سورية .. حمامة سلام .. تحيا بتضحيات أبنائها
(يا طير يا طاير عطراف الدني .. لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير ..)
الساعة السادسة صباحاً، وكأي بيت في بلاد الياسمين، صوت فيروز يشدو في المنزل، يتسلل إلى الروح يبعثرها على عجل ويرحل.
وفي ذاك المنزل تجلس هي على شرفتها، تنظر إلى السماء الزرقاء، ترى طائراً يرقص في السماء مع بقية الطيور.
إلى الآن هي لا تستطيع منع تلك الابتسامة الممتزجة بالدموع في مقلتيها عند رؤية الطيور. أغمضت عينيها، وبلا أي جهد، حضر المشهد إلى ذاكرتها. قبل عام من الآن، أصوات إطلاق نار لا تدري من أين مصدرها، السماء سوداء ملبدة بالدخان، أخبار الموت والشهداء والانفجارات أصبحت كأخبار الأحوال الجوية، لا يمر يوم دون أن تسمع بها.
وبسبب كل هذا لم تستطع أن ترى ابنها إلا فيما ندر، فهو في ساحة المعركة يقاتل من أجل أن يحيا الوطن سورية، تذكرت كلماتها له، وهي تقول له مودعة في لقائها الأخير معه، كما في كل كل مرة:
أخاف أن تكون الأخيرة.
يهمس لها قائلاً:
أنا عاشق لهذه الأرض، ومعشوقتي في خطر، روحها مرهقة من فقدان الأمان، لذلك عاهدتها، على أن أنثر السلام في روحها لتكون كحمامة سلام بيضاء تبث الحب والأمل بين القلوب والأطفال وفي كل الدنيا، أنا أبداً لن أموت، سأكون حياً بضحكات أبنائها بأمانها، سأكون لؤلؤ الفرح في عيني هذه الحمامة، وهل هناك أجمل من الحياة بعيون من نحب....؟!
كانت هذه الكلمات هي الترتيلة التي يهمس بها عند كل وداع، فتضحك والدموع بين عينيها:
محظوظٌة هذه الحمامة بعشيقها، فهو يرقص مع الموت، ويدفع حياته ثمناً ليسعدها، أدامك الله لمحبوبتك يا ولدي، فهكذا تُعشق سورية.
ومرَّ الشهر والشهران، وفي يوم من الأيام، وفي حصة لها في مدرسة الشهداء، شعور غريب غمر قلبها، ثم بعد ذلك بدقائق استلمت رسالة على هاتفها الخليوي من إحدى الخدمات الإخبارية، تخبرها عن اشتباكات عنيفة في المنطقة التي يحارب بها ابنها، لم يكن بيدها حيلة سوى أن تستودعه لخالقه، وترجو الله أن يحفظه لها ويحميه، تابعت دروسها في المدرسة في ذاك اليوم، حدثّت نفسها، هكذا لن أشعر بالوقت وبجمر القلق. انتهى الدوام ذهبت إلى منزلها، لم ترغب في التفكير بأي شيء، سلمت نفسها للسرير. وفي المساء زُفًّ إليها نبأ استشهاد ولدها، هي لحظة كالموت مرّت على قلبها، شريط حياته مرّ أمامها كله، أول خطوة وأوّل كلمة، أوّل يوم له في المدرسة في الجامعة و.. ولم تستطع ..اختنقت الدموع ثم بدأت تبكي وتبكي وتبكي بحرقة قلب، هي تدري أنه استشهد لخير هذا الوطن، عقلها يدرك هذا، ولكن في النهاية هي أم فقدت ابنها، لكم قرأت عن تلك القصص التي تزغرد بها الأم لحظة وصول نبأ استشهاد ولدها لكنّها هي لم تستطع، لم تستطع أن تزغرد مثلهن، كل ما استطاعت فعله هو ترديد هذه الترتيلة بينها:
أنا أبداً لن أموت، سأكون حياً بضحكات أبنائها بأمانها.. سأكون لؤلؤ الفرح في عيني هذه الحمامة، سورية، وهل هناك أجمل من الحياة بعيون من نحب....؟!
(روح سألون عاللي وليفو مش معو ..مجروح بجروح الهوى شو بينفعو.. ..موجوع ما بقول عاللي بيوجعو .. وتعن عبالو ليالي الولدنة .. )
انتشلها صوت فيروز من ذكرياتها، نظرت إلى الساعة، يجب عليها أن تسرع بالذهاب إلى المدرسة قبل أن تتأخر، فاليوم حفلُ تكريم المتفوقات من الطالبات. كانت الأكثر شعبية بين الآنسات، لذلك تم اختيارها لإلقاء كلمة الافتتاح في الحفل، صعدت إلى المنصة، زارتها ذكرى ابنها الشهيد وهي تنظر إلى الطالبات، تنفست عميقاً، ثم بدأت:
بداية أود أن أشكر تلامذتي الذين قاموا باختياري لإلقاء هذه الكلمة، إنه لشرف عظيم لي، صدقوني أنا بمحبتكم أكبر كل يوم، ثم تبتسم وتتابع حديثها:
دائماً ما أصادف أشخاصاً يسألونني عن السحر الذي ألقيه على تلامذتي كي أنال كل هذه المحبة منهم، فأجيبهم:
ربما لأني أشعر بذاتي أنهنّ هنّ معلماتي وليس العكس، فأنا كل يوم أثناء حصصي الدراسية معهم أستطيع أن أتجاوز جدران الصف، وأن أرى الأمل الذي قدمه ولدي باستشهاده والذي قدمه كل من استشهد من ذويهم في سبيل هذه البلد، هم استطاعوا التفوق بالحياة، والاستمرار بما بدأ به أهاليهم الشهداء وهو إعمار هذا الوطن، في هذه المدرسة اجتمعت جراح الوطن وجراحي وجراحهم، فكان نزيفها زهرة أمل استطاعت أن تزهر من وسط الصخور في قلب الجبل وتلون علمنا بلون الشهادة، فدُمنا للوطن، ودُمنا للأمل.
وعلى عجل ترفرف حمامة أمامها، تحلق فوق الجميع، ثم تختفي في الأفق.