هل يجوز للإمام أن يقضي بعلمه ، وإذا جاز له القضاء بعلمه، فهل يجوز للفقيه القاضي أن يعمل بعلمه أو لا؟وربّما يتصوّر أنّ البحث عن الجهة الأُولى لغوٌ لاثمرة فيه، وليس كذلك; إذ ربّما يقع البحث فيها ذريعةً لاستكشاف الحال في الجهة الثانية، إذ لو لم يجز للإمام، فلايجوز للقاضي بوجه أولى كما أنّه إذا جاز له العمل، يكون مقتضياً لثبوت الحكم فيه، وإن لم يكن سبباً تامّاً لاحتمال أن يكون العمل من خصائصهم (عليهم السلام) .
وقد عبّر المحقّق الرشتي عن المسألة بـ «هل يكون علم القاضي بيّنةً للقضاء»؟
ولعلّ التعبير عن «علم القاضي» بالبيّنة مشعرٌ بأنّ النزاع في الجواز مختصٌّ بالشبهات الموضوعية، وأمّا الشبهات الحكمية فلا ريب أنّه يعمل بعلمه واجتهاده لا بعلم الغير واجتهاده لكونه مخطِّئاً له.
إذا عرفت هذا فلإيضاح المقام نقدّم أُموراً:
الأمرالأوّل: في نقل كلمات الأصحاب في المسألة :
1ـ قال ابن الجنيد في كتاب الأحمدي : «ويحكم الحاكم فيما كان من حدود الله عزّ وجلّ ولايحكم فيما كان من حقوق الناس إلاّبالإقرار والبيّنة فيكون ما علمه من حقوق الناس شاهداً عند مَن فوقه وشهادته كشهادة الرجل الواحد، سواء كان ما علمه من ذلك كلّه في حال ولايته أو قبلها».([956])
والظاهر ممّا نقل عنه المرتضى أنّه كان يمنع العمل بالعلم مطلقاً من غير فرق بين حقوق الله وحقوق الناس، قال المرتضى: احتجّ ابن الجنيد بأنّ في الحكم بعلمه تزكية نفسه، ولأنّه إذا حكم بعلمه فقد عرض نفسه للتهمة وسوء الظن به.
ويظهر من دليله أيضاً أنّه قائلٌ بالمنع مطلقاً قال:وجدت الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقاً، أبطلها فيما بينهم وبين الكفّار والمرتدّين كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح ووجدنا أنّه قد أطلع رسوله على من يُبطِن، كأن يبطن الكفر ويظهر الإسلام وكان يعلمه ولم يبيّن (صلى الله عليه وآله وسلم) أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم.([957])
وعلى كلّ تقدير فهو إمّا من المفصِّلين أو من المانعين على وجه الإطلاق.
2ـ قال المرتضى: ممّا ظنّ انفراد الإمامية وأهل الظاهر في القول بأنّ للإمام والحكّام من قبله، أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير استثناء وسواء علم الحاكم ماعلمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك...ثمّ نقل تفصيل مذاهب الجمهور ـ إلى أن قال: ـ لاخلاف بين الإمامية في هذه المسألة وقد تقدّم إجماعُهم ابنَ الجنيد وتأخّر عنه وإنّما عول ابن الجنيد على ضرب من الرأي والاجتهاد.([958])
3ـ قال الشيخ في «الخلاف»: للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأحكام من الأموال والحدود والقصاص وغير ذلك سواء كان من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين، فالحكم فيه سواء، ولافرق بين أن يعلم ذلك بعد التولية في موضع ولايته أو قبل التولية، أو بعدها قبل عزله في غير موضع ولايته، الباب واحد.([959])
4ـ وقال في المبسوط: والذي يقتضيه مذهبنا ورواياتنا أنّ للإمام أن يحكم بعلمه وأمّا من عداه من الحكّام فالأظهر أنّ لهم أن يحكموا بعلمهم وقد روي في بعضها أنّه ليس له أن يحكم بعلمه لما فيه من التهمة.([960])
وقال أيضاً:«قال قوم يقضي بعلمه، وقال آخرون: لايقضي، وعندنا أنّ الحاكم إذا كان مأموناً قضى بعلمه وإن لم يكن كذلك لم يحكم به».([961])
وقال أيضاً: «وأمّا إقامته بعلمه فقد ثبت عندنا أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه فيما عدا الحدود، وفي أصحابنا من قال: وكذلك في الحدود». (5)
وعلى ضوء هذا فللشيخ أقوالٌ ثلاثة:
أـ الجواز مطلقاً.
ب ـ الجواز إذا كان مأموناً.
ج ـ التفصيل بين الحدود وغيرها فيجوز في الثاني .ولعلّ مراده من كونه مأموناً، أي بريئاً من التهمة.
5ـ وفي «النهاية» فصّل في الحدود بين حقوق الناس وحقوق الله فيجوز في الأوّل دون الثاني.([962])
6ـ وقال أبو الصلاح الحلبي: وإن أنكر فكان عالماً بصدق المدّعي أو المدّعى عليه على كلّ حال وفي تلك القضية حكم بعلمه ولم يحتج إلى بيّنة ولايمين على صحّة دعوى ولا إنكار، إلاّ أن تقوم بيّنةً تمنع من استمرار العلم فيحكم بمقتضاه.([963])
7ـ قال ابن البرّاج: وإذا ترافع خصمان إلى الحاكم فادّعى أحدهما على الآخر حقّاً فأنكر وعلم الحاكم صدق المدّعي فيما طالبه، مثل أن يكون ما عليه، يعلمه الحاكم أو قصاص أو ما أشبه ذلك، كان له أن يحكم بعلمه، ثمّ نقل عن المخالفين بأنّهم يعيبوننا بالقول بعمل القاضي بعلمه، مع أنّهم يجوزونه في موارد ثلاثة:
أ ـ أن يحكم في الجرح بعلمه وأن تهدي البيّنة على عدالة الشاهد.
ب ـ إذا طلّق زوجته بحضرته ثلاثاً ثمّ جحد الطلاق كان القول قوله مع يمينه فيعمل بعلمه.
ج ـ إذا عتق الرجل عبده بحضرته ثمّ جحد، ولايعتمد بيمين المنكر.([964])
8ـ وقال ابن حمزة: ويجوز للحاكم المأمون الحكم بعلمه في حقوق الناس وللإمام في جميع الحقوق. (2)
9ـ قال ابن إدريس: عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء; لأنّه لو لم يقض بعلمه أفضى إلى إيقاف الأحكام أو فسق الحكّام، لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته بحضرته ثلاثاً ثمّ جحد الطلاق كان القول قوله مع يمينه فإن حكم بغير علمه وهو استحلاف الزوج وتسليمها إليه فَسَقَ وإن لم يحكم وقف الحكم وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ثمّ جحد وإذا غصب من رجل ماله ثمّ جحد يفضي إلى ما قلناه.
الحقوق ضربان: حقّ للآدميين، وحق لله فإن ادّعى حقّاً لآدمي كالقصاص وحدّ القذف، والمال فاعترف به أو قامت به البيّنة لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه، والجحود; لأنّه لاينفعه ذلك، لأنّه إذا ثبت باعترافه، لم يسقط برجوعه وإن كان قد ثبت بالبيّنة لم يسقط عنه بجحوده.
وإن كان حقّاً لله كحدّ الزنا والشرب فإن كان ثبوته عند الحاكم بالبيّنة لم يَعْرض له بالرجوع لأنّ الرجوع لاينفعه ، وإن كان ثبوته باعترافه جاز للحاكم أن يعرض له بالرجوع لكنّه لايصرّح بذلك; لأنّ فيه تلقين الكذب وإنّما قلنا بجوازه لأنّ ماعزاً لما اعترف قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لعلّك قبّلتها، لعلّك لمستها.([965])
10ـ وقال المحقّق: الإمام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله تعالى على قولين أصحّهما القضاء.([966])
11ـ وقال ابن سعيد: والحاكم يحكم بعلمه في عدالة الشاهد وجرحه فلاخلاف، وفي حقوق الناس وحقوق الله في الأظهر.([967])
12ـ وقال العلاّمة في «القواعد»: الإمام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره يقضي به في حقوق الناس وكذا في حقّه تعالى على الأصح.([968])
13ـ قال الشهيد الثاني : ظاهر الأصحاب الاتّفاق على أنّ الإمام يحكم بعلمه مطلقاً لعصمته المانعة من تطرّق التهمة وعلمه المانع من الخلاف، والخلاف في غيره من الحكّام فالأظهر بينهم أنّه يحكم أيضاً بعلمه مطلقاً، وقيل:لايجوز مطلقاً، وقال ابن إدريس: يجوز في حقوق الناس من دون حقوق الله، وعكس ابن الجنيد في كتابه الأحمدي ـ إلى أن قال: ـ وأصحّ الأقوال جواز قضاء الحاكم مطلقاً بعلمه مطلقاً لأنّ العلم أقوى من الشاهدين اللّذين لايفيدقولهما عند الحاكم إلاّ مجرّد الظن إن كان، فيكون القضاء به ثابتاً بطريق أولى.([969])
14ـ اختار السيد الأُستاذ (قدس سره) في التحرير جواز عمل القاضي بالعلم في المجالين: حقوق الله وحقوق الناس مثل عمله إذا قامت البيّنة أو أقرّ الخصم، غير أنّ عمله في حقوق الناس يتوقّف على المطالبة حدّاً كان أو تعزيراً،([970])ولكنّ القيد ليس تفصيلاً في المسألة; إذ المطالبة هوالشرط مطلقاً في حقّ الناس سواء ثبت بالعلم أو بالبيّنة والإقرار ، فما لا يطالب به صاحب الحقّ لايحكم به القاضي.
فهذه أربعة عشر نصّاً من الأصحاب يعرّف موقف الأصحاب من المسألة ويحصل من الإمعان فيها أنّ الأقوال عندهم تناهر ستة:
1ـ القول بالمنع، كما عن ابن الجنيد.
2ـ الجواز مطلقاً، كما عليه الأكثر.
3ـ يجوز في حقوق الناس دون حقوق الله .
4ـ عكس الثالث وهوخيرة ابن الجنيد في «الأحمدي» حسب ما عرفت.
5ـ الفرق بين كون القاضي مأموناً وعدمه فيقضي في الأوّل دون الثاني.
6ـ الفرق بين الحدود وغيرها فلايقضي في الأوّل بعلمه وهوخيرة الشيخ في موضع من المبسوط وهو غير القول الثالث; لأنّه يفرق بين حقّ الناس وحقّ الله، فيقضي في الأوّل دون الثاني وهذا يفرق بين الحدودـ وإن كان حقّ الناس ـ وغيرها وعلى هذا لايعمل بعلمه في القصاص وحدّ القذف; وإن كانا من حقوق الناس، لأنّهما من الحدود.
كلمات فقهاء أهل السنّة
وأمّا أهل السنّة فقد نقل المرتضى أقوالهم في الانتصار، والشيخ في الخلاف ونحن ننقلها عن الخلاف والمغني.
قال الشيخ في الخلاف: للشافعي فيه قولان في حقوق الآدميين: أحدهما مثل ما قلناه وبه قال أبو يوسف واختاره المزني وعليه نصّ في الأُم وفي الرسالة واختاره، وقال الربيع: مذهب الشافعي أنّ القاضي يقضي بعلمه وإنّما توقّف فيه لفساد القضاة.
والقول الثاني لايقضي بعلمه بحال وبه قال في التابعين: شريح والشعبي. وفي الفقهاء مالك والأوزاعي، وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق... وعن مالك وابن أبي ليلى، قال: لو اعترف المدّعى عليه بالحقّ لم يقض القاضي عليه حتى يشهد عنده شاهدان.
وأمّا حقوق الله تعالى فإنّها تبنى على قولين: فإذا قال لايقضي بعلمه في حقوق الآدميين فبأن لايقضي به في حقوق الله أولى.وإذا قال يقضي بعلمه في حقوق الآدميين ففي حقوق الله على قولين.
ولافصل على القولين بين أن يعلم ذلك بعد التولية في موضع ولايته أو قبل التولية، أو بعد التولية في موضع ولايته.
وقال أبوحنيفة ومحمّد: إن علم بذلك بعد التولية ففي موضع ولايته حكم وإن علم به قبل التولية أو بعد التولية في غير موضع ولايته لم يقض به. هذا في حقوق الآدميين، أمّا في حقوق الله تعالى فلا يقضي عندهم بعلمه بحال.([971])
وقال ابن قدامة: ظاهر المذهب أنّ الحاكم لايحكم بعلمه في حدّ ولا في غيره لا فيما علمه قبل الولاية، ولابعدها وهذا قول شريح، والشعبي، ومالك وإسحاق وأبي عبيد، ومحمّد بن الحسن ، وهو أحد قولي الشافعي.
وعن أحمد رواية أُخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والقول الثاني للشافعي واختيار المزني.
وقال أبوحنيفة : ما كان من حقوق الله لايحكم فيه بعلمه لأنّ حقوق الله تعالى مبنيةٌ على المساهلة والمسامحة، وأمّا حقوق الآدميين فيما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به، لأنّ ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته ـ إلى أن قال: ـ ولأنّ تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله إلى علمه.([972])
حاصل أقوالهم
إنّ المشهور في حقوق الآدميين هو عدم الجواز إلاّ على أحد القولين للشافعي، وبه قال يوسف والمزني.
وأمّا في حقوق الله، فمن قال لايجوز في الآدميين يقول به فيها، وأمّا من يجوِّز فيها فله قولان فيها ولايفصل أحد منهم بين العلم قبل التولية وبعدها، أو بين موضع توليته وغيره إلاّ أبا حنيفة كما عرفت.
***
الأمر الثاني: ما هو المراد من الجواز؟
المراد من الجواز في عنوان المسألة هوالجواز الوضعي، لا التكليفي بمعنى جواز العمل وتركه، ضرورة أنّه إذا تمّت الحجّة بالعلم يجب العمل وإقامة القسط والعدل، والحكم بالحقّ، وإلاّ حرم العمل.
***
الأمر الثالث: في العلم المأخوذ في الموضوع
إنّ القضاء يتوقّف على العلم والقضاء بدونه حرام وهل العلم فيه طريقي محض، أو موضوعي؟ الظاهر هو الثاني ، بشهادة قوله:«ورجل قضى بالحقّ وهو لايعلم فهو في النار» ولو كان العلم المعتبر فيه طريقياً محضاً لما صحّ إيعاد النار عليه في هذه الصورة لكونه أصاب الواقع ولما انحصرت النجاة بآخر الأقسام أعني: «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنة».([973])
وليس المراد من العلم منه هو العلم بالحقّ، علماً منطقياً، (الاعتقاد الجازم) بشهادة أنّ من يحكم بالبيّنات والأيمان، لاعلم له بواقع الحقّ، بل المراد هو قيام الحجّة على الحقّ، فقد أخذ علم القاضي على وجه الإجمال موضوعاً لوجوب الاتباع والنفوذ على المتخاصمين، فعند ذلك يجب الفحص عن خصوصية ذلك العلم النافذ على الغير.
توضيح الحال: إنّ علم الإنسان بالنسبة إلى نفس العالم، يلاحظ غالباً ـ إلاّ ما شذّ ـ طريقاً إلى الواقع، فيجب اتّباع العلم من غير فرق بين أسبابه، فلو حصل العلم بالموضوع أو الحكم من أيّ طريق كان، يجب الأخذ به إلاّ إذا ردع الشارع عنه فعندئذ يرجع إلى التشكيك في مبادئه، وأمّا علم الإنسان بالنسبة إلى غيره فهو موضوع للزوم اتّباعه كعلم المفتي بالحكم الشرعي، وعلم الشاهد بما يشهد، وعلم القاضي بما يقضي.فقد اتّخذ العلم في تلك الموارد، موضوعاً للزوم اتّباع الغير ونفوذه في حقّه وعندئذ يجب الفحص عن حدّ الموضوع، فهل المأخوذ في الموضوع مطلق العلم أو العلم الخاص منه فلو كان إطلاق يؤخذ به وإلاّ يؤخذ بالقدر المتيقّن منه، والظاهر من الروايات هو تحديد علم القاضي بالبيّنات والأيمان، فالعمل بغيرهما يحتاج إلى دليل خاص.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار».([974])
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى».([975])
فإن قلت: سلّمنا إنّ العلم مأخوذ ـ موضوعاً ـ في نفوذ رأي القضاء لكنّه مأخوذ فيه على نحو الطريقية، لا على نحو الوصفية والسببيّة، فعندئذ كما هو شامل للحجج الشرعية من البيّنات والأقارير، فهكذا شاملٌ للعلم الوجداني للقاضي أخذاً بالملاك.
قلت: لايصحّ القول بأنّ تمام الملاك هوالطريقية، وذلك لظهور أدلّة باب القضاء هو كون القاضي إنساناً محايداً غير متحيّز لأحد الطرفين وهو لايتحقّق في نظر العرف إلاّ إذا عمل بما اتّفق المترافعان عليه وهو البيّنة والإقرار، لا ما إذا عمل بعلمه فإن عمله به يخرجه عن الحيادة.
وممّا ذكرنا يظهر الإشكال في كلام المحقّق الرشتي، قال (قدس سره) : القضاء سلطنة إلزام شرعي للشخص على ما لايقتضيه تكليفه، سواء كان القضاء بمقتضى العلم أو بمقتضى البيّنة، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي، وهذا هوالمراد ممّا ذكرنا في الالتقاط المتقدّم من كون العلم في مسألة القضاء موضوعاً قابلاً للإثبات والنفي، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي في مقام الحجّية.
لكن إذا فرض وجوب القضاء لامحالة، فلا معنى لعدم اعتبار العلم ولا لاعتبار سائر الموازين في مقابله، مثلاً إذا علم القاضي بحقيّة الدعوى فالإعراض عن مقتضى العلم والرجوع إلى اليمين لامعنى له، أو علم مثلاً أنّ قاتل زيد هو عمرو، وأقيمت البيّنة على كونه خالداً، فإنّ الحكم بالقصاص من خالد وعدم الحكم بالقصاص من عمرو مع العلم بأنّ خالداً ليس بقاتل يوجب التخصيص في أدلّة الأحكام الواقعية، مع أنّ القاضي أمر بالقضاء حسب الحقّ الواقعي.([976])
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في تفسير القضاء ممّا لاغبار عليه إنّما الكلام في غيره فإنّه قَبِلَ أنّ علم القاضي أخذ موضوعاً للحجّية، فعندئذ يجب أن يلاحظ الدليل الدالّ عليه فهل المأخوذ مطلق العلم والحجّة، سواء أكان علماً منطقياً أو بيّنةً أو إقراراً، أو العلم الخاص أعني: الأخيرين(البيّنة و الإقرار) وما لم يكن هنا دليل شارح للموضوع من إطلاق أو غيره لايمكن الحكم.وليس العلم الوجداني ، المصداق المتيقّن منه.
وكون القضاء واجباً لاينتج لزوم العمل بالعلم، وذلك لأنّ وجوبه ليس على وجه الإطلاق بل مشروط بتواجد أسبابه وأدواته ومن المحتمل أن تكون أسبابه ، منحصرةً في البيّنات والأيمان.
وأمّا حكم التعارض بين العلم الوجداني وقيام البيّنة فعليه الامتناع من القضاء، لاتقديم علمه على البيّنة; إذ العلم و إن كان أقوى في نظره، ولكن البيّنة أقوى في نظر الأخيرين من علمه فترفع الشكوى إلى قاض آخر، يحكم هو حسب الموازين القضائية الممكنة المتيسّـرة.
أضف إلى ذلك أنّ القضاء من الأُمور ذات الإضافة، له إضافة إلى من يقضي، ومن يقضى له، ومن يقضى عليه فله ـ كالمثلث ـ أضلاع ثلاثة، وهو غير متحقق في القضاء، بالعلم في حقوق الله سبحانه، لاتّحاد القاضي والمدعي(من يقضى له) فيها، فتنفيذه فيها يحتاج إلى دليل خاص، هذا هو مقتضى القاعدة.
فقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّه لولا الدليل على نفوذ علم القاضي في المتخاصمين، لما جاز الحكم به. ثمّ إنّه ربّما يتوهم أنّ مقتضى الأدلّة العامّة في القضاء وغيره هو جواز الحكم بالعلم، فهذا ما نذكره في البحث الآتي ونبرهن، أنّه لادلالة لهاعلى الجواز، ولابدّ من التماس دليل خاص.
***
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأدلّة فيها مقامات ثلاثة:
الأوّل: ما يصلح للاستدلال به على جواز العمل به مطلقاً من غير فرق بين حقوق الله و حقوق الناس.
الثاني: ما يصلح للاستدلال به عليه في خصوص حقوق الله.
الثالث: ما يصلح للاستدلال به عليه في خصوص حقوق الناس.
فلنبدأ بالأوّل:
المقام الأوّل:
ما يصلح للاستدلال به على جواز العمل في كلا الحقوقين
استدلّوا في هذا المقام بأُمور:
1ـ ما استدلّ به الشيخ في الخلاف على المسألة بقوله تعالى: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) ([977]). وقال تعالى لنبيّه: ( وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) (2) . ومن حكم بعلمه فقد حكم بالعدل والحقّ.([978]) ونقله في الجواهر وأضاف في موضع آخر وقال: مضافاً إلى تحقّق الحكم المعلّق على عنوان قد فرض العلم بحصوله كقوله تعالى: (وَالسّارِقُ والسّارِقةُ فاقطَعُوا أيدِيَهما ) (4) ، و ( الزانيةُوالزاني فاجلِدوا كُلَّ واحد منهُما مائَةَ جَلْدة ) ([979]) ، والخطاب للحكّام فإذا علموا تحقّق الوصف وجب عليهم العمل فإنّ السارق والزاني من تلبّس بهذا الوصف لامَن أقرّ به أو قامت عليه البيّنة، وإذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيره أولى. (6)
يلاحظ عليه: أنّ الطائفة الأُولى بصدد بيان صفات الحكم وأنّه يجب أن يكون حقّاً، عدلاً، قسطاً، لاضدّها، ومن أراد أن يحكم يجب أن يحكم بها، وأمّا ما هي الأداة التي بها يميّز الحقّ عن الباطل، والقسط عن الجور، فليس بصدد بيانها حتى يؤخذ بإطلاقها.
وأمّا الطائفة الثانية : فما أفاده صاحب الجواهر حولها من أنّ الموضوع نفس من تلبّس بالمبدأ، وهو محقق فإنّما ينفع في عمل نفسه، لافي نفوذه في حقّ الغير، فلو علم بنجاسة إناء أو زوجيّة امرأة، فعلمه دليل على نفسه لاعلى الغير، مالم ينطبق عليه عنوان الحجج المعتبرة في الشرع.
2ـ ثمّ إنّه ربّما يتمسّك بأنّه مقتضى وجوب الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، ولزوم إظهار الحقّ ونظائره.
يلاحظ عليه: بأنّه إن أُريد من الأمر والإظهار، والإنكار ما يؤدّى باللسان، فهو تامٌّ وربما يرجع المدعّي أو المنكر عن باطلهما وله أن يشهد على الواقع ، لو أرجع الواقعة إلى قاض آخر.وإن أُريد منه تنفيذ حكمه في المورد، فهو وإن كان من شؤون القاضي لكن الشكّ في كون العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين أو لا، ومعه لايصحّ التمسّك بتلك الأدلّة في المورد.
ثمّ إنّ صاحب الجواهر قد نبّه ببعض ما ذكرنا في آخر كلامه عند الردّ على صاحب الانتصار في نقده لنظرية ابن الجنيد حيث قال :ولكن الإنصاف أنّه (كلام ابن الجنيد) ليس بتلك المكانة من الضعف، ضرورة أنّ البحث في أنّ العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين ولو من غيرالمعصوم في جميع الحقوق أو لا، وليس في شيء من الأدلّة المذكورة ـ عدا الإجماع منها ـ دلالة على ذلك والأمر بالمعروف ووجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه بل كون العلم حجّةً على من حصل له، يترتّب عليه سائر التكاليف الشرعيّة، لايقتضي كونه من طرق الحكم، بل أقصى ذلك ما عرفت وأنّه لايجوز له الحكم بخلاف حكمه، بل لعلّ أصالة عدم ترتّب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه.
3ـ ما استدلّ به الشيخ في الخلاف حيث قال: القطع واليقين أولى من غالب الظنّ ألا ترى أنّ العمل بالخبر المتواتر أولى من العمل بالخبر الواحد.([980]) وقال في الجواهر: العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها. (2)
يلاحظ عليه: أنّه إنّما ينفع في حقّ العالم ، حيث إنّ علمه طريق محض إلى الواقع، فالعلم في نفسه أولى من البيّنة وأمّا إذا كان موضوعاً بالنسبة إلى الغير، فيجب عندئذ اتّباع الدليل فبما أنّه ليس هنا إطلاقٌ، يدلّ على موضوعيّة مطلق العلم ، فلايصحّ الاستناد بادّعاء الأولوية; إذ من المحتمل أن يكون الموضوع للنفوذ ، ما اتّفق عليه العقلاء في باب القضاء، أو اتّفق المترافعان على حجيّته، أعنّي: البيّنة.
4ـ ما استدلّ به الشيخ وابن إدريس، وهو أنّه إذا لم يقض على وفق العلم لزم إمّا فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم; لأنّه إذا طلّق زوجته بحضرته ثمّ جحد فإن قضى بعلمه فهو، وإلاّ فإن استحلف الزوج وحلف هو وأرجعها إليه، لزم الفسق وإن لم يقض لزم الإيقاف.([981])
يلاحظ عليه: أنّ هنا طريقاً رابعاً، وهو إرجاع الواقعة إلى قاض آخر، ليس له ذلك العلم.
5ـ ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال:جاء أعرابيّ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه، فقال: قد أوفيتك، فقال: اجعل بيني وبينك رجلاً يحكم بيننا، فأقبل رجلٌ من قريش فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : احكم بيننا، فقال للأعرابي: ما تدّعي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال: ما تقول يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال: قد أوفيته، فقال للأعرابي: ما تقول؟ فقال: لم يوفني، فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :ألك بيّنة أنّك قد أوفيتَه؟قال: لا، فقال للأعرابي: أتحلف أنّك لم تستوف حقّك وتأخذه؟قال: نعم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأتحاكمنّ مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله.
فأتى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومعه الأعرابي، فقال عليّ (عليه السلام) : مالك يا رسول الله؟ قال: يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابي، فقال عليّ (عليه السلام) : يا أعرابي ما تدّعي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قدأوفيته ثمنها، فقال: يا أعرابي أصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما قال، قال الأعرابيُّ: لا! ما أوفاني شيئاً، فأخرج عليّ (عليه السلام) سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لم فعلتَ يا عليّ ذلك؟ فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحن نصدّقك على أمرالله ونهيه وعلى أمر الجنّة والنار والثّواب والعقاب و وحي الله عزّ وجلّ ، ولانصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي، وإنّي قتلته لأنّه كذَّبك لمّا قلتُ له: اصدق رسول الله فقال: لاما أوفاني شيئاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أصبتَ ياعليّ ، فلاتعد إلى مثلها، ثمّ التفت إلى القرشي وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لاما حكمت به.([982])
وجه الدلالة: أنّ مقتضى القضاء بالبيّنات والأيمان هو ما قضى به القرشي، ولكن الإمام (عليه السلام) لمّا علم بصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتقل إلى كذب الأعرابي وتكذيبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن المعلوم أنّ مكذّب النبيّ مرتدٌّ خارج عن الدين فيجوز قتله، كل هذا يعطي أنّ الإمام له القضاء وفق علمه.
قال في الجواهر: ولوجوب تصديق الإمام في كلّ ما يقوله وكفر مكذّبه، ولذا قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) خصم النبي لمّا تخاصما إليه في الناقة وثمنها، وهو يقتضي وجوب الخروج من حقّ يخبر به الإمام وهو يقتضي وجوب إخبار الإمام به وإلاّ لأدّى إلى ضياع الحقّ.([983])
يلاحظ عليه: أنّ سند الصدوق بالنسبة إلى أقضية علي (عليه السلام) وإن كان صحيحاً في الفقيه([984]) لكن المتن، يشتمل على أُمور شاذّة عن القواعد.
أمّا أوّلاً: فلأنّ الظاهر أنّ الأعرابي كان يكذب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومثله في عصر الرسول يكون مرتدّاً ملّياً، لأنّ طبع الحال يقتضي أنّه كان مشركاً ثمّ اعتنق الإسلام فارتداده يستلزم الاستتابة ثلاثة أيّام ثمّ يقتل، فلماذا قتله علي (عليه السلام) ، بلا استتابة، فهل الاستمهال من خصائص غير هذا النوع من الارتداد؟ أو أنّ للإمام الاستعجال في إجراء الحدّ؟!
وثانياً: إذا كان قضاء علي (عليه السلام) حقّاً وقد حكم بحكم الله، فلماذا نهاه النبي عن العود بمثل هذا وقال: «فلا تعد إلى مثلها»، ثمّ التفت إلى القرشي وكان قد تبعه و قال: «هذا حكم الله لاما حكمت به»؟!
وثالثاً: فلو أخذنا بمضمونه يختصّ بالعلم الحاصل من قول المعصوم، وأين هذا من العمل بكلّ علم حصل من أيّ مصدر، وثبوت الحكم في الأقوى لايكون دليلاً على ثبوته في الأضعف.
ورابعاً: أنّه يدلّ على أنّ الإمام يعمل بعلمه في الحدود، لا أنّه يقضي به إلاّ أن يدّعي الملازمة بين العمل والقضاء به.
6ـ مارواه الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمان بن الحجّاج قال: دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر(عليه السلام) فسألاه عن شاهد ويمين فقال: «قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقضى به عليّ (عليه السلام)عندكم بالكوفة»، فقالا:هذا خلاف القرآن، فقال: «وأين وجدتموه خلاف القرآن؟» قالا: إنّ الله يقول ( وأشهِدُوا ذَوَي عَدل منكُم ) ([985]) فقال: قول الله: ( وأشهِدُوا ذَوَي عَدل منكُم ) هو لاتقبلوا شهادة واحد ويميناً؟».
ثمّ قال:« إنّ عليّاً (عليه السلام) كان قاعداً في مسجد الكوفة، فمرّ به عبد الله بن قفل التميميّ ومعه درع طلحة، فقال عليّ(عليه السلام) : هذه درع طلحة أُخِذَتْ غلولاً يوم البصرة، فقال له عبد الله بن قفل: اجعل بيني وبينك قاضيك الّذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه وبينه شريحاً، فقال عليّ (عليه السلام) : هذه درع طلحة أُخذتْ غلولاً يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتّى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح:هذا مملوكٌ ولا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب عليّ (عليه السلام) وقال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات، قال: فتحوّل شريح وقال: لاأقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟ فقال له: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة، وقد قال رسول الله : حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة، فقلتُ: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة، ثمّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت: هذا واحدٌ ولا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة واحد ويمين، فهذه ثنتان، ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة فقلت: هذا مملوك وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً، ثمّ قال: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا». ([986])
وجه الاستدلال : هو قوله: «إنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا».
يلاحظ عليه: أنّ السند وإن كان صحيحاً، لكن المتن مشتمل على أُمور شاذّة لا مناص من توجيهها.
أمّا أوّلاً: فلأنّ علم الإمام إذا كان نافذاً في حقّ المحكوم عليه، فلماذا لم يتمسّك الإمام به في هذا الأمر ورضي بالمحاكمة وكان عليه أن يقول له، ما قاله لشريح في آخر الواقعة؟!
وثانياً: أنّ الإمام اعترض على شريح لمّا قال: «ولا أقضي بشهادةواحد حتى يكون معه آخر» بأنّ رسول الله قضى بشهادة واحد ويمين ولكن الاعتراض إنّما يتوجّه، لو نفى شريح القضاء بشهادة ويمين، مع أنّه لم يحدِّث عنه أبداً وإنّما حدث عن الشاهد الواحد و أنّه لايقضي به، وليس على القاضي أن يُعلِّم الخصم بأنّ له اليمين مكان الشاهد الآخر، وقد ذكروا في باب آداب القضاء أنّه لايجوز للقاضي تلقين الخصم بالحجّة.
وثالثاً: أنّه لو أخذنا به يكون العلم المصون من الخطأ موضوعاً لجواز العمل به والحكم على وفقه وأين هو من علم غير المعصوم الخاطئ كثيراً وإن لم يكن القاضي متوجّهاً إلى خطئه عند القضاء.
ورابعاً: أنّه يدلّ على أنّ الإمام يعمل بعلمه وأمّا أنّه يقضي به فلا إلاّ أن يدّعي الملازمة بين العمل، والقضاء. كما مرّ.
7ـ ما روي عن خزيمة بن ثابت بسند غير نقي وإن كان المضمون معروفاً: إنّ النبيّ اشترى فرساً من أعرابي، فأنكر الأعرابي بيعه وقال: هلمّ من يشهد ولم يشهد أحد شرائه، فشهد خزيمة وأمضى رسول الله شهادته وأقامها مقام اثنين فلقّب بذي الشهادتين.([987])
يلاحظ عليه: أوّلاً: ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ السند غير نقيّ ـ أنّه يدلّ على جواز الشهادة ، على الموضوع إذا سمعه من المعصوم، ولادليل على الملازمة بين جواز الشهادة وجواز القضاء.
وثانياً: لو أخذ بمضمونه فهو يدلّ على جواز القضاء بالعلم بالموضوع لأجل إخبار المعصوم، وأين هو من جواز العمل بمطلق العلم الحاصل من القرائن وضمّ الشواهد؟!
إلفات نظر
إنّ الرواية الخامسة والسابعة و إن وردتا في حقوق الناس، و السادسة وإن وردت في حقوق الله، لكن سياق كلّ رواية على نمط يستفاد منه العموم ، ولأجل ذلك جئنا بها في ذلك الفصل، ولم ندرجها في الفصلين التاليين.
مثلاً: جاء في الرواية الخامسة، أنّ الإمام ضربه بسيفه معتذراً بأنّه يصدّق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمره ونهيه و كيف لا يصدّق على ثمن ناقة الأعرابي. فلو كان الملاك للعمل ذلك التعليل فلا يختلف فيه الحقّان، إذ كيف يختلف بعد كون المصدر هو كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وهكذا جاء في الرواية السادسة قول الإمام : إنّ إمام المسلمين يؤمن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا. و عليه تكون النتيجة هي العموم من غير فرق بين الحقّين.
ومثله الرواية السابعة حيث أمضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادة خزيمة مكان الشهادتين، وذلك لأنّ مصدر شهادة خزيمة هو خبر النبيّ الأكرم المعصوم ، فلو كان الملاك للشهادة هو ذلك، فلا يفرّق بين الحقّين.
وهذا هو السرّ في ذكر هذه الروايات في هذا الحقل.
***
المقام الثاني :
ما استدل به على جواز العمل في خصوص حقوق الله
استدلّوا في هذا الحقل بأحاديث نأتي بها واحداً تلو الآخر:
الأوّل: ما رواه الكليني عن الحسين بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولايحتاج إلى بيّنة مع نظره; لأنّه أمين الله في خلقه، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويَمضي ويَدعه» قلت: وكيف ذلك؟ قال: «لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس».([988])
والاحتجاج به مشكل سنداً لاشتماله على محمّد بن أحمد بن حمّاد المحمودي الذي عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الهادي(عليه السلام) ولكن لم يرد فيه توثيق، كما أنّه لم يرد في الحسين بن خالد أيضاً، سواء أكان المراد منه هو الصيرفي الذي عدّ من أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام) ، أو الحسين بن خالد بن طهمان الذي يعبّر عنه بالخفّاف وعدّ من أصحاب الصادق(عليه السلام) ، نعم حاول العلاّمة المامقاني إثبات وثاقته من هنا وهناك فلاحظ.([989])
وأمّا المضمون، فقد فصّل بين حقوق الله وحقوق الناس وأنّ الإمام بما أنّه أمين الله في أرضه فهو يعمل بعلمه في الأُولى، ويقيم الحدّ على الزاني وشارب الخمر، دون السارق لأنّه من حقوق الناس.
ولكنّه لايخلو من إشكال لأنّه عدّ حدّ السرقة من حقوق الناس مع أنّه فرق واضح بين حدّ القذف فإنّه من حقوق الناس، وبين حدّ السرقة، فإنّ ردّ ما سُرِق فهو من حقوق الناس، وأمّا القطع فهو من حقوق الله.
ويدلّ على ما ذكرنا : ما رواه الشيخ بسند صحيح عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن الفضيل في حديث وجاء فيه: إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة، قطعه فهذا من حقوق الله، وإذا أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً حدّه، فهذا من حقوق الله وإذا أقرّ على نفسه بالزنا وهو غير محصن فهذا من حقوق الله، قال: وأمّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ على نفسه بفرية لم يحدّه حتّى يحضر صاحب الفرية أو وليّه.... ([990]) ولو فرضنا أنّ الروايتين متعارضتين فالأخذ بالصحيحة متعين لا بما لم يثبت سنده.
نعم، يظـهر من ابن إدريس الحلّي أنّ حدّ السرقة حقٌّ ممزوج من حقوق الله وحقوق الناس حيث قال: فأمّا الحقّ الذي لله ويتعلّق به حقّ الآدمي فلايطالب به أيضاً ولايستوفيه إلاّ بعد المطالبة من الآدمي وهو حدّ السارق، فمتى لم يرفعه إليه ويطالب بماله لايجوز للحاكم إقامة الحدّ عليه بالقطع، فعلى هذا التحرير إذا قامت البيّنة بأنّه سرق نصاباً من حرز لغائب وليس للغائب وكيل يطالب بذلك لم يقطع حتّى يحضر الغائب ويطالب.([991])
وتحقيق المطلب وأنّ القطع من حقوق الله أو الناس موكولٌ إلى محلّه.
على أنّ الظاهر من رواية ابن خالد أنّه بصدد بيان أمر آخر، و هو أنّ حقوق الله تجرى و إن لم تكن هناك مطالبة، وأمّا حقوق الناس فإجراؤها فرع المطالبة، وليست الرواية ناظرة إلى جواز عمل القاضي بعلمه و أنّ قوله: «إذا نظر إلى رجل» في كلا الموردين بمعنى ثبوت الموضوع ثبوتاً شرعيّاً لا ثبوته بعلم القاضي.
ثمّ إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ عليّاً (عليه السلام) عزّر رجلين أو امرأة ورجلاً إذ رآهما في لحاف واحد، أو عزّر قاصّاً يقصُّ في المسجد بالدرة، وهذا يدلّ على جواز عمل الإمام بعلمه في حقوق الله من دون بيّنة. وإليك رواياته:
الثاني: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «كان علي (عليه السلام) إذا وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ».([992])
الثالث: صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما حدّ الزاني مائة جلدة كلّ واحد منهما، وكذلك المرأتان إذا وُجدتا في لحاف واحد مجرّدتين جلدهما كلّ واحدة منهما مائة جلدة».([993])
الرابع: روى الشيخ بسند صحيح عن أبان بن عثمان (الثقة) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «إنّ عليّاً (عليه السلام)وجد امرأة مع رجل في لحاف واحد فجلد كل واحد منهما مائة سوط غير سوط». (2)
الخامس: صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) :«إنّ عليّاً (عليه السلام) وجد رجلاً وامرأة في لحاف واحد فضرب كل واحد منهما مائة سوط إلاّ سوطاً».([994])
السادس: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) رأى قاصّاً في المسجد فضربه بالدرّة وطرده.([995]) وطبع الأمر يقتضي أن تكون القصّة من القصص المضلّة المضادّة لما عليه أُسس الإسلام.
تفسير هذا القسم من الروايات:
1ـ إنّ الروايات ليست في مقام بيان عمل الإمام بعلمه، بل بصدد بيان حكم الموضوع وإن المتسـتّرين تحت لحاف واحد، حكمـهما كذا، والتعبير بـ «وجد» ليس مشيراً إلى أنّه وقف بالموضوع عن طريق رؤيته بنفسه وعمل بعلمه، بل نشير إلى أنّ الثابت من عملهما هو ذاك، أي كونهما في لحاف واحد، من دون إحراز أيّ عمل آخر. ولأجل ذلك جاء التعبير في بعض الروايات: «حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد، والرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد».([996])
2ـ إنّ القدر المتيقّن من هذه الروايات هو وجود التسالم بين القاضي والمتواجدين تحت لحاف واحد، فلايصحّ الاحتجاج به إذا لم يكن هناك تسالم فلو افترضنا أنّ الحاكم الإسلامي رآهما بآلة التصوير من بعيد، فاحضرهما فأنكرا فلايصحّ الاحتجاج بالروايات عليهما.
السابع: ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير، عن شعيب ([997]) قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل تزوّج امرأةً لها زوج قال: «يفرّق بينهما» ، قلت: فعليه ضرب؟ قال : «لا، ما له يضرب»، ـ إلى أن قال ـ فأخبرت أبا بصير فقال: سمعت جعفراً (عليه السلام) يقول: «إنّ عليّاً (عليه السلام) قضى في رجل تزوّج امرأة لها زوج فرجم المرأة وضرب الرجل الحدّ، ـ ثم قال ـ : لو علمت أنّك علمت لفضخت رأسك بالحجارة» .
حمل الشيخ ما روى عن أبي الحسن بمن لايعلم أنّ لها زوجاً، وحمل الثاني على من غلب على ظنّه ذلك وفرط في التفتيش فيعزر.([998])
والفضخ بالإعجام هو كشف المساوئ و يستعمل في معنى الكسر أيضاً وهو المراد في المقام. والاستدلال مبنيّ على الأخذ بظهور العلم في العلم الشخصي، وهو مورد تأمّل بل المراد هو الثبوت الشرعي، كالثبوت في المرأة، فلا إطلاق له من هذه الجهة وليس الإمام بصدد بيانه.
هذا ما وقفنا عليه في حقوق الله وقد عرفت عدم صحّة الاحتجاج بهذه الروايات وهي بين ضعيف السند أو ضعيف الدلالة . أضف إليه وجود الشذوذ في بعض المتون فنخرج بهذه النتيجة أنّه ليس للحاكم الإسلامي العمل بعلمه في حقوق الله إلاّ إذا كان هناك تسالم بين القاضي والمحكوم عليه.
في خاتمة المطاف
نأتي بأُمور تلقي الضوء على المختار
1ـ عدم العمل بالعلم في مورد الإحصان
إنّ النبيّ والوصيّ كانا مصرّين على ستر الأمر في حقّ المحصن والمحصنة، وعدم الرغبة إلى إقرارهما مع الإذعان بصدقهما. فلو كان علم القاضي قائماً مقام بيّنة المدّعي كان اللازم عليهما ـ صلوات الله عليهما ـ إجراء الحدّ، مع أنّا نرى في الروايات المستفيضة تجاهلهما بالنسبة إلى صدور الزنا ومحاولتهما أن لايقرّا بما فعلا.والقائل بجواز العمل بالعلم في مجال حقوق الله لمّا يواجه هذه الروايات، يحاول علاجها بالتخصيص في الضابطة، ويتمسّك بالإجماع بأنّه لايثبت الإحصان، إلاّ بالبيّنة والأقارير الأربعة.وكان الأولى جعل الروايات دليلاً على بطلان الضابطة ولأجل إيقاف القارئ على موقف النبيّ والوصيّ من رفض العلم بزنا المحصن والمحصنة نأتي بنصّين: أحدهما يرجع إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر إلى وصيّه (عليه السلام) ، وإن كان يوجب الإطناب في الكلام.
1. روى البيهقي في سننه قال: «جاء ماعز بن مالك إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طهّرني! فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد ثمّ جاء فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طهّرني! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مثل ذلك حتّى إذا كانت الرابعة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :ممّ أُطهّرك فقال: من الزنا، فسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبه جنون؟ فأُخبِر أنّه ليس بمجنون، فقال: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أثيب أنت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم».([999])
وروي أيضاً بأنّ النبي قال:«ولو كنت راجماً من غير بيّنة لرجمتها».([1000])
2ـ روى الكليني عن صالح بن ميثم عن أبيه قال: «أتت امرأة مجحٌّ ([1001])أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقالت: يا أمير المؤمنين! إنّي زنيت فطهّرني طهّرك الله، فإنّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لاينقطع! فقال لها: ممّا أُطهّرك؟! فقالت: إنّي زنيت، فقال لها: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت أم غير ذلك؟ قالت: بل ذات بعل، فقال لها: أفحاضراً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم غائباً كان عنك؟ قالت :بل حاضراً، فقال لها: انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ايتيني أُطهّرك، فلمّـا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لاتسمع كلامه قال :«اللّهمّ إنّها شهادة» .
فلم تلبث أن أتته فقال: قد وضعت فطهّرني، قال: فتجاهل عليها فقال: أُطهّرك يا أمة الله ممّاذا؟! قالت: إنّي زنيت فطهّرني، قال: وذات بعل أنت إذ فعلت مافعلت؟ قالت: نعم، قال: فكان زوجك حاضراً أم غائباً؟ قالت: بل حاضراً، قال: فانطلقي فارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله، قال: فانصرفت المرأة فلمّا صارت منه حيث لاتسمع كلامه قال: «اللّهمّ إنّهما شهادتان».
قال: فلمّا مضى الحولان أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولين فطهّرني يا أمير المؤمنين ، فتجاهل عليها وقال: أُطهّرك ممّاذا؟ فقالت: إنّي زنيت فطهّرني، فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم، قال: وبعلك غائب عنك إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: بل حاضر، قال: فانطلقي فاكفليه حتى يعقل أن يأكل ويشرب ولايتردّى من سطح ولايتهور في بئر قال: فانصرفت وهي تبكي فلمّا ولّت وصارت حيث لاتسمع كلامه قال:«اللّهمّ هذه ثلاث شهادات...».([1002])
2ـ بطلان وحدة المدّعي والقاضي
القضاء المتعارف بين شعوب العالم، هو خروج القاضي عن إطار المنازعة، فلايكون مدّعياً ولامنكراً، بل ينظر إلى كلامهما، ويوازن دليلهما، وما يقتضي كلامهما. ويترتّب على ذلك ، لزوم كون المدّعي غير القاضي وبطلان وحدتهما.
ولأجل ذلك لو ادّعى أحد على القاضي أمراً يجب أن يرفعه إلى قاض آخر، ولايصحّ رفعه إليه إذ لايصحّ أن يكون القاضي، من أُقيم عليه الدعوى، ولأجل ذلك قال المحقّق:وإن ادّعى أحد على القاضي فإن كان هناك إمام، رافعه إليه وإن لم يكن وكان في غير ولايته، رافعه إلى قاضي تلك الولاية، وإن كان في ولايته رافعه إلى خليفته.
ويظهر من الجواهر أنّ لزوم التغاير أمرٌ مسلّمٌ ولذا استشكل في الرجوع إلى خليفته قائلاً بأنّ ولاية الخليفة فرع ولايته الّتي لايندرج فيها الحكم بالدعاوي المتعلّقة به([1003])، فإذا لم يصلح القاضي لممارسة ما أُدّعي عليه، فلايصلح أيضاً لممارسة ما ادّعى على غيره لوحدة الملاك وهو لزوم مغايرة القاضي، مع أطراف المنازعة فلو وقع في إطارها لما صلح.
على ضوء ذلك فلو كان في مجال حقوق الله سبحانه، بيّنةٌ أو إقرارٌ، يكون المدّعي غير القاضي، فيحكم حسب شهادتهم أو إقراره، وأمّا إذا لم تكن هناك بيّنة ولا إقرار من الشخص، إلاّ القاضي وعلمه فادّعى عليه أنّه ارتكب كذا وكذا، انقلب القاضي مدّعياً، مع لزوم كونهما متعدّداً.
نعم ما ذكرنا من استلزامه وحدة القاضي والمدّعي إنّما يتمّ في حقوق الله دون حقوق الناس، فإنّ المدّعي فيها، صاحب الحقّ، والمنكر، من أُقيم عليه الدعوى، والقاضي هو الحاكم، من غير فرق بين صدوره عن البيّنة والإقرار، أو عن علمه، وعلى كلّ تقدير فالقاضي خارج عن طرفي المنازعة.
نعم إذا كان القاضي قيّماً للأيتام والقصّر، وأمثالهما، فله إقامة الدعوى على الغير، لكن نيابة عنهم، فلايكون القاضي والمدّعي واحداً اعتباراً، وإن قلنا بعدم كفاية التعدّد الاعتباري فاللازم أن يرفع الشكوى إلى قاض آخر وفي المحاكم العرفية يتكفّل مدّعي العموم، أمر إقامة الدعوى ويُرفع الشكوى إلى محكمة أُخرى، لئلا تلزم وحدة القاضي والمدّعي.
3ـ حقوق الله خارجة عن مجال القضاء
إنّ العبرة في حقوق الله بالبيّنة والإقرار، فإن تحقّق واحد منهما أُقيم الحدّ ولولا البيّنة والإقرار لا تصلح لإقامة الدعوى وأمّا إصغاء الادّعاء عند الاقتران بالبيّنة فلأجل الاقتران بها ولاعبرة بالادّعاء وهذا بخلاف حقوق الناس، فلو ادّعى على شخص ديناً فتسمع دعواه وإن لم تقترن بالبيّنة، ويكون له بالتالي حقّ إحلاف المنكر، وهذا بخلاف الادّعاء المجرّد في حقوق الله فلو ادّعى بلابيّنة، يحدّ أو يعزّر، ولايترتّب على الادعاء أي أثر إذ لايمين في الحدّ.([1004])
ولأجل ذلك قال المحقّق: «لاتسمع الدعوى في الحدود مجرّدة عن البيّنة فلايتوجّه اليمين على المنكر»، وقال في الجواهر في شرح كلام المحقّق :بلا خلاف أجده كما اعترف به غير واحد; لأنّ من شرط سماع الدعوى أن يكون المدّعي مستحقّاً لموجب الدعوى فلاتسمع في الحدود لأنّه حقّ الله، والمستحقّ(الله) لم يأذن ولم يطلب الإثبات على أمر، بل أمر بدرء الحدود بالشبهات وبالتوبة من موجبها من غير أن يظهر للحاكم، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن حمل رجلاً على الإقرار عنده بالزنا:«هلاّ سترته بثوبك» وسماعها بالبيّنة بمعنى ثبوتها لا أنّها تكون دعوى له معها كما هو واضح.([1005])
ومع هذا البيان الواضح من الماتن والشارح كيف يصلح للقاضي أن يقيم الدعوى في حقوق الله على شخص ويقضي بعلمه، مع عدم قبول الموضوع لإقامة الدعوى، وبالتالي لايصلح للقاضي أن يتّخذ لنفسه موقف المدّعي، ولاالمنكر موقف الإنكار كما هو واضح.
والحاصل أنّه يشترط في المدّعي أن يكون مالكاً للدعوى بنحو من الأنحاء و هذا الشرط مفقودٌ في حدود الله.
ولعلّه لبعض ما ذكرنا أفتى الشيخ في النهاية باختصاص العمل بالعلم في حقوق الله بالإمام المعصوم ولايعمّ غيره قال:إذا شاهد الإمام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحدّ ولاينتظر مع مشاهدته، قيام البيّنة والإقرار، وليس ذلك لغيره بل هو مخصوص به، وغيره وإن شاهد يحتاج إلى أن يقوم ببيّنة أو إقرار من الفاعل.([1006])
فإن قلت: إذا كان القاضي عالماً بالواقع ولا بيّنة للمدّعي فهل يصحّ للقاضي إحلاف المنكر مع علمه بصدق المدّعي وكذب الآخر؟، أو نفترض أنّ البيّنة قامت على خلافِ ما يعتقده القاضي، فهل تكون البيّنة حجّة مع العلم بكذبها؟
قلت: قد تكرّر مثل هذا السؤال في أكثر الكتب، و الجواب أنّ القاضي مأمور من جانب الشارع بإصدار الحكم على طبق الضوابط لا العمل بالواقع، سواء أوافق الواقع أم لا، و على فرض عدم انصراف الأدلّة عن هاتين الصورتين، فلا دليل على وجوب القضاء عليه في تلك الواقعة، ولا يلزم تعطيل الأحكام لعدم انحصار القاضي به، غاية الأمر يصدر القرار بترك المخاصمة حتّى ينظر قاض آخر في أمرهما.
فتلخّص من هذا البحث الضافي عدم جواز عمل القاضي بعلمه في حدود الله وحقوقه. بقي الكلام في عمله بعلمه في حقوق الناس، وهو ما يأتي في العنوان التالي:
المقام الثالث :
ما استدلّ به في خصوص حقوق الناس
قد عرفت حكم عمل القاضي بعلمه في حقوق الله، بقي الكلام في عمله بعلمه في حقوق الناس فقد استدلّ عليه بروايات :
الأُولى: مرسلة أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «في كتاب عليّ (عليه السلام) : أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء فقال: كيف أقضي بما لم تر عيني ولم تسمع أُذني؟ فقال: اقض عليهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به وقال :إنّ داود (عليه السلام) قال: ربّ أرني الحقّ كما هو عندك حتّى أقضي به، فقال: إنّك لاتطيق ذلك، فألحّ على ربّه حتّى فعل، فجاءه رجل يستعدي على رجل فقال:إنّ هذا أخذ مالي، فأوحى الله إلى داود أنّ هذا المستعدي قتلَ أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل، وأخذ ماله فدفع إلى المستعدى عليه، قال: فعجب الناس وتحدّثوا حتى بلغ داود (عليه السلام) ودخل عليه من ذلك ما كره. فدعا ربّه أن يرفع ذلك ففعل، ثمّ أوحى الله إليه أن أحكم بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به».([1007])
والاحتجاج بالرواية لايخلو من إشكال سنداً ودلالةً، أمّا أوّلاً: فلأنّه مرسل، وكون أبان من أصحاب الإجماع ليس بمعنى حجّية مراسيله أو حجّية رواياته الضعاف كما حقّقناه في كتابنا «كليّات في علم الرجال ».
وأمّا ثانياً: فإنّ الرواية تدلّ على أنّ القاعدة الأوّلية ، هو القضاء بالبيّنات والأيمان، لابالواقع غير أنّ داود النبيّ (عليه السلام) لما دعا ربّه ليعمل بالواقع لديه سبحانه ، أجازه وأوحى إليه الحقّ في تلك الواقعة، ولما صار ذلك سبباً لتحدّث الناس عن داود، دعا ربّه أن يرفع ذلك، فرفعه وصار الأساس، القضاء بالبيّنات والأيمان، والذي يقتضي الإمعان فيها أنّ مصلحة القاضي تَكْمن في القضاء بالبيّنة واليمين، ولمّا دعا داود ربّه أن يقضي بما هوالحق عند الله، فأجابه سبحانه بأنّه لايطيقه ولمّا ألحّ استجاب الله دعوته وأراه المفسدة في العدول عن الطريق المألوف فصار مأموراً بالقضاء به ولو دلّ على شيء لدلّ، على أنّ القضاء بغير الطريق السائد، غير خال من المشاكل والمصاعب .
وإن أبيت عن الدلالة فإنّما تدلّ على العمل بالعلم الذي هو من سنخ الوحي، لامطلق العلم الذي هو موضوع للبحث ولو كان حسيّاً فضلاً عمّا كان حدسيّاً.
ويظهر من بعض ما روي في ذلك الباب أنّ القضاء بالواقع بلا سؤال عن بيّنة من خصائص الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه الشريف ـ روى أبو عبيدة الحذّاء في حديث قال:« إذا قام قائم آل محمّد (عجل الله فرجه) حكم بحكم لايسأل عن بيّنة».([1008])
الثانية: ما يدلّ على أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) كان يقضي بالمعايير العلمية الطبّية والنفسية التي تورث العلم للقاضي ولكلّ من قام بهذا النوع من العمل، ونأتي منها بما يلي:
1ـ ما رواه الشيخ عن عاصم بن حميد، عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) : كان لرجل على عهد عليّ (عليه السلام) جاريتان فولدت إحداهما ابناً والأُخرى بنتاً، فعمدت صاحبة البنت فوضعت بنتها في المهد الّذي فيه الابن وأخذت ابنها فقالت صاحبة البنت:الابن ابني، وقالت صاحبة الابن: الابن ابني فتحاكما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فأمر أن يوزن لبنهما وقال: أيّتهما كانت أثقل لبناً فالابن لها.([1009])
2ـ ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا (3) أمير المؤمنين (عليه السلام) : قال أبو جعفر (عليه السلام) : تُوفّي رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلّف ابناً وعبداً، فادّعى كلّ واحد منهما أنّه الابن وأنّ الآخر عبد له، فأتيا أمير المؤمنين(عليه السلام) فتحاكما إليه، فأمر (عليه السلام) أن يثقب في حائط المسجد ثقبين، ثمّ أمر كلّ واحد منهما أن يدخل رأسه في ثقب ففعلا، ثمّ قال: «يا قنبر جرِّد السّيف» ـ وأشار إليه : «لاتفعل ما آمرك به» ـ ثمّ قال: «اضرب عنق العبد»، فنحّى العبد رأسه فأخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال للآخر: «أنت الابن وقد اعتقت هذا وجعلته مولى لك».
3ـ روى الكليني بسند صحيح عن أبي الصبّاح الكناني ([1010]) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أُتي عمر بامرأة قد تزوّجها شيخ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد فادّعى بنوه أنّها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها عمر أن ترجم، فمرّ بها على عليّ (عليه السلام) فقالت: يا ابن عمّ رسول الله (عليه السلام) إنّ لي حجّة، قال: «هاتي حجّتك»، فدفعت إليه كتاباً فقرأه، فقال: «هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها وكيف كان جماعه لها، ردّوا المرأة» فلمّا كان من الغد دعا بصبيان أتراب ودعا بالصبي معهم فقال لهم: «العبوا» حتّى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: «اجلسوا» حتّى إذا تمكّنوا صاح بهم، فقام الصبيان وقام الغلام فاتّكى على راحتيه، فدعا به عليّ (عليه السلام) وورثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حدّاً حدّاً، فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: «عرفت ضعف الشيخ في تكاة الغلام على راحتيه».([1011])
ويمكن أن يقال: إنّ الرواية ظاهرة في جواز العمل بالعلم في حقوق الله، وذلك لأجل أنّ موردها هو الرجم. ولكن الظهور ممنوع، وذلك لأنّ الإمام عمل به في دفعه عن المرأة، لافي إثباته ولايمكن لنا الإذعان أنّ الإمام يعمل به في الجانب الآخر، ولعلّه(عليه السلام) كان واقفاً على صدقها وأراد بما فعل إقناع عمر ببراءتها وإلاّ فمجرّد الاتّكاء على الأرض لايفيد العلم بأنّه ابن رجل أودع نطفته في رحم أُمّه وهو شيخ كبير فان.
4ـ مارواه في الوسائل عن الشيخ المفيد في الإرشاد :
قال روت العامّة والخاصّة أنّ امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادّعته كلّ واحدة منهما ولداً لها بغير بيّنة ولم ينازعهما فيه غيرهما، فالتبس الحكم في ذلك على عمر، ففزع فيه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوّفهما، فأقامتا على التنازع، فقال عليّ (عليه السلام) : «ايتوني بمنشار» فقالت المرأتان: فما تصنع به؟ فقال: «أقدّه نصفين لكلّ واحد منكما نصفه» فسكتت إحداهما وقالت الأُخرى: الله الله يا أبا الحسن إن كان لابدّ من ذلك فقد سمحت به لها ، فقال: «الله أكبر هذا ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقّت عليه وأشفقت»، واعترفت الأُخرى أنّ الحقّ لصاحبتها وأنّ الولد لها دونها.([1012])
لا شكّ أنّ الإمام (عليه السلام) قد قضى بمقدّمات حسيّة تورث العلم لكلِّ من شاهد القضايا بأُم عينيه ، سواء كان الإمام أو غيره وقد اعتمد في قضائه على أمور طبّية، كما في مورد وزن اللبن حيث إنّ الذكر أقوى جسماً من الأُنثى، فطبع الحال يقتضي أن يكون اللبن الذي يتغذّى به أقوى مادّة من لبن غيره إذا كانا متقاربي الولادة من حيث الزمان ، لا إذا كانا مختلفين من تلك الجهة، فربّما يكون لبن أُمّ البنت إذا كانت وليدة سنة أقوى من لبن أُمّ الابن إذاكان وليد يوم.
ولكنّه (صلوات الله عليه) اعتمد في الموارد الأُخر على أُمور نفسية تورث الاطمئنان، مثلاً عند ما سمع أحدهما أمرَ الإمام بضرب عنق العبد، نحّى رأسه دون الآخر من دون وعي وشعور، وهذا يدلّ على أنّه في صميم ذاته كان يعتقد برقّيته دون الآخر.
كما أنّ الإمام اعتمد على ناموس الوراثة، وأنّ شيخوخة الأب حين انعقاد النطفة تؤثر في الولد حيث قام الصبيان بلا اتّكاء على الراحة وقام هو متكئاً على راحتيه.
ومثله القضية الأخيرة حيث دلّ إشفاق إحدى المرأتين ورقّتها على كونها أُمّاً دون الأُخرى. وإن اعترفت أخيراً على أنّ الولد لها دونها، لكن الإمام قضى قبل إقرارها . ([1013])
خصوصيات هذه الموارد
الأُولى: إنّ المعلوم وإن لم يكن حسيّاً لكن مبادِئه حسّية ولايمكن التعدّي من هذا النوع إلى ما إذا كانت مبادؤه حدسيةً بحتةً.
والثانية: إنّ المصادر التي صدر عنها الإمام لايختصّ بأحد دون أحد والإمام وغيره سواسية أمام ذلك العلم، فهو قابل للانتقال إلى الغير، بالإمعان فيه من مبادئه ومقدّماته.
الثالثة: إنّ الإمام لم يقض غائباً عن أعين الناس بل قضى وهو في مشهد عظيم، ترى كيف عالج المشاكل بالمواهب الإلهية والطاقات الربانية فأخرج نفسه بذلك عن مظنّة التهمة و تحدّث الناس عنه.
فلو حصل مثل ذلك العلم للقاضي غير المعصوم، فله الحكم أخذاً بالضابطة.
ثمّ إنّ جمع القرائن والشواهد في المحاكم العرفية للتعّرف على صدق المدّعي أو إنكار المنكر أمر رائج فيها، وربّما يحولون الأمر إلى الخبراء للتحقيق عن دلالتها على ما يرتئيه القاضي.
نفترض وقوع قتل في البيت أو الشارع أو في غرفة عمل المقتول، فاتّهم إنسان بأنّه المباشر للجناية، فإنّ التحقيق عن الصلة الموجودة بين المقتول والمتّهم، من الحبّ والبغض وعن مكان القتل وزمان وقوعه ، والآلة التي تركت في المحلّ، ومدى قدرة المتّهم على إعمالها، والإمعان في حالته عند مواجهة جسد المقتول.ووجود الانسجام أو التناقض في أجوبة الأسئلة إلى غير ذلك من الأُمور، يكشف الستر عن وجه الحقيقة ويصل القاضي في ظل نظر الخبراء إلى النتيجة القطعية التي يصل إليها كل من نظر في الملفّ وتأمّل فيه، فهذا النوع من العلم علم حسيّ بمعنى أنّ مبادءه حسّية، ولأجل ذلك ربما يضطرّ المتّهم بالإقرار قبل صدور الحكم، كما ربّما يصل القاضي ببراءته وليس تحصيل العلم فيه أبعدمن تحصيله من الشهادة بالعدالة والفسق.
فلو لم نعتمد على هذه القرائن والشواهد أو شهادة الخبراء الذين أحرزت عدالتهم وصدقهم في المقال، على دلالتها على واحد من الأمرين، لانتشر الفساد في الأرض، أو أقفل باب القضاء في زماننا هذا.
ولقد بلغني عن بعض القضاة الممارسين في المحاكم، أنّ القضاء بالبيّنات فيها قليل جدّاً، فلامحيص إلاّ عن الإقرار، أو الإحلاف غير أنّ جمع القرائن والشواهد والرجوع إلى الخبراء والأخصّاء، يكشف السرّ المكتوم ويستعين به القاضي وربّما يواجه القاضي حوادث ليس للبيّنة لها طريق، كوقوع حريق في المعمل، لايُدرى هل حدث عن عمد، أو لوجود نقص في الأسلاك الكهربائيّة، أو تقصير في الصيانة أو غير ذلك فلا محيص عن اعتبار علم القاضي إذا استند إلى أُمور حسيّة أو قريبة من الحسّ مفيدة للعلم لكل إنسان عاديّ.
وعلى ضوء ذلك يجوز للقاضي العمل بعلمه بشرط أن يكون علمه مستنداً إلى مبادئ حسيّة أو قريبة منها، على وجه يكون قابلاً للانتقال إلى غيره، بحيث لو نظر إليها غيره لحصل له العلم ، وهذا ما نعبّر عنه بجمع القرائن والشواهد المفيدة للعلم.