سجين سياسي – الحلقة الاولى
بقلم ابو عبد الله (مواطن عراقي)
مقدمـــة توضـــح وجهة نظر الكاتب
سأحاول هنا ان اروي لكم الاحداث التي مرت بي خلال اعتقالي وسجني في الاحداث التي جرت خلال عام 1991 والتي يحلو للبعض تسميتها بالانتفاضة لانها هكذا بدأت عفوية وشعبية لكنها تحولت الى مؤامرة على الشعب العراقي انتهت بكارثة موجعه لم ولن ننساها
تحولت الانتفاضة بعدها الى مؤامرة خارجية ( حسب رأيي ) او لاقل تلاعبت ايد في الخفاء في مجريات الامور ..... انتشر مسلحون مجهولون شرعوا بتدمير البلد من الداخل في خطة ممنهجة ....
لقد تحولت الامور بشكل رهيب الى تدمير المنشات الحكومية ودوائر الدولة وحرق المدارس والمستشفيات ..... تسائلت ..... أي ثورة هذه تدمر مصالح الامة ؟ ..... لماذا تحرق سجلات النفوس والطابو والبلدية والمستشفى .... انها ليست ملكا لصدام ولا للبعث .... انها ملك للشعب وفي خدمته .... ثم انها ليست دوائر امنية ؟ ولم ترتكب فيها الجرائم ضد الشعب ؟ ............
حيث تم دفع مجاميع من الاوباش لمحاولة تجيير الانتفاضة العفوية لصالح جهات معينة واحزاب معروفه لكنها سرعان ما هربت عندما حمت الحديدة وتركت الشعب مكشوفا امام السلطة والجبروت , لم تحاول هذه الجهات اثبات وطنيتها بالوقوف والقتال ضد الطغيان بل غررت بالناس البسطاء
لقد سقطت هذه الجهات في هاوية العمالة واللاوطنية في يومها
أنا شاهد على العصر لانني كنت قريبا جدا من الحدث
الانتفاضة كانت رد فعل طبيعي على سنين الحرمان والظلم وجاءت من الشعب حتى ان احدا لم يؤذ جنديا او ضابطا او شرطيا بل وفر الناس لهم الطعام والملابس واوصلوهم بأمان الى اقرب نقطة ليذهبوا الى بيوتهم
ربما ستزعج وجهة نظري هذه اشخاصا يختلفون معي في الرأي ولكن
(الي ما بيه خير لناسه بوكت الشدة ... فما بيه خير)
من جانب اخر تواطئت امريكا مع صدام وسمحت له باستخدام اسلحة وطائرات لقمع الانتفاضة , فكانت مؤامرة دفع العراقيون ثمنها من دمهم وعمرهم
فان كانت هذه الجهات فعلت ذلك لانها ارادته فتلك مصيبة
وان فعلته لان امريكا ارادته فالمصيبة اعظم
*
اقلتني سيارة مظلله النوافذ الى حيث لا ادري
كانت عيناي معصوبتان ويداي تنوئان من ضغط القيد الحديدي وروحي تنوء من امتهان انسانيتها , لا ادري كم من الوقت استغرقت لاصل , او كم من الوقت استغرقت في استعراض كم هائل من الذكريات التي راحت تتداعى امام عيني بدون ترتيب منطقي او حتى ترابط منسق , مجرد فوضى , فوضى في التوقيتات وفوضى في الانطباعات التي تركتها في نفسي وحتى مدى تأثيرها على مسيرة الاعوام الثمانية والعشرين التي عشتها
ترجلت من السيارة ومشيت خطوات لا ادري الى اين ووضعوني في مكان ما وجائني صوت اجش كأنه يصدر عن شيطان قائلا : أوگف هنا ....
هل قال لي ان انتظر ؟ ام تهيأ لي وانا لا ارى شيئا واعترتني قشعريرة سرت في بدني , لم اكن خائفا , او على الاصح ضاع خوفي مما انا مقبل عليه وسط ما اواجهه من امور غريبة عني , هل انا مصدوم ؟ خائف ؟ مرتعب ؟
لم اكن ادري , كنت اعيش خارج الزمان وكأنني في حلم او كابوس
كنت واثقا انني سأصحو منه
لم اتحرك من مكاني خطوة واحدة , لا ادري لماذا حتى لم افكر في ذلك
اعترتني لحظة من صحوة العقل لاحاول ادراك ما انا فيه , لكنني غرقت ثانية في ذهولي وحاولت الغوص في اعماق اعماقي لأتساءل
ماذا هناك ؟ واين هنا ؟ ومتى سأعرف ؟
لماذا جسدي متشنج ؟ فلأحاول ان استرخي ربما سيفيدني ذلك في المواجهه
لكن ...........
.....؟
ماذا سأواجه ؟ ومن سأواجه ؟
هل ستكون مواجهة من التي اعتدتها ؟ منذ اعوام ؟
تشجعت عندما تذكرت ما واجهته كثيرا ........ انه الموت هو من واجهته وجها لوجه وكنت اظن انني هزمته وكنت اهزأ به.... فقد خضت معارك عديدة في الحرب .... كانت اخرها على اطراف البصرة
في الشلامجه ....والتنومة
لكن .... لماذا ؟ ....... لماذا ساقي ترتجفان ؟
صرخ في داخلي صوت ينهرني
لا ترتجف من الموقف ....
قلت في نفسي : لو كنت اعلم ما اواجهه لما خفت
لكنه مجهول وكلنا يخاف المجهول .... اه ... ليتهم يأتون ويقولون لي ماذا يريدون لاعرف وارتاح
ربما كانت ساقاي ترتجفان من اثر الساعات التي قضيتها مقيدا وملقى في السيارة التي اتت بي ؟ او ربما من السهر ؟
كلا .... كلا .. لا هذه ولا تلك انه عظم ساقي التي كسرت قبل اعوام وكانت تؤلمني دوما عندما ابذل جهدا او اتعب من الوقوف
لست خائفا ... نعم انا لست خائفا ... لكنني ..... لكنني .........
لكنني ماذا ؟
بدأت استعيد قدرتي على التركيز شيئا فشيئا
حركت رأسي يمينا ويسارا واستطعت ان ارى من اسفل النظارة القماشية القاتمة المربوطة بشريط مطاطي خلف رأسي
انا اقف على ارضية من البلاط القذر الذي اسود لونه
رفعت رأسي فكان امامي حائط قد ضاع لونه , وضوء النهار يملأ الغرفة من خلفي فلا بد ان هناك نافذة ما , حاولت الالتفات لكنني اقتنعت ان لا جدوى من رؤية النافذة ...... ولماذا اريد ان اعرف اصلا ؟
فلن ابقى هنا للابد
تخيلت للحظات أن شخصا ما سيأتي ويقول لي ان هناك خطأ ما ويعتذر مني ويتركني اذهب , واستمتعت باللحظات التي عشت هذا الخيال بها
احسست بأمل ينبعث داخلي
قررت ان اهدأ واراجع نفسي لأقيم موقفي
استعرضت الايام الاخيرة منذ اللحظة التي انقض علي هؤلاء الناس الى اليوم الذي بدأت فيه الاحداث في الخارج
الخارج ؟.......... تعجبت من طريقة صياغتي للكلمة
تأملت .... ترى كم من المواقف في حياتي صغتها بكلمات لا تعبر عن واقعها ؟
أم أنني .... على حافة الانهيار ؟
كنت محتاجا جدا لرباطة الجأش التي تمتعت بها كثيرا في الخارج
ها قد عدت مرة اخرى الى الخروج عن الواقع
او بالأحرى محاولة هروبي منه
تململت في مكاني ..... وفكرت انه لا بد من وجود شئ ما استطيع الجلوس عليه لأن ساقاي قد تراختى وشعرت بالكلل
درت برأسي في اتجاهات الغرفة كافة .... لكنها كانت خاوية
فلأجلس على الأرض ... لكني للحظة فكرت ان جلوسي سيعني انهزامي واذلالي
لا ادري لماذا ... لكنني هكذا أحسست
لكني احتاج الى الجلوس الان فقد تعبت من الوقوف
فجأة احدث الباب صريرا لمزلاج حديدي – ها قد اتوا اخيرا – يجب ان اكون قويا ومتماسكا
جائني صوت يقول : تعال
ويد امسكت بكتفي وسحبتني الى الخارج , خمنت انه شخص لا يتمتع بالأخلاق بحركته التي احسست معها انه جلاد او منتقم
لكن لماذا ؟ لماذا يهين انسانيتي ؟ لا بد انه سيندم كثيرا ويلوم نفسه عندما يكتشف الخطأ الذي حصل معي
اركبوني سيارة اخرى وعرفت ذلك لأنني جلست على مقعد خلفي
وسارت بنا مسرعة ودارت عدة استدارات جعلتني اضيع حساباتي في تخمين الاتجاه الذي نسلكه
انا اعرف انني قبل دخولي هذا المكان عبرت جسرا ما
لان احد الموجودين قال للاخر : اليوم الجسر مزدحم
خمنت انها مديرية الاستخبارات العسكرية العامة في الكاظمية , التي كانت تهتز لها الابدان عندما تذكر فهي مؤسسة غامضة او لأقل مخيفة لكثرة القصص التي تروى عنها وبالذات – الشعبة الخامسة –
ولم يرى احد معتقلا في هذه الشعبة خرج منها الى الحرية
فأما السجن او القبر ..............
وقفت السيارة ,,,,,,,,,, فتح الباب وانزلني ذات الشخص الذي اركبني ساحبا يدي بعنف وسمعته يقول : استلم ........ هذا غوغائي ....... توه بين
وقام بفتح القيد الحديدي من يدي لكنه ابقى عيوني معصوبة .......
صدمتني الكلمة ...... لأنها كانت تمثل عندي من شاركوا في العنف الاخير مدفوعين بقصد ان يفرغوا الانتفاضة الشعبية من محتواها......
او على الاقل لينتحلوها لأنفسهم ومن يقف ورائهم ..... كنت ارى انهم سرقوا انتفاضة الناس لتجييرها بأسمهم ونسبها الى احزابهم لكنهم هربوا عندما حمت الحديدة ... وتركوا الشعب يواجه غضب النظام
هذه هي الحقيقة التي استنبطتها من خلال متابعتي لما حصل ...
فجأة جذبتني يد اخرى وسمعت صوت مزاليج يبدو انها كبيرة فتحت وسحبني للداخل شخص كان يمشي بجانبي ويقول : امشي للامام ..... روح على اليمنه .... ومشينا مسافة قدرتها بعشرة أمتار وقال .... روح يسره ..... ثم يمينا وأوقفني ....
سمعت صوت سلسلة مفاتيح يحركها بيديه ........ وصوت باب يفتح ... وادخلني الى غرفة ......... قال لي : اخرج كل ما في جيوبك
فقمت باخراج كل ما لدي قال : ضعها على الطاولة امامك
تلمست الطاولة ووضعت عليها ما اخرجته من جيوبي
قال : هذا كل شي
قلت : نعم ... كل شي
قال : انزع ملابسك .... فقمت بنزعها ....
قال : كلها
قلت : صعبة
قال ( بنبرة احسستها كأعتذار ) : ما عدا ما يسترك
ثم وقف خلفي وقال : سأفتح عيونك لكن لا تلتفت ..... ورفع العصابة عن عيني
وقال : ضع ملابسك في الكيس الذي امامك والبس البيجامة
فقمت بوضع الملابس داخل الكيس وارتديت البيجامة .... واعاد العصابة على عيوني وقال : ما أسمك الكامل ...... وكتبه على الكيس وقال ضاحكا : سنضعك في كيس مماثل عندما نسلم ما يبقى منك لأهلك
ثم قادني عبر الممر نفسه رجوعا واوقفني وفتح بابا بمزلاج كبير وادخلني
وقال : افتح عينيك واعطني العصابة ولا تنظر خلفك
فعلت ذلك واقفل الباب وتركني .... سمعت صوته في الممر يقول : هذا الجديد خليته برقم عشرة
اذن الان عرفت انني في الزنزانه رقم عشرة في سجن ما ربما في الشعبة الخامسة وربما غيرها .......
كانت الزنزانة عبارة عن غرفة مترين وربع في مترين وربع ويرتفع سقفها ما يقارب اربعة امتار وعلى الارض فرشت بطانية مهترئة .............
باعلى الباب فوق مستوى الرأس فتحة ذات غطاء كشباك صغير وفي الجهة المقابلة فتحة لسحب الهواء ... وفي السقف مصباح لا ينطفئ ابدا .........
بقيت واقفا لبرهة اتأمل .... لكنني احسست بنوع ما من الراحة ........ سأستطيع الان ان استلقي .... وربما اغفو قليلا ..... بعد ما عانيت .....
استلقيت على الارض واغمضت عيني ...........
سأغفو ....لأنهض وارى ان الكابوس قد انتهى
سأغفو .... لأهرب من الواقع