة واضحة لمعرفة ماذا يشكل قانونا من عدمه.
5. ان يملك الأفراد وسيلة مفيدة للوصول الى نظام قانوني فعال ونزيه. ومن أجل ان يحقق وجود جهاز قانوني فاعل، يجب ان توجد مؤسسات قضائية وتنفيذية تطبق القانون، ويجب ان يكون بامكان الناس- بمن فيهم الضعفاء والمهمشين والفقراء والريفيين والأقليات بمن فيهم النساء - الوصول لتلك المؤسسات بطريقة عملية.
6. على الدولة أن تحمي حقوق الإنسان والحريات الأساسية.و تتجسد معايير الحد الأدنى من الحماية لسكان بلد ما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات التي يكون البلد طرفا فيها، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسيةlink . تذكر الفقرة الثالثة من ديباجة الاعلان العالمي لحقوق الانسان أنه "... ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم". مما يعني أنه لا بد من حماية هذه الحقوق بفعالية من جانب النظم القانونية المحلية وذلك من أجل تمكين الإنسان من التمتع الكامل بحقوقه. ولذلك يمكن اعتبار ان مبدأ سيادة القانون هو مبدأ أساسي في مجال حماية حقوق الانسان، لأنه في غيابه يصبح احترام حقوق الانسان أمرا وهميا. ومن المثير للإهتمام في هذا الصدد أن نلاحظ أنه وفقا للمادة 3 من النظام الأساسي لمجلس أوروبا " كل دولة-عضوة ... يجب تقبل بمبدأ سيادة القانون".
7. ان يعتمد الأفراد على مضمون القانون في تسيير حياتهم اليومية وعلى وجود مؤسسات العدالة.[3] وحتى نستطيع ان نقول عن حكم ما انه قانوني يجب أن يستوفي بعض الشروط، ومن أهمها أن يتم فرض العقوبات على مخالفة قاعدة ما، و يجب ان يكون له ما يبرره بالرجوع الى القاعدة نفسها وليس مجرد قدرة الحكومة على فرض عقوبات أو فرض الامتثال عبر استعمال القوة.و حينها يمكن ان يقال عن دولة ما أنها حقا تخضع لحكم القانون فقط حين ينظر الشعب للدولة وقانونها على أنهما شرعيان، وهذا يعني ان الشعب يوافق وينضوي إراديا تحت مظله القانون.
إن غياب أي من هذه الميزات، قد يؤدي الى انهيار سيادة القانون. إن دستورا دون شرعية لن يكون محترما من قبل الشعب، وبالتالي لن يتم التمسك بمبادئه. اذا لم يكن هناك نصا دستوريا يضبط إساءة إستخدام السلطة، فذلك قد يؤدي الى تلاعب السلطة القضائية الفاسدة أو قوات الشرطة بالقوانين لمصلحتها، بينما يفشل المحامون غير الأكفاء بتمثيل عملائهم بشكل كاف وهلمّ جرا.
تشير فضيحة ""ووترغيت" في اوائل 1970، عندما حاول الرئيس السابق ريتشارد نيكسون التستر على تورط حكومته في أنشطة غير مشروعة تهدف الى ضمان إعادة إنتخابه، الى كيفية عمل مؤسسات سيادة القانون معا لحماية مبادئها. ومن خلال ممارسة وسائل الاعلام والجمهور لحقهما في حرية التعبير كشفا عبر نشرهما الأنشطة غير الشرعية للإدارة الجمهورية. قرار المحكمة العليا الأميريكية في قضية الولايات المتحدة ضد نيكسون (1974)، والتي نصت على أن صلاحيات السلطة التنفيذية ليست مطلقة وأنه مطلوب من نيكسون أن يفرج عن أشرطته، أتى القرار ليفرض سلطة الكونغرس للتحقيق في "الجنح والجرائم العالية". مجلس النواب بدوره أقال الرئيس لخرقه القانون ولإنتهاكه أداء اليمين. أجبرت هذه الإجراءات نيكسون على الإستقالة وكانت هذه المرة الأولى لرئيس في تاريخ الولايات المتحدة. بهذه الطريقة تم منع الرئيس الذي سعى للعمل خارج القانون لكي يزيد من قوته ونفوذه السياسين من تحقيق مبتغاه.
إرادة المجتمع
تلاحظ الباحثة راشيل كلاينفيلد بيلتون عاملا ضروريا اخر لتحقيق سيادة القانون وهو إرادة المجتمع لفرض المبادئ الأساسية للمساواة والانصاف والعدالة.
خلال ذروة الامبراطورية البريطانية في أواخر 19 وأوائل القرن 20 لم تنطبق مبادئ سيادة القانون في مستعمراتها حيث تم الدوس على الحقوق الديمقراطية. أما في الولايات المتحدة فتعتبر فترة العبودية (والتي انتهت بموجب التعديل 13 من الدستور في 1865) المثال الأكثر وضوحا لانهيار سيادة القانون في مجتمع ديموقراطي. ولكن حتى بعد تحرير العبيد قامت قوانين "جيم كرو" في جنوب الولايات المتحدة بالاضافة الى أحكام المحكمة العليا الاميريكية بقلب التعديل 14 والذي يضمن المساواة في المعاملة في ظل القانون على رأسه. تصلح قضية بليسي ضد فيرغسون (1896) لتكون مثالا لحكم المحكمة العليا المؤيدة للعزل عبر تأييدها لمشروعية الفصل العنصري في المرافق العامة في حال وجود مساواة بين المرافق.
انه لمن غير المفهوم اليوم أن النظام الديمقراطي الاميريكي أيّد مثل هذه التناقضات الرهيبة والتي تغاضت عن إساءة الأكثرية لحقوق الأقلية. ولكن تمكن ألاميريكيون الأفارقة من الفوز بحقوقهم كاملة – ولو ببطء - فقط من خلال سيادة القانون. قامت المحكمة العليا بنقض مشروعية "منفصل لكن متساو" مع حكم براون ضد مجلس التربية والتعليم (1954) والذي قضى بأن التمييز العنصري في المدارس العامة غير دستوري. إرادة المجتمع في هذه الحالة كانت أمرا أساسيا في تأسيس المعايير الأساسية لحكم القانون.
سيادة القانون الدولي
بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ وطوكيو لجرائم الحرب واعتماد الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الأمم المتحدة في سنة 1948 بالاضافة الى اعتماد اتفاقية عام 1948 بشأن منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، كل ذلك قام بتأسيس مجموعة من المبادئ الدولية حول سيادة القانون، والأهم من ذلك أنه لا توجد حكومة فوق القوانين العالمية للأمم وبأن على المجتمع الدولي أن يعمل على منع والتصدي لأعمال الإبادة الجماعية. ومع ذلك لم تؤسس مؤسسات قضائية دولية في ذلك الوقت للتـأكد أن الدول سوف تلتزم بهذه المبادئ الدولية.
لقد استمرت سياسات التطهير العرقي والابادة الجماعية بالوقوع ولم تثر أي اجراء من قبل أعضاء المجتمع الدولي واذا ما أثارت فقد كان يأتي رد الفعل متأخرا محاولا منع مزيد من القتل (اخرها كان في البلقان ورواندا و منطقة دارفور في السودان بالاضافة الى حالات أخرى). وعلى الرغم من ذلك بدءا من منتصف التسعينات حيث قامت الأمم المتحدة بانشاء محاكم في يوغوسلافيا السابقة ورواندا للتحقيق ومحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. في عام 1988 أنشئت المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لملاحقة جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، وينطبق ذلك على الإنتهاكات التي تحدث بعد 1 يوليو 2002 في الحالات التي تكون فيها النظم القضائية الوطنية غير قادرة على تحمل وزر القضية. ان الابتكار في ما خص المحكمة الجنائية الدولية أن لديها سلطة محاكمة الأفراد الذين يرتكبون انتهاكات في دولة عضو أو هؤلاء الذين ينتمون الى مواطني دول اعضاء وموقعبن عليها. تجدر الإشارة الى أن الولايات المتحدة لم تشارك في المحكمة الجنائية الدولية.
في الاونة الأخيرة، تم انشاء محاكم مختلطة أو هجينة من خلال الجهود المشتركة للأمم المتحدة والحكومات الوطنية ومن الامثلة على ذلك المحاكم في تيمور الشرقية وكوسوفو وسيراليون.ومن الامثلة ايضا على المحاكم الدولية والأقليمية، محكمة البلدان الاميريكية لحقوق الانسان والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالاضافة الى أماكن أخرى لمحاكمة حالات انتهاكات حقوق الإنسان. أخيرا، في بعض البلدان، مثل العراق، تمت محاكمة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية أمام المحاكم المحلية.