ابن زريق البغدادي
هو أبو الحسن علي بن زريق البغدادي (ت420هـ)، كان له ابنة عم أحبها حبًا عميقًا صادقًا، ولكن أصابته الفاقة وضيق العيش، فأراد أن يغادر بغداد إلى الأندلس طلبًا للغنى، وذلك بمدح أمرائها وعظمائها، ولكن صاحبته تشبثتْ به، ودعته إلى البقاء حبًا له، وخوفًا عليه من الأخطار، فلم ينصت لها، ونفَّذ ما عَزم عليه، وقصد الأمير أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس، ومدحه بقصيدةٍ بليغة جدًا، فأعطاه عطاءً قليلاً، فقال ابن زريق- والحزن يحرقه-: "إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل، فأعطاني هذا العطاء القليل؟!".
ثم تذكَّر ما اقترفه في حق بنت عمه من تركها، وما تحمَّله من مشاقٍ ومتاعب، مع لزوم الفقر، وضيقِ ذات اليد، فاعتلَّ غمًّا ومات.
وقال بعض مَن كتب عنه إنَّ عبد الرحمن الأندلسي أراد أن يختبره بهذا العطاء القليل ليعرف هل هو من المتعففين أم الطامعين الجشعين، فلما تبيَّنت له الأولى سأل عنه ليجزل له العطاء، فتفقدوه في الخان الذي نزل به، فوجدوه ميتًا، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه العينية.
فبكاه عبد الرحمن الأندلسي بكاءً حاراً.
وعينية ابن زريق من عيون الشعر ... قال عنها ابن حزم الأندلسي : "من تختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف"
لا تـعـذليـه فإن العـذل يـولـعـه
لا تَعـذَلِيـه فَإِنَّ العَـذلَ يُـولِعُـــهُ .......... قَد قَلتِ حَقـاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَـعُـهُ
جـاوَزتِ فِي لومـه حَـداً أَضَـرَّ بِـهِ ..........مِن حَيـثَ قَـدرتِ أَنَّ اللوم يَنفَعُـهُ
فَاستَعمِلِـي الرِفـق فِي تَـأِنِيبِـهِ بَـدَلاً .......... مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَـلَعـاً بِالخَطـبِ يَحمِلُـهُ .......... فَضُيَّقَت بِخُطُـوبِ الدهـرِ أَضلُعُـهُ
يَكـفِـيـهِ مِن لَـوعَـةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ .......... مِنَ النَـوى كُلَّ يَـومٍ ما يُـروعُـهُ
ما آبَ مِن سَـفَـرٍ إِلّا وَأَزعَـجَـــهُ .......... رَأيُ إِلى سَفَـرٍ بِالعَـزمِ يَـزمَعُـهُ
كَـأَنَّما هُـوَ فِي حِـلِّ وَمُـرتـحــلٍ .......... مُـوَكَّـلٍ بِفَـضـاءِ اللَهِ يَـذرَعُـهُ
إِنَّ الزَمـانَ أَراهُ في الرَحِيـلِ غِـنـىً .......... وَلَو إِلى السَـدّ أَضـحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تـأبى المطـامـعُ إلا أن تُـجَـشّـمه .......... للـرزق كـداً وكم ممـن يـودعُـهُ
وَمـا مُجـاهَـدَةُ الإِنسـانِ تَـوصِـلُهُ .......... رزقَـاً وَلا دَعَـةُ الإِنسـانِ تَقطَعُـهُ
قَـد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَـلـقِ رزقَـهُـمُ .......... لَم يَخـلُـق اللَهُ مِن خَلقٍ يُـضَيِّعُـهُ
لَكِنَّهُـم كُلِّفُـوا حِـرصـاً فلَستَ تَـرى .......... مُستَرزِقـاً وَسِـوى الغاياتِ تُقنُعُـهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت .......... بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغـيَ المَرءِ يَصـرَعُـهُ
وَالدهـرُ يُعطِـي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُـه .......... إِرثاً وَيَمنَعُـهُ مِن حَيثِ يُـطمِعُــهُ
اِستَـودِعُ اللَهَ فِي بَغـدادَ لِي قَـمَــراً .......... بِالكَـرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَـطلَعُـهُ
وَدَّعتُـهُ وَبـوُدّي لَو يُـوَدِّعُـنِــــي .......... صَـفـوَ الحَيـاةِ وَأَنّي لا أَودعُــهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَـومَ الـرَحيـلِ ضُـحَىً .......... وَأَدمُعِـي مُستَهِـلّاتٍ وَأَدمُـعُـــهُ
لا أَكُـذبُ اللَهَ ثـوبُ الصَبرِ مُنـخَـرقٌ .......... عَنّي بِفُـرقَـتِـهِ لَكِـن أَرَقِّـعُــهُ
إِنّي أَوَسِّـعُ عُـذري فِي جَنـايَـتِــهِ .......... بِالبينِ عِنـهُ وَجُـرمـي لا يُوَسِّعُـهُ
رُزِقـتُ مُـلكـاً فَلَم أَحسِـن سِيـاسَتَـهُ .......... وَكُلُّ مَن لا يُسُـوسُ المُلكَ يَخلَعُـهُ
وَمَن غَـدا لابِسـاً ثَـوبَ النَعِـيـم بِلا .......... شَـكـرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنـزَعُـــهُ
اِعتـَضـتُ مِن وَجـهِ خِـلّي بَعدَ فُرقَتِهِ .......... كَأسـاً أَجَـرَّعُ مِنهـا ما أَجَـرَّعُـهُ
كَم قـائـِلٍ لِي ذُقـتُ البَينَ قُـلـتُ لَهُ .......... الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبـي لَسـتُ أَدفَـعُــهُ
أَلا أَقـمـتَ فَـكـانَ الـرُشـدُ أَجمَعُهُ .......... لَو أَنَّنِي يَـومَ بانَ الـرُشـدُ اتبَعُــهُ
إِنّـي لَأَقـطَـعُ أيّـامِـي وَأنفـقُـهـا .......... بِحَسـرَةٍ مِنهُ فِي قَـلبِي تُـقَـطِّعُـهُ
بِـمَن إِذا هَـجَـعَ الـنُـوّامُ بِـتُّ لَـهُ .......... بِلَوعَـةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهـجَـعُــهُ
لا يَطمِئـنُّ لِجَنـبـي مَضـجَعـُ وَكَذا .......... لا يَطمَئِـنُّ لَـهُ مُـذ بِنتُ مَضجَعُـهُ
ما كُنتُ أَحسَـبُ أَنَّ الدهـرَ يَفجَعُـنِي .......... بِهِ وَلا أَنَّ بِـي الأَيّـامَ تَـفجـعُــهُ
حَتّى جَـرى البَينُ فِيما بَينـَنـا بِيَـدٍ .......... عَسـراءَ تَمنَعُـنِي حَـظّـي وَتَمـنَعُـهُ
قَد كُنتُ مِن رَيـبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً .......... فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُـنـتُ أَجـزَعُــهُ
بِاللَهِ يا مَـنـزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَسـت .......... آثـارُهُ وَعَـفَـت مُـذ بِنـتُ أَربُعُـهُ
هَـل الـزَمـانُ مَعِيـدُ فِيـكَ لَذَّتُـنا .......... أَم اللَيالِي الَّتـي أَمضـَتـهُ تُـرجِعُــهُ
فِي ذِمَّـةِ اللَهِ مِن أَصبَـحَـت مَنزلَهُ .......... وَجـادَ غَيثٌ عَلى مَغـنـاكَ يُمـرِعُــهُ
مَن عِنـدَهُ لِي عَهـدُ لا يُضـيّـعُـهُ .......... كَما لَهُ عَهـدُ صِـدقٍ لا أُضـَيّـِعُــهُ
وَمَن يُـصَـدِّعُ قَـلبـي ذِكـرَهُ وَإِذا .......... جَـرى عَلى قَلبِـهِ ذِكـري يُصَـدِّعُـهُ
لَأَصبـِرَنَّ على دهر لا يُـمَتِّـعُنِـي .......... بِهِ وَلا بِيَ فِي حــالٍ يُـمَـتِّـعُـــهُ
عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِـبُ فَرَجـاً .......... فَأَضيَـقُ الأَمـرِ إِن فَـكَّـرتَ أَوسَعُـهُ
عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَـت بِفُـرقَتَنا .......... جِسمـي سَتَـجمَعُـنِي يَـوماً وَتَجمَعُـهُ
وَإِن تُـغِـلُّ أَحَـدَاً مِنّـا مَـنيَّتَـهُ .......... فَما الَّذي بِقَضـاءِ اللَهِ يَـصـنَـعُـــهُ
ولا يعرف لابن زريق غير عينيته هذه، التي حظيت باهتمام كبير من الشعراء والأدباء على مر العصور، فعارضها أبو بكر العيدي (ت580هـ) بقصيدة من 49 بيتاً مطلعها:
لي بالحجاز غرامُ لست أدفعه ....... ينقاد قلبي له طوعاً ويتبعه