السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مـسـيـرة الأرواح فـي عـالـم الـبـرزخ
هناك العديد من البشر يجهلون تفاصيل ما يجري على القابعين في التراب
واهل البرزخ,, وربما نسمع دوماً كلمة " البرزخ " ولكننا نجهل معناها او
نجهل ما يحدث للإنسان في عالم البرزخ ...
قال مولاي ابا تُراب الإمام علي سلام الله عليه : (( آهٍ من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد )) .
الإحتضار
منذ عدة أيام عم الألم جسدي واخذ يؤذيني ... وبدأت علامات الموت تدنو مني وحلت بي حالة الإحتضار .
اداروا برجليَّ نحو القبلة ، واحاط بي زوجتي وابنائي وأقربائي وبعض اصدقائي ، ومنهم من ترقرت دموع عينيه ، اغمضت عيني بهدوء وغرقت في بحر افكاري ، واخذت افكر مع نفسي ، بم قضيت عمري ، وأين لملمت أموالي - رغم قلتها - وأين انقفتها ؟
لقد كان التفكير بذلك يؤلمني كثيراً ، ومن شدة القلق فتحت عيوني ...
(( الموت : خروج الروح من الجسد ))
قال مولاي أبا تُراب أمير المؤمنين الإمام علي سلام الله عليه: ((الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا ))
في تلك الأثناء انتبهت الى وجود شبح طويل القامة يرتدي ثيابا بيضاء قد نشب يديه على اطراف اصابع قدمي واخذ يتجه نحو الأعلى من جسدي ،
ولم اكن اشعر بالألم عندما كان عند قدمي لكن الألم اخذ يزداد كلما ارتفع نحو الأعلى وكأن الألم باجمعه اخذ يتحرك الى الأعلى من جسدي ،
وحتى وصلت يده الى حلقومي ، حينها اصبح جسدي بلا شعور ، بيد ان رأسي اصبح ثقيلاً بحيث كنت اشعر انه سينفجر من شدة الضغط ،
او ان عيني ستخرجان من حدقتيهما .
تقدم عمي الشيخ العجوز نحوي وقد امتلأت عيناه بالدموع وقال لي : يا ولدي اقرأ الشهادتين ، انا اقرأها وانت رددها معي : اشهد ان لا إله الا الله وأشهد أن
محمدا رسول الله وان عليا ولي الله ...
لقد كنت اراه واسمع صوته ، فتحركت شفتاي ببطء وما ان اردت التلفظ
بالشهادتين حتى احاطت بي اشباح سوداء قبيحة والحّوا علي ان لا انطق
الشهادتين ، لقد كنت اسمع بأن الشياطين تحاول سلب ايمان المرء عند موته
، لكنني لم اكن اتصور ابداً انهم يفلحون في صدي .
ومرة أخرى أدنى عمي وجهه مني وتلفظ بالشهادتين ، ولما أردت تحريك
لساني تحرك الشياطين مرة أخرى ولكن عن طريق التهديد في هذه المرة .
لقد كانت لحظات عجيبة ، فمن ناحية كان الذي يرتدي ثياباً بيضاء يمارس أعمالاً مدهشة . ومن جهة ثانية ، كنت أواجه إصرار عمي على النطق بالشهادتين ، وثالثة محاولات الأشباح الخبيثة في سلب إيماني في آخر لحظات حياتي .
ثقل لساني وكأن شفتي قد خبطت مع بعضها ، لقد اعتراني العجز ، وكنت أريد الخلاص من هذا الوضع المؤلم ولكن كيف ؟ وعن أي طريق ؟ وبواسطة من ؟ في غضون ذلك التجاذب ظهرت من بعيد أنوار ساطعة فقام ذلك الرجل ذو الثياب البيضاء إجلالاً لها ولّت تلك الوجوه القبيحة هاربة ، ورغم عدم معرفتي في تلك اللحظات لتلك الأنوار الطاهرة الفريدة لكنني عرفت فيما بعد أنهم الأئمة الأطهار قد حضروني في اللحظات الحساسة وببركة وجودهم أشرق وجهي وانفتح لساني فحركت شفتيّ ونطقت بالشهادتين هنا امتدت يد ذلك الرجل ذي الثياب البيضاء لتمسح على وجهي ، وشعرت بالاطمئنان بعد أن كنت أعاني شدة الألم والاضطراب.
لقد أصبحت وكأنني ألقيت الآلام والعذاب بأجمعه على كاهل أهل الدنيا لأنني شعرت بالاستقرار وكأنني لم أرَ حرية واستقراراً كالذي عشته في ذلك اليوم فقد انفتح لساني وأشرح عقلي . كنت أرى الجميع وأسمع أحاديثهم . هنا وقعت عيناي على ذلك الرجل ذي الثياب البيضاء فسألته : من أنت ؟ وماذا تريد مني ؟ فإنني أعرف كل الذين حولي إلا أنت ، فقال : كان عليك أن تعرفني ، أنا ملك الموت ، فاضطربت لسماع اسمه واهتز كياني ، فوقفت أمامه أتخضع وقلت : السلام عليك يا ملك ربي فلطالما سمعت باسمك ومع ذلك لم أستطع معرفتك حين الموت ، هل تريد الإذن مني كي تقبض روحي ؟
فأجاب ملك الموت مبتسماً : إنني لا أحتاج إلى إذنٍ من أي أحد لأنتزع روحه من جسده ، وإذا ما تأملت جيداً سترى إنك قد ودعت الحياة الفانية ، انظر إلى جسدك قد بقي بين أهل الأرض ، فنظرت إلى الأسفل فاستحوذت عليّ الدهشة والحيرة ، إذ أن جسدي مطروح على الأرض بلا حراك بين أقربائي ومعارفي ، فيما كانت زوجتي وأبنائي وكثير من الأقارب يحومون من حولي وهم يبكون وترتفع صرخاتهم إلى عنان السماء وأخذ آخرون بالشكوى والتساؤل : لقد تعجل عليه الموت ، لماذا ؟
أخذت أفكر مع نفسي : لِمَ ينوح هؤلاء ؟ ومن أجل من ؟ أردت دعوتهم لالتزام الهدوء ، وهل يكون ذلك ؟
صرخت فيهم : أيها الأعزاء التزموا الهدوء ، أما تريدون راحتي واستقراري ؟ فلماذا هذا التفجع والحزن ؟
بعد الألم المضني أصبحت الآن في كامل الراحة والسعادة .
إنني أخاطبكم أما تسمعون ؟ لِمَ هذا البكاء ؟ ممّ عويلكم وبكاؤكم ؟ نوروا الدار بالدعاء وذكر الحق تعالى .
استمر عويل واستغاثة الحاضرين ، يعلو ويعلو ، هنا سمعت صوت ملك الموت يقول : ما الذي دهى هؤلاء ؟ مم ّصراخهم وعويلهم ؟ ولِمَ هذه الشكوى والتفجع ؟ لِمَ هذا البكاء واللطم على الرؤوس ؟ أقسم بالله إنني لم أرتكب ظلماً بحقه ، فلقد نفذ رزقه في هذه الدنيا ، ولو كنتم مكاني لقبضتم روحي بأمر من الله ، اعلموا أن دوركم سيأتي يوماً ما ، وسأتردد على هذه الدار حتى لا أدع أحداً فيها ، إن عبادتي وطاعتي لله هي أن أقطع كل يوم وليلة أيدي الكثيرين عن هذه الدنيا .
الناس مستمرون بعملهم لا يسمعون هذه الإنذارات . تمنيت لو كنت سمعت هذه الإنذارات ولو مرة واحدة في الحياة الدنيا كي تكون عبرة لي ... لكن واحسرتاه ثم واحسرتاه ...
لفوني بقطعة قماش وبعد ساعة حملوني إلى المغتسل ، إنه مكان معروف لدي فطالما جئت هنا لغسل أمواتنا ، وهنا لفت انتباهي المغسل حيث كان يقلبني كيف شاء ودون عناء ، ونظراً لعنايتي بجسمي فقد صرخت بالمغسل : تمهل قليلاً ! ارفق بي ! فقبل لحظات خرجت الروح من هذه العروق فأضعفتها وأعجزتها ... لكنه واصل عمله دون أدنى عناية بمطالبي المتكررة .
انتهى الغسل ، ثم لفوني بذلك الكفن الذي كنت قد اشتريته بنفسي ... لقد كنت أفكر آنذاك بأن شراء الكفن إنما هو عمل روتيني ، ولكن ما أسرع أن لف جسدي بالبياض. حقاً إن الدنيا دار جواز .
وعند سماعي لنداء الصلاة .. الصلاة .. الصلاة .. دخلني نوع من الطمأنينة ...
التشييع
(( أنا راحل ، وثقوا إنكم ستلحقون بي ، ولا تتصوروا أن الموت خلق لغيركم ، عجباً لكم تشاهدون الموت ولا زلتم غافلين ))
لما انتهت الصلاة حملوا جنازتي على أيديهم ، ومرة أخرى بعثت صرخات الشهادتين الطمأنينة في نفسي ، ولعلاقتي بجسدي أمسكت بأعلى الجنازة وأخذت أسير معها .
لقد كنت أعرف المشيعين جيداً ، مجموعة أمسكت بقاعدة التابوت ، وأخرى تمشي خلفه ، كنت أسمع أصواتهم وأحاديثهم ، حتى أن باطن الكثير منهم قد انكشف لي ، ومن هنا قد اعتراني السرور لحضور البعض ، فيما كان حضور آخرين يؤذيني حيث كانت الرائحة الكريهة المنبعثة منهم تعذبني ، كنت أرى بعضهم على هيئة قردة في حين كنت أحسبهم في الدنيا من الصالحين . من جانب آخر نظرت إلى أحد معارفي فداعبت روحي رائحة العطر المنبعثة منه ، وقد كنت في الدنيا لا أكنّ له الاحترام وذلك للبساطة الطاغية على ظاهره ، وربما أسقطته في عيني غيبة الآخرين له وو .... كان التابوت يسير مرفوعاً على أكتاف الأصدقاء وكنت أرافقهم والقلق من المستقبل يهيمن عليّ .
لوقت الذي كانت ألسنة الكثير من المشيعين تترنم بنداء ( لا إله إلا الله ) كانن اثنان من أصدقائي يتهامسان فيما بينهما فدنوت منهما وأنصت لحديثهما ، واعجباً ! متى تستيقظان من غفلتكما ؟ أتتحدثان عن معاملة وصكوك مرفوضة وأرباح و ... ؟ كان من الأفضل أن تفكرا في هذه اللحظات بآخرتكما ، بذلك اليوم الذي سيحل عليكما وينقض عليكما الموت ! إذ ستنقطع أيديكما عن الأرض والسماء وتغلق صحيفة أعمالكما وتطلبان الفرصة مثلي ، حينها لن تحصلا على الإذن بالعودة وستعضان على أيدي الندامة : يا ليتنا قد فكرنا بهذه الدنيا الباقية في تلك الدنيا الزائلة.
أيها الأصدقاء ! إنني أدعو لكم أن تعمر دنياكم وتكون آخرتكم أكثر عمراناً ، ولكن أقسم عليكم بالله أن تستيقظوا من غفلتكم وفكروا جيداً ، وإذا لم تفكروا بي ففكروا بآخرتكم على أقل تقدير ، فكروا بذلك اليوم حيث ستلتحقون بي . امضوا هذه اللحظات بذكر الموت ، فإذا لم تفكروا بالموت هنا ، فأين ستعودون إلى أنفسكم ؟ كأن الموت لم يخلق لكم ؟ عجباً لكم تنظرون إلى الموت ولا زلتم غافلين .
وهنا توجهت إلى أهلي وعيالي قائلاً :
أيها الأعزاء ! لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ، لقد أجبرتموني على جمع الأموال التي لذاتها لكم وتبعاتها علي ...
القبر
وصل المشيعون إلى المقبرة ، وعند مشاهدتي لها استحوذ على فؤادي الغم ، مروا على العديد من القبور حتى بانت حفرة من بعيد فهيمن علي الاضطراب والرعب .
بقيت مسافة حتى قبري فوضعوا جنازتي على الأرض ، استرحت قليلاً ، وبعد قليل رفعوا التابوت ثانية وساروا به قليلاً ، ثم وضعوه على الأرض ثم رفعوه ساروا به وحطوا به على مقربة من القبر ، ألقيت بنظرة داخل القبر فانتابني الرعب مرة أخرى .
رفعت مجموعة منهم جنازتي من التابوت وما أن أدخلوا رأسي في القبر تصورت من شدة الخوف والرهبة كأنني هويت من السماء إلى الأرض ، وحينما كانوا يدخلون الجسد إلى اللحد ألقيت من خارج القبر بنظرة إلى جسدي وأخرى وجهتها إلى الناس . فاقترب أحدهم من جسدي منادياً باسمي ، فدنوت منه واستمعت لكلامه فقد كان مشغولاً بالتلقين .
كنت أسمع كل ما يقول وأردد معه ، ما أروعه فقد كان يتلفظ بروية وطراوة ، وما إن مضت لحظات حتى بدأوا بوضع الصخور فوق اللحد ، فشعرت بالأذى والأسى لأنهم سجنوا جسدي تحت التراب .
تأملت مع نفسي من الأفضل أن أنسحب ولا أدخل القبر مع الجسد ، ولكن لشدة تعلقي بالجسد جئت إلى جانب الجنازة ، وفي طرفة عين بدأت الأيدي تهيل التراب على الجسد .
حل أوان الغربة
انتابني السرور لكثرة الذين جاؤوا لمواراة جثماني الثرى ، وشعرت بالمتعة لحضورهم وتلاوتهم للقرآن والصلوات على النبي وآله ، ثم أخذ الحاضرون بالانصراف شيئاً فشيئاً ولم يبقى منهم إلا نفر يقدرون بعدد الأصابع ، ولكن لم يمض من الوقت إلا القليل حتى تركوني وحيداً – وهذا مالم أصدقه – ربما لا تتصورون ما جرى علي في تلك اللحظات ، فلم أكن أتوقع منهم هذا الجفاء ، أولادي ، بناتي ، زوجتي وكذلك أصدقائي المقربين الذين لم أبخل عليهم بالمودة ، لكنهم سرعان ما انصرفوا وتركوني وحيداً! وددت لو أصرخ فيهم :
أين تذهبون ؟ ابقوا معي ، لا تتركوني وحيداً ... في تلك الأثناء سمعت منادياً ينادي في الناس : توالدوا للموت ، واجمعوا للفناء وابنوا للخراب ، ولكن للأسف فقد كانوا في وادٍ آخر محرومين من الاستماع لهذا النداء ، ولما عرفت أن الناس قد خرجوا من المقبرة ناديتهم : اذهبوا ، ولكن اعلموا بأنكم ستنزلون التراب يوماً صدقتم أم لم تصدقوا ، شئتم أم أبيتم ، اعلموا فوا لله لا يؤخر الأجل .
بعد كل ذلك الصراخ والعويل رجعت إلى نفسي فوجدت أن كل ما بقي لي هو قبر مظلم موحش مهول يثير الغموم ، فاستحوذ علي الرهبة ، أخذت أفكر مع نفسي : وكأنهم قد قذفوا في فؤادي كل ما في أفئدة أهل الأرض من غموم وكل مافي الدنيا من قلق ، وإنه غم ورعب لو نزل على بدن الإنسان لأهلكه ، ونتيجة لذلك الضغط النفسي بكيت وسالت دموعي ساعات وساعات .
أخذت أتذكر أعمالي فأدركت قلة بضاعتي ، فتمنيت لو عدت مع الذين كانوا قد اجتمعوا على قبري ، كي أقضي عمري بالعبادة وإحياء الليل والأعمال الصالحة وأنفق ما كنت جمعته خلال السنوات الأخيرة من عمري على الفقراء ، ليتني ... ليتني ...
وأنا غارق في بحر أفكاري ارتفع صوت من يسار القبر : إنك تتمنى العودة عبثاً ، أغلقت صحيفة حياتك ! فرعبت ُ لذلك الصوت في تلك الظلمة وكأن أحداً قد دخل القبر ، فسألته بصوت مهزوز : من أنت ؟
فأجاب :
أنا رومان من ملائكة الله (تعالى) .
قلت : لعلك عرفت مايدور في ذهني !
قال : نعم .
قلت : أقسم لو تركتني أعود إلى ذلك العالم لن أعصي الله أبداً وأعمل على كسب رضاه . اليوم حيث انصرف عني كل من أعرفهم بل وحتى أفراد أسرتي وتركوني ، أدركت غدر الدنيا ، فاطمئن إذا رجعت إلى الدنيا لن أغفل لحظة واحدة عن طاعة خالقي وعبادته !
قال : إنها كلمة أنت قائلها ، لكن اعلم أن الواقع غير ما تتمناه فلا بد أن تمكث في البرزخ من الآن وحتى قيام الساعة .
بعد ذلك باشر بإحصاء أعمالي الصالحة والطالحة تلك الأعمال التي ارتكبتها طيلة حياتي وسجلها الكرام الكاتبين .
عجباً لها من صحيفة تضم حتى أصغر أعمالي صالحها وقبيحها ، وفي تلك اللحظات شاهدت أعمالي أمام عيني .
كنت أفكر بثقل أعمالي وخفتها فبادر( رومان ) إلى تعليق صحيفة أعمالي في رقبتي بحيث شعرت وكأن جبال الدنيا كلها علقت في عنقي .
ولما أردت أن أسأله عن السبب في ذلك ، قال : كل إنسان يطوق بأعماله .
قلت : وإلى متى يجب أن أتحمل ثقل هذا الطوق ؟
قال : لا تقلق ، بعد ذهابي سيأتي منكر ونكير للمساءلة ثم تزول هذه المشكلة عنك .
قال رومان ذلك وانصرف .
يُكمل بأذن الله لعلنا نتعض قليلاً وتخشع الابصار..
رحماك يارباه عفوك يالله..