عذراً أمهات سورية..
بقلم : خليل موسى
أمهات الشهداء رياحين تسقين قبور أبنائهن بالدموع، الدموع لا هي أمطار موسمية ولا هي عواصف تمر كما الكرام، هي انحناءات قلوبهن أمام شغف أمل باللقاء، حيث يفصل بينها وبين ابنها الشهيد حفنة من تراب، وسديم من غياب أو سراب .
ففي خضّم ما تمر به سورية، غدا عيد الأم هذا العام مميزاً عن كل شيء مرّ عبر التّاريخ، عشرات الآلف من الشهداء، وعشرات الآلاف من الأمهات المحرومات من وردة أو قبلة يد، فرغم كل الذين سيجتمعون حولها اليوم ليحتفلوا بها، لن يمتلئ في قلبها ذلك الفراغ الذي ملأ الدنيا بالنسبة لها بالضياع عندما أُخذ ابنها قسرا، في حين لم تكن هي تتوقع يوما أن تخسره بهذه الطريقة التي ترفض مجرد التفكير بالسؤال "لماذا رحل عنها"، فلا يعنيها اليوم سوى أنها تبحث عن رائحته بين أي شيئين يلامسان ذكرى ابنها المفقود والمُغيَّب بين صفحات الأسى الغير مقبول بالنسبة لها، وكم تشعر بالعار تجاه ما حدث.
يتساءل البعض بدهشة، "أيهما أصعب حالاً، الأم التي فقدت طفلاً، أَم شاباً !!؟....".
ما هو المهم في هذا السؤال!؟، فتلك التي فقدت ابناً.. فقدت من كبدها، فإن هو شاب فقد كان يوماً طفلاً عايشت كل لمساته للحياة، وحملت عنه كل أحلامه لتربيها معه. وإنْ هو طفلُ فهي اليوم لا تحمل سوى دميته وبعضا من أحلامه التي تَبخَّر جزءٌ كبير منها مع دمه الذي لوَّن في وجهها كل الطرقات التي ستسلك، وها هي تحمل صورةً في مخيلتها رسمتها له عندما يشبُّ، أم الشهيد اليوم لن تنظر إلى من مثلها حالاً من أي طائفة هي ولا من أي انتماء سياسي ولا من أي طرف، فالطائفة الوحيدة التي باتت تجمعهن اليوم هي طائفة الشهادة، وانتمائهن الوحيد هو الخسارة والقهر والفجيعة والألم، والطرف الوحيد اليوم لهن هو الامهات الثكالى، لكن ثمة وطن يعزيهم.
أم الشهيد لم تعد أماً عادية، ولا يغريها كثيرا أن تسمع إطراءً من أحد فما خسرته لن يعوضَه بالنسبة لها شيء، ولا يمكن أن تَجدَ سبيلاً يخفف عنها سوى أن تزور قبر ابنها كل صباح، وتخاطبه عن أشواقها .. تخاطبه، عن عرسه الذي لم يتم، عن اطفاله الذين كانت تحلم بأن يملؤوا بأصواتهم كل زوايا بيتها الذي نبتَ فيه حلمٌ وأُقتُلع فجأة..، اليوم ستتبدل الصورة فبعد أن كان يجلب الورود لها أصبحت هي من تهديه وردة أمومتها وانتظارها له لتلتقيه مساء كل حلم، تحضن وسادته، تستنشق عنها دموعها لتشعرَ بدفءِ حنانهِ، فتتمزق أمام نوافذ غربتها عن مكانه الذي هو فيه دونها .
لم يعد الأمر مستغربا، فالأمهات اليوم - أمهات الشهداء - ستلتقين لتواسين جراحاً لن تندمل حتى وإن انتهت الحرب.. الحرب الشعواء التي التهمت كل حلم لديها، وهدمت تلك الغرفة التي بنتها أمٌّ لابنها ولم يسكنها.. فأصبحت مهجورةً من كل فرح.. الفرح الذي غاب عن سورية وعن أمهاتها الى أن تندملَ الحياةُ كما ينظرن الآن إلى الحياة ...
لكن ثمة وطن يجمعها بفخر ما قدّمت تلك الام، فما يعنيه قربانها للوطن أكبر بكثير من كل الوصف الذي، وكانت لقاءاتنا بأمهات الشهداء، تحمل قدرا من الجمل التي عبرت بها أكبر بكثير مما يتخيله أحد، دموعها وفية لابنها وللأرض التي استشهد لأجلها.
ولأمهات سوريا والعراق وفلسطين ولبنان..
وكل أمهات الشهداء.. اليوم لن يستطيع أحد أن "يزاود" عليكنَّ بحرفٍ واحد.. ولا أن يتملًّق أمامكنَّ ولو بقصيدة من معلقات الجنة.. أمهات سورية، ليس فقط الشهداء وإنما أيضا المفقودين والمرابطين على الجبهات.. لكنَّ الخلود وحدكنْ.