بيع العربون تعريفه صوره وأحكامه
العربون ـ بفتحتين ـ كحَلَزون، والعُرْبون، كعصفور، والعُربان ـ بالضم ـ لغة فيه على وزن قُربان.
وأمّا العَربان ـ بالفتح ـ فلحن لم تتكلم به العرب .
يقع الكلام في تعريفه أوّلاً، والأقوال فيه ثانياً، وصوره ثالثاً .وإليك دراسة الكل واحداً بعد الآخر.
1. تعريف بيع العربون
قال ابن الأثير: العربون هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئاً على أنّه إن أمضى البيع حُسب من الثمن، وإن لم يمض البيع كان لصاحب السلعة ولم يرتجعه المشتري.([522])
قال العلاّمة: إنّ له (العربون) تفسيرين:
الأوّل: أن يشتري سلعة من غيره ويدفع إليه دراهم على أنّه إن أخذ السلعة فهي من الثمن، وإلاّ فهي إلى المدفوع إليه مجاناً.
الثاني: أن يدفع دراهم إلى صانع ليعمل له ما يريد من صياغة خاتم، أو خرز خف، أو نسج ثوب، أو خياطة، أو غير ذلك على أنّه إن رضيه، فالمدفوع من الثمن، وإلاّ لم يستردّه منه، وهما متقاربان.([523])
وقال في التحرير: بيع العربون هو أن يدفع بعض الثمن على أنّه إن أخذ السلعة احتسبه من الثمن، وإلاّ كان للبائع.([524])
وقال في التذكرة: وهو أن يشتري السلعة فيدفع درهماً أو ديناراً على أنّه إن أخذ السلعة كان المدفوع من الثمن، وإن لم يدفع الثمن وردّ السلعة لم يسترجع ذلك المدفوع.([525])
وجاء في الموسوعة الكويتية أنّ العربون هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع درهماً أو أكثر على أنّه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع.([526])
وربما يفسّر العربون بوجهين آخرين هما:
1. أن يكون مبلغاً من الثمن يُدفع إلى البائع أو الموجر مثلاً كي يكون لكلّ واحد من المتعاملين حق التراجع على أن يُخسر مقداره، أيٌّ من المتعاملين الذي سيتراجع عمّا بنيا عليه من المعاملة.وعلى هذا لا يختص العربون بالمشتري بل يعم المتبايعين.
2. أن يكون دفعه شروعاً في تنفيذ المعاملة فهو مجرد أداء جزء من الثمن تأكيداً للعقد والبت فيه.
والأوّل ـ عدم اختصاصه بالمشتري ـ هو الرائج في زماننا ولعلّ الرائج في العصور السابقة كان غير هذا، وكان مختصاً بالمشتري.
وأمّا الثاني : فهو تأكيد للبيع من دون أن يُخسَر شيء عند الرجوع إلاّ إذا امتنع البائع من القبول إلاّ بإخسار شيء ممّا أخذ فيدخل في بيع العربون.
2. أقوال الفقهاء
تباينت كلمات الفقهاء في جواز العربون وعدمه، فالحنفية والمالكية والشافعية وأبو الخطاب من الحنابلة يرون أنّه لا يصحّ ، ومذهب الحنابلة الجواز.
وأمّا أصحابنا فالمعروف عندهم هو المنع، غير أنّ ابن الجنيد ذهب إلى الجواز، كما نقله العلاّمة في المختلف.([527])
قال: قال ابن الجنيد: العربون من جملة الثمن، ولو شرط المشتري على البائع أنّه إن جاء بالثمن ـ فهو ـ و إلاّ فالعربون له، كان ذلك عوضاً عما منعه ذلك من النفع، وهو التصرف في سلعته. فالعربون عنده عوض عما يمنعه من التصرف في ماله.
3. صور المسألة
إنّ للمسألة أربعة صور:
إنّ المخسر به تارة يكون جزءاً من الثمن وأُخرى خارجاً عنه، وعلى كلا التقديرين فقد يكون العقد مشروطاً بالإخسار عند التراجع وأُخرى يكون مطلقاً وإليك دراسة الصور:
إذا كان العربون عند العقد جزءاً من الثمن
إذا كان الإخسار متعلقاً بجزء من الثمن بمعنى انّ المشتري دفع العربون بما أنّه جزءاً من الثمن، وقبله البائع بهذا العنوان، وأمّا الإخسار عند الفسخ فتارة يكون مذكوراً في نفس العقد ويكون العقد مشروطاً به بمعنى انّه إن فسخ المشتري العقد، فالعربون للبائع وأُخرى يكون العقد مطلقاً، لكن الفسخ يكون مشروطاً بتملك هذا الجزء من الثمن، والظاهر عدم الجواز في كلتا الصورتين .
واستدل له بوجوه:
1. ذات التملك مغاير لواقع الفسخ
إنّ الفسخ عبارة عن رجوع كلّ من العوضين إلى الحالة السابقة قبل البيع، فيرجع المبيع ملكاً للبائع والثمن ملكاً للمشتري، ومعنى ذلك عدم التصرف في كلّ منهما، فالإخسار بجزء من الثمن سواء أكان مذكوراً في العقد أم لا يكون منافياً لمفهوم الفسخ .
2. حرمة الفسخ بوضيعة
روى الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل اشترى ثوباً (ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه)([528]) ثمّ ردّه على صاحبه فأبى أن يقيله ([529]) إلاّ بوضيعة، قال: «لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل مازاد».
والمراد من قوله: «ولم يشترط على صاحبه شيئاً» عدم شرط خيار الفسخ ولأجل ذلك امتنع البائع من قبوله إلاّ بوضيعة، وإلاّ فلو كان للمشتري خيار الفسخ لما كان عليه الامتناع ولما صحّ له طلب الوضيعة. والرواية بإطلاقها تشمل كلتا الصورتين إذا تعلق الإخسار بجزء من الثمن، سواء أكان العقد مشروطاً به أم لا.
وذلك لأنّ الرواية تدلّ على أنّ الفسخ يجب أن يكون بردّ عامّة الثمن إلى المشتري والمبيع إلى البائع، وهي وإن لم ترد في مورد العربون لكن يمكن الاستدلال بها عليه، لأنّ المفروض أنّه تمّ العقد وصار ما سوى العربون على ذمة المشتري فإذا لم يسترجع ما دفعه باسم العربون فمعناه أنّه فسخ العقد وسقط ما في ذمته ورجع المبيع إلى ملك المشتري شرعاً وقانوناً فصار الفسخ بوضيعة، وقد تضمنت الرواية على أنّ الفسخ يجب أن يكون برد الكل لا البعض.
وهذان الوجهان لا بأس بهما.

3. الأصل بقاء الملك على المشتري
وهو ما استدل به العلاّمة وقال: الأصل بقاء الملك على المشتري فلا ينتقل منه إلاّ بوجه شرعي.([530])
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف المفروض، فإنّ المفروض عبارة عمّا إذا اشترى المشتري المبيع ونجز البيع، غير أنّه لم يدفع إليه إلاّ جزء من الثمن، واشترط عليه أنّه إذا لم يراجع يكون ما دفعه للبائع وإذا رجع ونفّذ البيع يكون ما دفع جزء من الثمن، فعلى كلّ تقدير فما دفعه خرج عن ملك المشتري ودخل في ملك البائع. نعم يصح ذلك في بعض صور المسألة التي مرّ ذكرها فهو ما إذا دفع مبلغاً كمنع البائع من بيع المبيع حتى يسلم له كلّ المبلغ.
4. كونه بمنزلة الخيار المجهول
قال العلاّمة: انّه بمنزلة الخيار المجهول لأنّه شرط له ردّ المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال ولي الخيار: متى شئت رددت سلعة ومعها درهم .([531])
يلاحظ عليه: بأنّه لا يتم فيما إذا حدّد المشتري وقت الخيار. نعم لو لم يحدده يدخل في الشرط المجهول.

5. نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه
روى أهل السنة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع العربان.([532])
يلاحظ عليه : أنّه ضعيف، إذ في سنده حبيب كاتب الإمام مالك وهو ضعيف لا يُحتجّ به. ورواه الدارقطني والخطيب عن مالك عن عمرو بن حرث عن عمرو بن شعيب وفي اسنادهما الهيثم بن يمان وضعفّه الازدي، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف.([533])
دليل القائل بالصحة مطلقاً
استدل القائل بالصحة بوجهين:
الأوّل: أنّ ذلك عوض عمّا منعه ذلك من النفع، قال ابن الجنيد: العربون من جملة الثمن، ولو شرط المشتري على البائع أنّه جزء من الثمن فهو، و إلاّ فالعربون له كان ذلك عوضاً عمّا منعه من النفع، وهو التصرف في سلعته.([534])
يلاحظ عليه: أنّ لازم ذلك دفع الثمن كلّه عند عدم التراجع وراء
ما دفعه أولاً، وذلك لأنّ المفروض أنّ العربون بمنزلة بدل الحيلولة حيث
إنّ المشتري حال بين البائع ومبيعه يوماً أو يومين، مع أنّ القائل بالصحة
يقول يُحسب العربون من الثمن.

الثاني: قوله: (صلى الله عليه وآله وسلم) «المؤمنون عند شروطهم».
يلاحظ عليه: بما حقق في محلّه انّ المراد من الشروط هو الشروط السابقة، وشرط العربون إمّا حرام، أو مشكوك الجواز وفي مثله لا يتمسك به، لأنّه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .
إذا لم يكن العربون جزءاً من الثمن
إذا تعلّق الإخسار والوضيعة بأخذ شيء من المشتري أو البائع لأجل الفسخ، لا بدفع جزء من الثمن بل الثمن يسلّم إلى المشتري بكماله لكن المشتري يشترط عليه ان يدفع له شيئاً من ماله وهو على قسمين: تارة يكون ذلك مذكوراً في العقد أو لا، فمقتضى القاعدة صحته، وذلك لأنّ البيع لما كان لازماً على الطرفين فللآخر أن يمتنع من الفسخ إلاّ بأخذ شيء خارج عن الثمن والمثمن، إذ ليس هذا مخالفاً لمفهوم الفسخ، إذ المفهوم أنّ الإخسار يتعلق بشيء خارج عن الثمن والمثمن كأن يقول:هب لي شيئاً حتى أقيله لك أو أقبل الفسخ، فيعمه قوله: «المؤمنون عند شروطهم».
وبذلك يظهر ضعف ما ربما يقال من أنّ الأصل بقاء الملك على المشتري فلا ينتقل منه إلاّ بوجه شرعي، وذلك لما عرفت من شمول قوله:«المؤمنون عند شروطهم» و ليس هناك ما يمنع عن جوازه.
نظير ذلك إذا صار مستعداً لشراء المبيع من المشتري بسعر أقل لأجل نزول السوق وقلة الرغبة، فلا مانع منه حسب القواعد.
فإن قلت: روى أحمد بن أبي عبد اللّه (البرقي) عن أبيه (محمد بن خالد) عن وهب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:«كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا يجوز العربون إلاّ أن يكون نقداً من الثمن».([535]) والرواية تمنع العربون مطلقاً سواء أكان جزءاً من الثمن أم كان شيئاً خارجاً عنه .
يلاحظ عليه: أنّ الرواية ضعيفة سنداً، ومجملة دلالة.
أمّا السند: فلأنّها يرويها وهب بن وهب المعروف بأبي البختري، وهو ضعيف جدّاً.
قال النجاشي: وهب بن وهب بن عبداللّه أبي البختري روى عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وكان كذّاباً. وقال الطوسي في الفهرست: عاميّ المذهب ضعيف. وعن الكشي عن ابن شاذان انّه قال فيه: أكذب البرية.
وأمّا الدلالة: فلعلّه ناظر إلى ما إذا كان العربون جزءاً من الثمن، والمراد أنّ بيع العربون لا يجوز إلاّ إذا كان جزء من الثمن من دون أن يخسر من الثمن شيء سواء قال البيع أم لا وعلى هذا لا صلة له بما فرضنا من تعلق الإخسار بشيء خارج عن الثمن والمثمن ومن غير فرق بأن يطلب البائع من المشتري شيئاً خارجاً عن الثمن والمثمن أو بالعكس .
فإن قلت: كيف يصحّ مع أنّه شرط للبائع شيئاً بغير عوض كما لو شرطه لأجنبي؟
قلت: كيف يكون بغير عوض، والعوض هو فسخ البيع المنجّز القطعي وقياسه بالشرط للأجنبي قياس مع الفارق، فإنّ الأجنبي، أجنبي بالنسبة إلى البيع فهو منه لا في حل ولا مرتحل، بخلاف البائع فهو يقوم بعمل ربما يكون غير مرغوب إليه فيستعد لذلك، بأخذ شيء من المشتري حتى يقيله.
فإن قلت: ما تقول فيما لو دفع إليه قبل البيع وقال: لاتبع هذه السلعة لغيري، فإن لم اشترها منك فهي لك ثم اشتراها بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن.
قلت: هذه الصورة خامسة لا صلة لها بالعربون والظاهر صحته أمّا إذا اشتراها بعد ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن فواضح، لأنّ البيع خلا من الشرط المبطل، وأمّا إذا لم يشتر السلعة فالاستحقاق مبنيّ على لزوم العمل بالاتفاقيات الابتدائية وكونها من مصاديق: «المؤمنون عند شروطهم» أي: عند التزاماتهم، سواء أكان التزاماً ابتدائياً أو ضمن التزام آخر أو وجوب الوفاء بالوعد، كما دلّ عليه ظاهر الكتاب العزيز ويدلّ عليه بعض الأخبار.([536])

منقول