أصولهم التاريخية:
تجمعات الفيلية منشطرة على شقي الحدود بين العراق وإيران، و تصنيفهم يرد مختلفا فيها. فهم (أكراد) أو (فيلية) في العراق،بينما نجدهم (لور) أو (لك) في إيران التي لا يتداول فيها إصطلاح "فيلي". و وجودهم في العراق يمتد ابتداءا من أراضيهم التي تقع في إقليم "عيلام" و"لورستان" المتاخم للحدود الجنوبيةالعراقية الإيرانية حتى تخوم كرمنشاه ، في منتصف الشوط بين السليمانية والبصرة . ويطلق على إقليمهم عادة تسمية (بشت كو) وتعنى "ظهر الجبل" والمعني بذلك ظهر جزء من سلسلة جبال زاكروس (القسم المسمى كور كوه)،وهكذا قسمت المنطقة إلى ظهر الجبل باتجاه العراق وأمام الجبل(بيشكوه) بإتجاه قلعة كريت ثم إمتدادات إقليم أصفهان. ويمتد تواجدهم عادة باتجاه الجنوب على الضفاف الغربية لوادي (السيمره) (الذي يمكن أن يكون حدود سومر القديمة) حتى الاحواز في الجنوب عندما يصب هذا النهر في نهر (الكرخة) الذي يصب بدوره في (شط العرب). ويمتد نشاط التجمعات "الفيلية" غرباً ليصل تخوم مياه دجلة ولاسيما بعد انحرافه الأخير في القرن السابع عشر الميلادي عندما اقترب كثيرا من سفوح تلك الجبال. ونجد فروق بسيطة بين لهجات القاطنين عادة على الضفة الشرقية للوادي الذي يتدفق جنوبا حتى مراعي قبائل (البختيارية) الجبلية البدوية المعروفة بصعوبة المراس وتنقلهم وراء الكلأ والمراعي في هذا الأقليم .
وثمة الكثير من الأراء بشأن أصل تسمية "فيلي" فمنهم مثل (هنري فيلد) يفسرها بمعنى العاصي والمتمرد،ووردت بحسب البعض بمعنى الشجاع والفدائي. وثمة مستشرقين مثل (جورج كامرون)، يرجع التسمية الى أسم الملك العيلامي (بيلي) الذي حكم وسلالته بين أعوام 2670- 2220 ق.م .ومنهم من يرجع التسمية الى أسماء حديثة كونهم أتباع لأمراء ملكوا قبل قرون قليلة،وحرف أسمهم ليكون (فيلي).
وبعيدا عن أهواء المستشرقين الألمان مثل (هوكو كروته)، ممن أراد أن يسبغ صفاءا "آريا" على تلك الأصقاع،وكونهم ورثة عيلام الآرية . وثمة من بحث عنهم بموضوعية نسبية مثل الروسي جريكوف والدنماركي فيلبرك والأنكليزي لايارد،الذين أختلفوا في إرجاع أصلهم ،كونهم هجين من السحن،بغض النظر عن اللغة التي يمكن إكتسابها وتقمصها تراكميا،ولدينا الكثير من الأمثلة اليوم على تغيير لغات الشعوب،كما هي لغة (الأردو) في الهند. وبالرغم من جزمنا على عدم وجود أجناس ناشزة الصفاء وغير متهاجنة في هذا الموضع الوسطي من الدنيا ، فأننا نؤكد استنادا إلى فيصل الدلائل الحفرية،والتي تشير بأن تلك الأصقاع كانت تاريخيا من ضمن النطاق الثقافي والتأثير الحضاري العراقي. فـ( سوسه وسربيل ذهاب وقصر شيرين وكرمنشاه وعربستان أو الاحواز) وماخلفها،مواضع صريحه لرسوخ الأعراف الحضارية و الإجتماعية واللغوية والفنية و البنائية العراقية. وثمة الكثير من الدلائل الدامغة التي أظهرتها و قلبت الكثير من مسلمات المفاهيم التي وردت حتى القرن التاسع عشر بكون هذه الاصقاع فارسية محضة، و من المعلوم أن الفرس ولجوا التاريخ بعد السومريين بحوالي ثلاثة آلاف عام،وتقمصوا روحا عراقية في كل شؤون حياتهم،وما العمارة والفنون إلا خير أدلتها.
ونذهب هذه الدلائل التاريخية والآثارية إلى أن الفيلية هم من الفئات العراقية التي مكثت على أطراف(بلاد النهرين) تاريخيا وجغرافيا. وكما بدل العراقيون لغاتهم مرارا،فقد بدل القوم هنا لغتهم بحسب مناخات الدول والثقافات المشتملة. ونجد في ملحمة كلكامش،ما يؤكد بأن (أنكيدو) قد ورد من الجبال المتاخمة لسومر،ولاتوجد غير جبال (بشتكو) الفيلية. ولم تشير الملحمة الى فرق لغوي بين الرفيقين ،بقدر ما تبين الملحمة تناغما روحيا وثقافيا،وتكاملا في السجايا. ومازال يكتشف بين الحين والآخر مفردة سومرية هنا أو هناك بالصدفة بين طيات اللغة الفيلية،ويعزوها بعض القوميين الى كونها كردية،وهو محض مبالغات قومية،فثمة فروق جوهرية في بنيوية وصيغة اللغات الآرية الفارسية( ومنها الكردية) وبين السومرية. نعتقد أن الفيلية أقدم من الفارسية نشوءا وتكونا. وعلى العموم فالسومرية لغة مقطعية، بينما اللغات الآرية الفارسية هجائية. ولو تسنى لنفر من الباحثين التعمق في الدراسات اللغوية المقارنة،لوطئوا فتوحات في تلك الروابط المشيمية بين الفيلية والسومرية،بعد أن تجشم الأبعدون وحثوا البحث، وتفذلكوا وأقروا أن ثمة صلات بين اللغة الهنكارية و السومرية ،وهما يقعان على شقي تناء جغرافي .وتناسينا او استبعدنا أن تكون الفيلية المتاخمة لسومر الشرقي إحدى بقاياها.
وهكذا مكثت سجية الفيلية الموروثة منذ سومر وتواصلت تجمعاتهم و تداخلت بالغريزة الجماعية مع سكان مدن الكوت وتوابعه وقراه مثل (الحي وواسط وعلي الشرقي والغربي والعزيزية وبدرة وجصان ومندلي وبلدروز وزرباطية )،وكذلك مع العمارة وجنوبها ،بعد أن سكنتها عوائل(دو زاده) الفيلية،ولم نعد نفرق اليوم بين سكانها باللسان والجوهر والمظهر.وربما تأثر الفيلية ردحا باللغة الآرامية العراقية،التي أثرت في فارس ومصر وجنوب الجزيرة العربية وآسيا الصغرى،وكانت بؤرتها المشعة على الشرق،مدينة (بيت العابات) أو (جنديسابور) التي تقع في الاحواز المتداخلة مع مناطق الفيلية. و نجد اليوم أن أقدم مدن المنطقة هذه هي (بدرة) التي وردت بأسم "بدرايا" في كتب الرحالة والمؤرخين، وهو أسم ذات أصل آرامي شرقي "عراقي" والذي انحدر من مركب (بيث ذرايا) وتعني محل الذين يذرون الحبوب .
وقد يجد المرء دلائل قاطعة على أن تلك الأصقاع قد وطأتها عدة أقوام منذ السومريين وكان سر امتزاجهم يتبع تكامل المنفعة الاقتصادية بين تجمعاتها البشرية من رعي وزراعة وبعض الصناعات الحرفية ثم التجارة. وقد امتد الحال على ذلك المنوال حتى لمسنا أواخره خلال أواسط القرن العشرين عندما كان الناس يتبادلون المنفعة من خلال مقايضة سلعهم وبيعها،ومازال نسوة الكوت يفخرن بأنهن أقتنين أو اسلافهن (رحه) من صناعة أنامل فيلية، وداولناها منذ كذا عقد من السنين . فقد أختص الفيلية (بتنقير) الرحا المصنوعة من حجر(بشتكوه). زيادة على هذا التكامل الإقتصادي الذي يطبع فئات الناس هنا، فأن ثمة آلفه فريدة تجمعهم ،ولاتفرق بينهم في اللسان أو الرّس(العرق) او الدين .وقد يكون للعامل المذهبي(الشيعي) اللاحق أهميته ودوره الفعال في ذلك التجانس والتداخل والتزاوج، حيث أن كل سكان هذه المناطق من المسلمين على المذهب الجعفري. ومن الجدير بالذكر هنا أن الفيلية من أكثر فئات الشيعة إعتدادا بمذهبهم الإثناعشري،ومطبقين لفقهه وأحكامه.وهكذا فأن ولائهم المذهبي يفوق أي ولاء آخر،وقد أراد البعض أن يشيعوا ولاءا قوميا بينهم،لكن الأمر لم يقنع إلا اقلية منهم، وخصوصا بعد سياسة القمع والتهجير العنصرية البعثية ضدهم..
تقسيمات الحدود:
ومشكلة الفيلية تعود بالأساس إلى تداول الدول والحكام في ذلك الصقع ، حيث أن جذور مشكلتهم تعود بالأساس إلى تخطيط الحدود السياسية بين الدولتين الفارسيتين "الصفوية" ثم "القجرية" من جهة والتركية العثمانية من جهة أخرى. حيث إنها لم تضع فاصل منطقي معقول للتضاريس الطبيعية والبشرية و لم تتمكن من الوصول الى الحد الأدنى من امتداد الأجناس والسحن والملل والنحل على جانبي الحدود .و لنأخذ نماذج على ذلك فهاهي السليمانية لا تختلف عما يقابلها من تجمعات كردية في إيران ، ثم نهبط الى خانقين التي تحاكي قصر شيرين بنفس اللهجة والأعراق ثم "بدرة" و"جصان" مع ما يحاكيها مع "بشت كو " وانحداراً الى الجنوب تبدأ "العمارة" و"هور الحويزة" مع ما يقابلها في "البسيتين" بنفس السحن والثقافة واللسان، الى الحد الذي تنقسم فيه العائلات على جانبي الحدود .ثم تليه البصرة والاحواز(خوزستان) اللذان لا ريب في وحدتهما ويستمر الحال جنوبا حتى دبي وبستك وبندر عباس على ضفتي الخليج .
وهكذا نستنتج أن تلك الحدود الموروثة من الدولة العثمانية لم تضع فاصلا لامتداد البشر بين الصوبين وينطبق ذلك على (الفيلية) الذين كانوا قد أنصفتهم التقسيمات الأولى لاتفاقيات "ارضروم " المتعددة المراحل ،عندما جعلتهم من حصة العراق ولكن ذلك الحال لم يستمر طويلا، فقد رضخت الدولة العثمانية لابتزاز (الروس) من الشمال إبان ضغوطهم في حروب "القرم" المتتالية ، والأنكليز من الجنوب ، ليصب بالنهاية في صالح "فارس" الذين كان للروس طمع في وراثة أرضهم كما آسيا الوسطى، بما يطلق علية الحلم الروسي السرمدي "للوصول الى المياه الدافئة". وهكذا امتدت الحدود في اتفاقية "ارضروم" الأخيرة التي تجسدت عام 1905 لتترك لهؤلاء سوء العاقبة بعد أن فصلتهم عنوة عن محيطهم ومنحدرهم الطبيعي الى سهل دجلة المتداخل مع فطرتهم التاريخية.
لقد جرى وضع الحدود بحيث أعطيت منطقة (سومار) الفيلية الى إيران مقابل (هورين شيخان) و(قوتو) التي ردتا للعراق . ووضع (بشت كو) يدخل في تلك الفوضى الحدودية والتي أضحت إحدى ضحاياها ، حيث قسموا الى أشلاء . فمثلا مدينة (مندلي) التي تقع اليوم على الحدود كانت حدودها تقع حتى (دير اله) داخل الحدود الإيرانية اليوم وما يدلل على ذلك هو وجود مخفر داخل عمق الأراضي الإيرانية يسمى (مخفر العثمانيين) وكان لها عدة قرى تحمل أسماء عراقية مثل (طيب) و(بيّات) . ويتذكر المسنين من أهل المنطقة أو الناقلين عنهم بانه عندما كانت تتقوى العشائر الواقعة داخل الحدود الإيرانية على حكومتها المركزية من أمثال عشيرة (كلهور) أو (لورستان) التابعة الى (بشت كوه) ونزوحهم عند الضرورة الى مندلي عند ذلك يحدث تفاوض بين الاهالي وبين اميرها أو حاكمها مستغلين مجيئه للصيد داخل الحدود العراقية وبعد شئ من الرشوة يغض الطرف عن رجوعهم أو حتى عن تقنين قدوم المياه الوارد إليها أو المراعي التي يستغلها العرب والكرد والتركمان من سكنة المنطقة .
التكوين الاجتماعي:
على العموم فانهم يحملون في سجاياهم لطف وألمعية وكياسة وصدق المعاشرة ورهافة المشاعر والأريحة واللماحية والذكاء الفطري . وهم أصحاب نكته وفكاهة ومجالسهم تعج بها. ولغتهم تحاكي الكردية في جوانب،وتختلف عنها في جوانب أخرى .وقد أراد المستشرقون "القوميون" يشيعوا بأن لغتهم وكذلك اللغة البختيارية كانت اللغة التي اعتمدتها الحضارات في عيلام وميديا في الألف الأول قبل الميلاد .ومن الجدير ذكره أن بغدادييهم تقمصوا اللهجة البغدادية بحذق، او امتزجت الكلمات العربية في لغتهم بهجين جميل يتندر عليه البعض منهم،ولاسيما غلاة القوميين الأكراد
والمجتمع الفيلي مجتمع تحكمه العشائرية ويشبه الى حد بعيد باقي المجتمع العراقي. من اكبر عشائرهم قبيلة "ملك شاهي" وتليها (علي شيرواني و شيرواني ) و(الباوي) و(الكلهور) و(ممسني) و(القيتول) و(كالاواي) و(الماليمان) و(الكردلية) و(الداراواني) و(السيسية) و(الزورية) و(الكاكا) و(الخزل) و(الزنكنه).ومن الطريف وجود عشيرة أسمها (السوره مري)وهي من أقدم العشائر بما يوحي ربما بإحتفاضها بأسم سومر. وعشائر الفيلية فيها حمائل وأفخاذ متعددة (لنك) وبيوتات وسع من ألقابهم. ونجد منهم قبائل "عربية" صميمة مثل عشيرة (عرب رودبار) الذين يتكلمون مع الأخرين بالفيلية وفيما بينهم بالعراقية (اللهجة الشرقاوية) .ونجد منهم من هو من أصول أفريقية سوداء مثل عشيرة (الكاكا) الذين لاتفرقهم مع الخلاسيين الأفارقة ويتكلم بعض منهم العربية والفيلية . وقد اختلطوا مع عرب بني لام وربيعة وشمر الطوقة والبو محمد من ارض العراق الوسطي والجنوبي وتجمعهم بهم أواصر تصاهر حميمة بالرغم من بعض بقايا أدران المنافسة على المراعي في منطقتهم التي ليس لها حدود معلومة ومحددة مع جيرانهم من (بني لام) .
أما سحنهم واشكالهم فهي هجين متداخل بين الأقوام العراقية القديمة والعرب والعجم حتى لنجد بينهم الأشقر الفاقع وكذلك الأسمر الداكن ،ولكنهم عموما صبوحي الوجوه .والمرأة الفيلية جميلة على العموم،ولديها طريقة جذابة في الكلام. ولتلك المرأة منزلة إستثنائية في تجمعاتهم،فرضتها على الفئات الأخرى في المجتمع العراقي،حيث تتصف بقوة الشخصية ورجاحة العقل وعفة مفرطة، ناهيك عن حسن الجوار وصدق الحوار.وثمة حاجة لتدوين سيرة الكثير من النسوة الفيلات اللاتي تركن سيرا ثرية ورائهم، يتداولها القوم، كما هي سيرة (قدم خيربنت الأمير قندي القلاوندية)،التي ثارت على شاه إيران الأخير،وكذلك(نازي خانم) الثائرة،وغيرها.
لدى قروي الفيلية عادات غريبة منها البكاء والعويل على المريض أو حث نهر دجلة على الفيضان إذا تأخر موسمه وذلك بإلباس فتيات جميلات يغنين للنهر ويدخلن في مياهه ليحثنه على الفيضان. وهي تشبه فعلة المصريون القدماء مع النيل الى حد بعيد. ومن عاداتهم انهم يبعثون أولادهم الصغار الى الجبل ليتربوا في كنف الحياة الخشنه عدة أعوام ليعودوا بعد أن استوى عودهم . وهم يشبهون في ذلك عرب الجاهلية كما هو معلوم . ومن عاداتهم أنهم يشعلون النار ثلاثة أيام عند القبور بعد الدفن لاستئناس الموتى بضوئها كما يعتقدون . وفي الحقيقة يكمن مغزى ذلك في إبعاد الحيوانات المتوحشة عن القبر.
والفيلية صناع مهرة لايستعيبون الحرف مثل أهل البادية ، فهم يقومون بصنع الدهن الحر في (العكة) وجز الصوف وصبغه وغزله ونقر الرحي من قطع الحجر وتقطيع الجلود وصناعتها وتسويق كل ذلك في منطقة الكوت ودجلة الأوسط . وقد شهدت أراضيهم سنوات الجفاف والقحط مما دفعهم الى هجرات باتجاه سهل دجلة الذي اعتادوا التعامل معه سابقا بسجيتهم و أخر تلك الرحلات الكبرى كان إبان الجفاف والازمة الإقتصادية العالمية التي حدثت في الثلاثينات ثم تلاه جفاف أخر في الأربعينات من القرن العشرين عندما أوصلتهم أقدامهم الى بغداد التي كانت تبشر برخاء وتطل برأسها كالعنقاء من بين أنقاض القرون الخوالي العجاف .ومن الوارد في كتب التأريخ أن (الفيلية) قد اعتادوا سكن بغداد فبل تلك الأزمنة بكثير وذلك ابتداءً من القرون المزدهرة في تاريخها عندما كانت لهم الحظوة والوجاهة أيام مجدها في القرن العاشر الميلادي وما تلاه .وقد اسس بعض الأمراء الفيلية سلطات في مدن العراق كما الأمير ذو الفقار نخودي الفيلي الذي حكم بغداد بين أعوام(1524-1530م).
لقد اتصف القادمون في الثلاثينات وما تبعها بالجدية وصفاء السريرة ،و توجه قسم منهم للعمل بأسواق بغداد كحمالين يحملون ثقيل الأوزان بما لا يستطيع عليه سكانها من الحضر،ومن الجدير بالذكر أن العانيين(القادمين من عانه) نافسوهم في هذه الحرفة،لكن الفيلية كانوا مرغوبين من تجار بغداد لأمانتهم وإستقرارهم في بغداد ولاسيما تجارها اليهود الذين كنّوا لهم الاحترام على تفانيهم و إخلاصهم وصدق تعاملهم .
وعندما نُكب يهود بغداد وطردوا من ديارهم أو استفزوا في تركها عام 1950 وماتلاها،حل الفيلية محلهم وأنشأوا طبقة من الحدادين والتجار الحاذقين المتسمين بالتواضع .ومن مناقب بعض من أرتقى الى صفة تاجر أنهم كانوا يضعون (بالة الحمالة) في صدور حوانيتهم تواضعا وإقرارا بعصاميتهم وبتدرجهم في حرفتهم هذه ومنزلتهم التي لم تأت إلا بالكد والعمل المتفاني .ومن الشخصيات البغدادية الفيلية التي توسمت بالتواضع هذا المرحوم حافظ القاضي. وبعض من آل قنبر وهم من أكابر التجار في أسواق بغداد .
وثمة الكثير من الشخصيات الفيلية التي ساهمت على أعلى المستويات في النشاطات الثقافية والعلمية والرياضية يملئ قوائم عديدة.ويتناقل الكثيرون بان الشاعران العراقيان الرصافي والزهاوي وكذلك الشخصية الموسوعية التي أشتهرت بكلمة "قل ولا تقل " العالم مصطفى جواد ،من الشخصيات العراقية ذات الأصول الـ(فيلية).
و تسنى لطبقة التجار والكسبة "الفيلية" تعليم أبنائهم من الجيل الثاني ونال الكثيرون منهم الحظوة العلمية والمهنية .وأنخرط الجيل الثاني بعمق في الحياة البغدادية كأي من أهلها ، ومارسوا السياسة بمشاربها المتعددة كأي عراقي ونأخذ هنا مثالين على طرفي نقيض " بغض النظر عن الرأي فيهما وطبيعتهما وسمعتهما الأدبية " وهم الشقي البعثي ( جبار كردي) و الشخصية الشيوعية (عزيز الحاج)،مرورا بـ(صباح مرزة) الذي رافق صدام لردح من السنين . أنخرط جل الفيلية في الحركات اليسارية ،وحدث أن هبوا بصدورهم مدافعين عن حرمة العراق ومكاسب الجمهورية فيها أمام دبابات انقلاب 8 شباط 1963 الذي أوصل حزب البعث الى سدة الحكم . ويذكر الجميع كيف عصى حي "شارع الكفاح" و"عقد الأكراد" و"القشل" سلطة الانقلابيين لأيام .وراح من جرائ تلك المواجهة غير المتكافئة، ضحايا كثر من الفيلية ، وسالت بسببها دماء غزيرة سطرت أجمل صفحات التاريخ التي يعتز بها العراقيين .
المعانات والقمع العنصري:
و مثلما كان ديدن سلطة البعث بالإنتقام من الشعب العراقي ،فقد جسدوا الأمر منذ بواكيرهم ضد الفيلية على خلفية الضغينة التي حملوها لهم منذ أحداث إنقلاب 8 شباط.وهكذا فقد أولت سلطة البعث بعد عودتها بقوة في انقلاب 17 تموز عام 1968 . وطفقوا يوحون خلال خطابهم الغامز بكون هؤلاء الفئة "أعاجم " من ذوي "التبعية الإيرانية".فشرع بتهجيرهم أفرادا وجماعات ابتداء من العام 1970 ،وكان غلوائها قد حدث بعد العام 1979 حينما تبوأ صدام هرم السلطة، وما تلاها من أحداث مثل إيقاده الحرب ضد إيران .وحدث إبان تلك الأيام العصيبة،وانشغال الناس بالمحافظة على أرواحهم من محرقة الحزب و الحرب،والوزر الذي حمله مثقفيهم وهم يقبعون في جبهات القتال مجبرين.حينها وفي ذلك الفراغ وتحت غطاء ومقتضيات الحرب القاهرة، تم سبي (الفيلية)،وانتزاعهم من ديارهم بقسوة، وصودرت كل ممتلكاتهم ولاسيما التجار الكبار الذين كانوا يشكلون عماد التجارة العراقية.وقد عملت السلطة (كماشة إنكشارية) على تجار بغداد وجلهم من (الفيلية) ،بعد أن أستدعتهم الى إجتماع موسع لـ(غرفة تجارة بغداد) ، وأقتادتهم من هناك مباشرة لترميهم على الحدود ثم نعتت لهم جهة إيران ،وودعتهم باطلاقات في الهواء لأرهابهم .
وقد استثنت السلطة من كل عائلة فرد أو أثنين "كرهينة" رموا في غياهب السجون منذ ذلك الحين ولم يعرف مصيرهم وذلك لضمان عدم إثارة لغط وكشف فضائح أو مطالبة بحق من لدن عوائلهم التي رمتهم السلطات العراقية في المنطقة المحرمة المزروعة بالألغام على حدود البلدين ليسيروا حفاة عراة عشرات الكيلومترات ليصل منهم القوي القادر ويموت منهم الضعيف من الشيوخ والمرضى والنساء إرهاقا وحنقا على ذلك المصاب .ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الشباب الذين حبستهم سلطة البعث، شكلوا حصة الأسد في المقابر الجماعية التي كشفت بعد السقوط المروع للبعثيين.
وحينما حلت جموع المهجرين الفيلية في إيران تلقفهم الإيرانيون ليضعوهم في ملاجئ وخيام عانوا خلالها من شظف العيش . وتخلى الجيل الذي نشأ في إيران من حقه في التعليم،وقليل من سنحت له الفرصة بذلك،وهكذا نشأت طبقة من الأمية الثقافية في صفوف جيلهم الجديد. ثم حدث أن أنخرط هذا الجيل وما قبله تباعا في حياة المدن الإيرانية ليجدوا أنفسهم غرباء يعانون من القهر والفرز والفاقة .لقد فرزتهم الثقافة القومية الفارسية العنصرية،واشاعت عنهم تهكما "عربا" . وهكذا ذاقوا الأمرين بين (حانة ومانة) على جانبي الحدود،حيث عانوا من دعاوى التعجيم "التفريس" في العراق، ثم "التعريب" في إيران.
وهكذا حمل الفيلية في إيران والمهاجر مفاتيح بيوتهم العراقية كأوسمة إنتماء لبلد ملئته رفات أجدادهم وأحتظنت تربته رياض أأمتهم وسادتهم المقدسين. ويحدوهم اليوم الأمل برد الإعتبار لهم وإنصافهم وجبر خواطرهم وتعويضهم عما فقدوه عند ترحيلهم مكرهين. وهاهو العراق قد عاد لأهله ،وهاهم الفيليون يؤكدون عراقيتهم ويشدون الرحال إليه،فقد نطق حتى مولدي المهاجر بلسان عراقي قويم،على خلاف "حراس القومية" المتشدقين بلغاتهم.كل ذلك يدعونا الى وقفة أخلاقية ،يتبناها العراقيون جميعا،ولاسيما مثقفيهم ممن أحب كل ماهو عراقي،وأخلص لفئاته المتحابة على حبه، ونبذ أي تفريق أو تفريط بنحلة أو ملة أو طائفة.
منقول من بحث للدكتور علي ثويني