الجواب: احتلت الإمامة في الفكر الشيعي مقاماً مرموقاً حيث أولاها مفكّرو الشيعة أهمية كبرى، إذ اعتبروا الإمامة مقاماً ومنصباً إلهياً لابدّ لصاحبه أن ينصب من قبل اللّه تعالى.
وبعبارة أُخرى: كما أنّ مقام النبوة مقام ومنصب إلهي، ولابدّ أن يعيّن النبي أو الرسول من قبل اللّه سبحانه، ويستحيل على أيّ إنسان مهما كان أن يصل إلى هذا المقام السامي وهذه المرتبة العالية من خلال انتخاب الأُمّة له، كذلك الأمر في مقام الإمامة فإنّه مقام إلهي يستحيل فيه على الإنسان أن يناله من خلال انتخاب الأُمّة أو من خلال انتخاب أهل الحلِّ والعقد له، أو من خلال الشورى أو ما شابه ذلك.
وفي الحقيقة انّ الناس قد انقسموا في مسألة النبوة إلى طائفتين: طائفة مؤمنة، وأُخرى كافرة، ويستحيل على الأُمّة كالحكومات الديمقراطية أن يكون لها برنامج خاص في انتخاب النبي أو عدم انتخابه، وذلك لأنّ قضية النبوة خارجة في الواقع عن إطار الانتخابات والديمقراطية والشورى وغيرها، ولا معنى لكلّ هذه المناهج هنا، وذلك لأنّ النبوة في الواقع ترتبط بمسألة المعرفة وعدم المعرفة، والإيمان والإنكار، والتصديق والتكذيب وهذه الأُمور لها أُسلوب خاص ومنهج معين لمعالجتها لا يتماشى أبداً مع أُسس الانتخابات والشورى وغيرها.
فلو أنّ جميع سكّان المعمورة انتخبوا وبحرية تامّة إنساناً ما(كمسيلمة الكذّاب) لمقام النبوة ولم يخالف في ذلك أحد، وفي نفس الوقت لو أعرض الجميع عن إعطاء رأيهم إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا ينبغي للديمقراطيين والليبراليين أن يعتبروا لذلك الانتخاب والرد أدنى قيمة موضوعية، كذلك لا معنى هنا لمفاهيم ونظريات أُخرى كالوراثة، والتنصيب أو الانتخاب البشري، أو الغلبة والانتصار و...، إذ انّ منصب النبوة ومقام الرسالة منصب إلهي ومقام سماوي لا يخضع لجميع تلك المعايير التي ذكرناها والتي يعتمدها أبناء النوع الإنساني لتعيين وتنصيب المسؤولين والحكام.
فإذا عرفنا ذلك نقول: إنّ الأمر نفسه يجري في مقام الإمامة، وبتعبير أصح: إنّ ملاك الإمامة أمرٌ حقيقي وواقعي في الإمام، كما أنّ النبوة حقيقة في النبي، وكذلك النبوغ فانّه حقيقة واقعية في النابغة. وعلى هذا الأساس لابدّ من السعي لمعرفة النبي أو الإمام أو النابغة لا تعيّنهم.
ومن الواضح أنّه قد يتسنّى تارة للأُمّة الوصول إلى المنهج الموضوعي لتمييز الجواهر الحقيقية عن المزيّفة. وأُخرى لا تمتلك الأُمّة هذا المنهج فلابدّ أن تستعين بطريق آخر للتمييز، وهذا الطريق في الواقع هو الوحي الإلهي، ويستحيل اعتماد السنن الارستقراطية أو الانتخابات المزوّرة، أو من خلال انتحال وخلق الفضائل الزائفة التي لا تقوم على أساس موضوعي وقاعدة مستحكمة، أو من خلال اعتماد الطرق الرسمية والإدارية والاستعانة بالعوامل الداخلية أو الخارجية واعتماد ذلك كلّه ليكوّن الملاك لنيل ذلك المقام السامي.
فإذا ما أردنا أن نحلّل القضية بصورة أدق ونوضح أنّه لماذا تكون مسألة النبوة أو الإمامة خارجة عن مجال الانتخابات والشورى وانّها أسمى وأجلّ من أن تخضع لهذه الأساليب والمناهج نقول:
يوجد في الواقع مقامان:
مقام ومنصب يتحقّق من خلال العوامل والأسباب الخارجة كالوكالة التي قد تتحقّق من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع، وقد تحصل من خلال تنصيب المقامات العليا.
المقام الثاني هو المقام الذي لا يخضع بحال من الأحوال للانتخابات أو التنصيب البشري فعلى سبيل المثال: مقام النبوغ أو التقوى، أو الشاعرية، أو كون الإنسان مخترعاً أو مكتشفاً أو كاتباً أو مؤلفاً أو كونه بطلاً في ميادين الرياضة، فإنّ هذه المقامات لا معنى لاعتماد منهج الترشيح والانتخاب فيها، لأنّ النابغة نابغة سواء انتخب أو لم ينتخب، بل حتى لو لم يعترف أحد بنبوغه، وكذلك الأمر في الكاتب فانّه كاتب كذلك،وهكذا الأمر في الشاعر، فهل يوجد عاقل في الدنيا يمنح الشاعر صفة الشاعرية من خلال الانتخاب أو التنصيب؟!!
فمقام ومنصب كلّ من ابن سينا نابغة الفلسفة المشائية وشهاب الدين السهروردي أُستاذ الفلسفة الإشراقية، وسيبويه رجل الأدب العربي، والمحقّق الحلّي أُستاذ الفقه الشيعي و... جزء من ذاتهم ولم يمنح لهم من خلال عملية انتخابية أو أوامر تنصيبية، وحسب التعبير الفلسفي أنّ تلك المقامات من الأُمور «الحقيقية، والواقعية» لا من الأُمور «الاعتبارية» و «الجعلية».
ثمّ لابدّ من الالتفات إلى نكتة مهمة وهي: انّ الشيعة حينما يشترطون أن يكون الإمام منصوباً من قبل اللّه سبحانه فإنّهم يقصدون من ذلك: انّ الإنسان الذي اجتمعت فيه شروط القيادة والإمامة أجمع لابدّ أن يعرّف من قبل اللّه سبحانه وتعالى، وفي الحقيقة يكون التنصيب الإلهي وسيلة لإزاحة الستار وكشف الواقع لا لتعيين ذلك الفرد للخلافة والإمامة، وذلك لأنّ صاحب هذا المقام غير مردّد في الواقع حتى يحتاج إلى تعيين، بل انّ المنصب ملازم لصاحبه الذي توفّرت فيه الشروط فيأتي الوحي الإلهي لإزاحة ستار الجهل عن هذه الحقيقة المخفية.
كذلك نشير إلى نكتة أُخرى مهمة وهي أنّ مفاهيم «النصب» و «الانتصاب» وغيرها من أدبيات النظم المستبدة والمتفرعنة حينما تطلق يقفز إلى الذهن مفاهيم أُخرى ملازمة لها كالاستبداد والقهر وسلب الحريات وهضم حقوق الآخرين. وعلى هذا الأساس يكون استعمال مثل تلك المفاهيم في البحوث العقائدية وعلى أساس قاعدة «تداعي المعاني» غير صحيح، لأنّه يستدعي كلّ تلك المفاهيم السلبية، ولذلك لابدّ من البحث هنا لتوضيح أنواع التنصيب.
لا ريب أنّ تنصيب الأفراد غير الكفوئين ليشغلوا مقاعد في مجالس الأعيان أو في المجالس الاستشارية أو البلدية وغيرها من المناصب يؤدّي إلى حرمان الأفراد والشخصيات الكفوءة ولكنّ النصب الإلهي لا يؤدي أبداً إلى تلك النتيجة السلبية، لأنّه في الواقع كشف لستار الحقيقة وتعريف الفرد اللائق والكفوء لمقام القيادة والإمامة في جميع شؤونها المادية والمعنوية والذي يستطيع بكفاءة عالية أن يقود البشرية ويأخذ بيدها إلى الكمال المطلوب ويوصلها إلى ساحل الأمان، وإذا ما فرضنا أنّ هذا التنصيب لم يتحقّق من قبل اللّه سبحانه وتعالى، فهذا يعني أنّه سبحانه لم يعرف للأُمّة الفرد اللائق والجدير للقيام بهذه المهمة، وحينئذ لا يمكن للدين أن يكتمل خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار الفراغ الذي حصل بسبب رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
لقد استطاع عالم الاجتماع ابن خلدون أن يبيّن حقيقة النظريتين الشيعية والسنيّة في خصوص الإمامة، وبعبارة وجيزة حيث عرف الإمامة عند أهل السنّة بقوله:
«الإمامة، المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأُمّة ويتعيّن القائم لها بتعيينهم».
ثمّ قال:
«الإمامة لدى الشيعة: ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأُمّة،بل يجب عليه تعيين الإمام لهم و يكون معصوماً من الكبائر والصغائر».( [1])
وبعبارة أوضح: أنّ الإمامة والقيادة هي استمرار للقيام بوظائف الرسالة، وأنّ الإمام يتولّى جميع وظائف الرسول.( [2]) مع فارق واحد بينهما وهو أنّ الرسول هو الباني والمؤسس للدين وهو الطرف المتلقّي للوحي وهو صاحب الكتاب، فإذا استثنينا هذه الأُمور يكون الإمام نسخة أُخرى مطابقة للنبي من حيث تبيين الأحكام والأُصول والفروع وحماية الدين من التحريف وهو المرجع في جميع الأُمور الدينية والدنيوية الذي يتابع وظائف النبي ومهامه باعتباره خليفته والقائم مقامه.
وعلى أساس هذه النظرية التي أثبتنا فيها انّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة وانّ الإمام نسخة أُخرى للنبي باستثناء النبوة والوحي، لابدّ أن يتوفر في الإمام بالإضافة إلى الشروط السابقة شرطان آخران هما:
1. أن يكون أعلم الأُمّة في أُصول وفروع الإسلام، وأن لا يكون علمه مكتسباً من الأفراد العاديين، وذلك لكي يتسنّى له تبيين أُصول وفروع الإسلام وتلبية جميع الاحتياجات العلمية والمعنوية للأُمّة، وأن لا تضطر الأُمّة ـ مع وجوده ـ إلى الاستعانة بشخص آخر غيره.
وبعبارة أُخرى يشترط أن يتوفّر في الإمام العلم الكافي والمعرفة الواسعة بالمعارف الدينية والأُصول الكلّية وفروع الأحكام، لأنّه ما لم تتوفر لديه تلك الإمكانيات الواسعة من العلم لا يستطيع أن يسدّ الفراغ الذي أحدثه غياب الرسول الأكرم في المجتمع.
2. أن يكون الإمام معصوماً من الذنب ومصوناً من ارتكاب الخطأ.( [3])
[1] . مقدمة ابن خلدون:196، طبع المكتبة التجارية، مصر.
[2] . وبعبارة أدق: إنّ الإمامة ـ بعد النبوة ـ استمرار لمقام إمامة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث إنّه وبرحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تمّت النبوة والرسالة ولكن مقام إمامته (صلى الله عليه وآله وسلم) استمر بواسطة الأئمّة من بعده، وإذا ما قد يقال: إنّ « الإمامة » استمرار لوظائف « الرسالة » ، فإنّ في ذلك التعبير نوعاً من المسامحة،إذ في الحقيقة انّ إمامة الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استمرار « لإمامة » النبي الأكرم، وذلك لأنّ النبي يمتلك بالإضافة إلى مقام « النبوّة » و « الرسالة » مقام « الإمامة » كإبراهيم الخليل (عليه السلام) .
[3] . منشور جاويد:5/110ـ 114.


منقول