كانت معوقات الاستثمار في البلدان العربية هي العنوان الذي تصدر حلقة نقاشية في شبكة الأخبار العربية، في الأربعاء الذي مضى، شارك فيها معي الدكتور تيسير الألوسي، من المهجر، وأدارها الإذاعي البارع الأستاذ نهاد إسماعيل. وكان السؤال قد تمحور حول ماهية الأسباب التي تجعل الرأسمال الأجنبي يتردد كثيرا عن الاستثمار في الأقطار العربية.
جملة من ملاحظات، ذات علاقة مباشرة بموضوع الحلقة، دارت بخاطري، ستكون موضوع حديث هذا اليوم، وربما في أحاديث أخرى.
أولى تلك الملاحظات تتعلق بموضوع النقاش ذاته، وبالطريقة التي طرح فيها السؤال. فقد حملت طريقة طرحه جملة من الفرضيات المغلوطة. أولاها الإيحاء بأن استثمار الأموال الأجنبية في البلدان العربية شيء إيجابي ومفيد، وأن غيابه ربما يشكل معوقا رئيسيا من معوقات التنمية في بلداننا. وهذه الإجابة التقريرية بحاجة إلى مراجعة وإعادة قراءة وتمحيص، سنتناولها لاحقا.
الفرضية الأخرى، هي طرح السؤال بصيغة تعميمية، ذلك أن المعوقات المشار إليها ليست حالة عامة، بمعنى أنه ينبغي الإقرار بنسبيتها. فهي في البلدان النفطية، على سبيل المثال، حيث تصل معدلات الدخل إلى أرقام فلكية موجودة بقوة، رغم كل ما يقال عن معوقات، كسيادة كابوس البيروقراطية، وضعف الأداء الإداري، ووجود قوانين ولوائح لا تتماشى مع روح العصر.
الفرضية الثالثة التي أوحى بها السؤال، هي النظر إلى الاستثمار، باعتباره موضوعا واحدا، مع أن ذلك مخالف لواقع الحال. الوطن العربي يضم أنشطة ومجالات واسعة ومختلفة، ومتطلبات نجاح الاستثمار الأجنبي، تختلف باختلاف الأنشطة. فشروط نجاح الاستثمار في المجال السياحي هي بالتأكيد مختلفة عن شروط نجاح الاستثمار في الأنشطة المصرفية، أو الصناعات البتروكيماوية، أو في حقل الزراعة، أو استكمال البنية التحتية، وهكذا..
وإذا ما انتقلنا من الفرضيات وعدنا إلى السؤال نفسه، وتحدثنا عن معوقات الاستثمار الأجنبي في البلدان العربية، سيبرز أمامنا سؤال بديهي وجوهري آخر، يفترض أن يكون طرحه والإجابة عليه هو المقدمة لطرح السؤال عن المعوقات. لماذا نحن بحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية في بلداننا العربية؟. وربما بدا السؤال غريبا ومستهجنا لدى الكثير من الناس. فكل بلدان العالم الثالث على السواء تسعى لزيادة الاستثمارات الأجنبية في بلدانها، باعتبار ذلك هو السبيل، ربما الوحيد، لحل أزماتها الاقتصادية، وإيجاد فرص عمل للقضاء على البطالة، وأيضا لتحقيق الرخاء ورفع مستوى العيش.
لماذا نحن بحاجة إلى استثمار الأموال الأجنبية في بلداننا، سؤال ينبغي أن تكون الإجابة عليه مرتبطة ببرامج التنمية، وإلا انطبق علينا المثل القائل: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنا". قضايا التنمية، في بلدان العالم الثالث، وبضمنه الوطن العربي، مرتبطة بشكل أساسي، بوجود تخطيط مركزي يركز على الأولويات، وتنشيط القوى المحركة، ويعمل على تحفيز مخرجات وأدوات التنمية. بدون التخطيط، تغرق بلداننا في فوضى اقتصادية، ويسودها الفقر والبؤس، ولا تستطيع التنافس مع عالم صناعي متقدم، يحمل من الكفاءة والخبرة ما يجعله يتقدم علينا أضعافا مضاعفة.
من غير المعقول، في مجتمعات لم تشق طريقها بعد، نحو التنمية والتطور والبناء اعتماد مذهب آدم سميث: "دعه يعمل"، لسبب بسيط هو أن التنافس في السوق هو ليس بين اقتصادات متكافئة من حيث القدرة والقوة، ولكنه بين عالم متقدم، يزخر بالخبرات والإمكانيات، بدأت ثورته الصناعية منذ أكثر من ثلاثة قرون، وبين عالم آخر لم يبدأ بعد رحلته نحو هذه الثورة. لم تكن أوروبا في ثورتها الصناعية الأولى بحاجة إلى برامج تخطيط، لأن التطور التاريخي كان يسندها بقوة... وكانت القوى الصاعدة آنئذ تتنافس مع طبقة إقطاعية متخلفة، تنذر كل التطورات التي تجري من حولها بقرب أفولها.
هذا الواقع ليس له ما يماثله في بلداننا. لقد تغير العالم من حولنا أضعاف المرات، وحدثت ثورات عدة في مجالات التكنولوجيا والاتصالات، وارتبطت الدول بنظام اقتصادي عالمي، أصبحنا نحن، وإن بصيغة استهلاك منتجاته، جزءا من ماكنته الاقتصادية. تحول العالم إلى قرية صغيرة، سادت فيها نظرية المركز والأطراف، حيث المركز ينعم بالتقدم والرخاء والتطور، بينما يقتصر دور الأطراف، على إشباع نهم المركز في مزيد من الثروة والجاه، وتأمين المواد الخام والأساسية لتشغيل الآلة الصناعية في الشمال، وأيضا جعله مجرد سوق واسعة للمنتجات المستوردة.
تغيير هذه المعادلة، لصالح التطور والتنمية في بلداننا، يتطلب تدخلا مباشرا من الحكومات، بما يسهم في إيجاد خطط تنمية حقيقية، تتجاوز استكمال البنية التحتية في الوطن العربي، والتي مضى على الحديث عنها ما يزيد على نصف قرن، إلى التماهي مع أهم خصائص العصر الكوني الذي نعيش فيه. وأهم هذه الخصائص الاهتمام باقتصادات الأبعاد الكبيرة، التي تعني في أبسط أبجدياتها تحقيق اندماجات واسعة بين المؤسسات الصغيرة، وإقامة تكتلات اقتصادية كبرى، تكون قادرة على الصمود والتنافس في الأسواق العالمية.
من هنا تحضر بقوة فكرة التكامل الاقتصادي العربي، والوحدة الاقتصادية، كوسيلتين لا مفر منهما للخروج من عنق الزجاجة. في هذا السياق، هناك اتفاقيات عديدة وقعتها الحكومات العربية، إما منفردة، أو بشكل جماعي، في إطار جامعة الدول العربية ينبغي السعي من أجل إحيائها وتنشيطها. وضمن منظور التكامل الاقتصادي العربي، يصبح لزاما التنبه لمختلف المعوقات والعمل على حلها.
يصبح الاستثمار الأجنبي، ضمن هذه الرؤية، عنصرا مساعدا في المساهمة ببرامج التنمية، المعدة بروية وعمق. ويحكم وجوده عدم توفر خبرات وكفاءات ذاتية في أسواقنا. إن حضور المال الأجنبي، إذاً، هو رهن لحاجتنا له. وفي كل الحالات، ينبغي أن يكون واضحا في عقولنا أن هدف المستثمر ليس من الضروري أن يتقابل مع أهدافنا. إن هدفه ببساطة هو وضع كميات من المال والكفاءة والخبرات، بغية تحقيق موارد مالية أعلى. أما النتائج المتحققة على الأرض فليست ذات شأن بالنسبة له، بل ربما كانت على حساب مصالحه المستقبلية. أما بالنسبة لنا، فإن هدف التنمية هو إحداث تغييرات هيكلية في البنية الاجتماعية، بما يحقق الأمن والرخاء ويؤمن مستقبل الجيل الحاضر والأجيال القادمة في وطن سعيد وعيش رغيد.
لا تتطلع خطط التنمية الحقيقية إلى حل مؤقت لأزمة مستعصية للبلدان العربية، بل إلى الخروج، بشكل نهائي من حال التخلف والبقاء أسيرة في خانة البلدان النامية، إلى قائمة البلدان المتقدمة. وللأسف الشديد، فإنه رغم مضي أكثر من نصف قرن، منذ أنجزت معظم الأقطار العربية استقلالها، ورغم الأحاديث الطنانة عن خطط اقتصادية وبرامج طموحة، لم يتمكن قطر عربي واحد من الخروج من أسر التبعية، والبقاء في الأسر، ضمن خانة الدول النامية.
التكامل الاقتصادي العربي، الذي نتحدث عنه ليس ضم أصفار إلى بعضها البعض، لا ينتج عنها سوى مزيد من الأصفار. إنه إعادة تشكيل الخارطة الاقتصادية لجميع البلدان العربية، وتحقيق اندماجات كبرى، حيثما أمكن بين هذه البلدان، بما يسهم في تطويرها وتحقيق العدل الاجتماعي لمواطنيها. إنه يعني أيضا إلغاء الحواجز الجمركية، وفتح الأبواب لتدفق ليس فقط العمالة العربية، ولكن الرساميل أيضا. ويعني أيضا تخفيف حدة التنافس الاقتصادي بين البلدان العربية، واعتماد صيغ التنسيق بدلا عن التنافس، بحيث نتجه، بدلا عن التنافس بين منتجات من نوع واحد، في عدد من البلدان العربية، كما هو الحال مع الصناعات البتروكيماوية، إلى تحقيق اندماجات كبرى، تعزز من قوتنا وقدراتنا على التنافس في الأسواق العالمية.
ومن أجل صالح العمل العربي المشترك، والدفع بعملية التنمية العربية بقوة إلى الأمام، ينبغي محاولة الفصل بين الأنشطة الاقتصادية والخلافات السياسية الطارئة، بحيث لا تنحدر محاولات التكامل والتنسيق الاقتصاديين إلى الهاوية، عند اصطدامهما بأي خلاف يحدث بين نظام عربي وآخر. مصالح الأمة ينبغي أن تكون فوق كل الاعتبارات والعواطف، وإذا ما شملت هذه المصالح معاش الناس، وأمورهم اليومية، فإن محاولات ضربها، أو التراجع عنها ستكون عصية، وسيكون مآلها الفشل. بالمدخل الاقتصادي يتحول إيماننا بأمة عربية قوية موحدة، من حلم رومانسي، نتغنى به في أدبياتنا وأشعارنا إلى فعل واقعي تعززه الإنجازات والأرقام. ويصبح الاستثمار الأجنبي عاملا إيجابيا، وجزءاً من الفعل الخلاق والمنشود للحاق بحركة التاريخ.
ما هي معوقات تحقيق هذا الحلم..؟ وما هي معوقات التنمية والتكامل الاقتصادي العربي؟، وبالتالي ما هي معوقات الاستثمار الإيجابي الأجنبي في البلدان العربية؟ وكيف السبيل للخروج من هذه المعوقات؟ أسئلة هامة وملحة سوف نتناول الإجابة عليها في الحديث القادم، وأحاديث أخرى بإذن الله.