مقدمةلا أحد يَشُك فيما للشعر العربي من أهمية، أو يجهل قيمتَه الأدبيَّة والثقافية والاجتماعية، ولا أحد يُنكِر هالتَه العظيمة حينما يَقترِب منه محللاً أو دارسًا؛ فالكل يعرف أن الشعر العربي مدينة عِلْم العرب، بابها الفَهْم السليم لهذا الشعر، ودروبها دراسته وتحليله وإدراك مقاصده وأهدافه، غير أن الفَهْم السليم محفوف بالأشواك، كما أن التحليل أشدُّ خطورة، وليس بالأمر السهل الهيّن.كل مَن عايش الشعرَ العربي القديم يُدرِك أن دراسة نصوصه وتحليلها عَقَبة كؤود يسقط في طريقها الكثيرون، ذلك أن التحليل يتطلَّب منهجًا، واكتساب منهج ما أو تطبيقه يتطلَّب ثقافة واسعة وشاملة بالمنهج وأصوله وفلسفته، زيادة على ما يقتضيه النص المحلَّل من ذكاء وفِطْنة يُوازيان المعرفة بالمنهج[1].بعد هذه الإطلالة نجد أن الدراسة أو التحليل للنصوص الشعرية وتبنِّي مَنهج ما أخطر شيء؛ ولذا سنحاول أن نَلتزِم خطةً منهجية استثمرناها من خلال محاضرة الأساتذة الكرام، مُحلِّلاً بعض نماذج شعرية انطلاقًا من المنهج الأسلوبي.لموضوعية هذا العرض والتزام منهجيَّته، سنتناوله على نقاط كالتالي:النقطة الأولى: قيمة الكلمة في البيت الشعري:للكلمة منزلة مميَّزة، تكاد تكون مقصودة لذاتها في المقام الأول، ثم موصلة للمعاني والأفكار، ثم مَلمَح من ملامح الصورة الشعرية، ورغم هذه المكانة المميزة للكلمة، فإنها تصبح لا شيء حين تُعزَل عن السياق، فقيمتها مرهونة بوضعها من السياق.وهناك كلمات من السهل جدًّا أن تُلاحِظ القيمة العظيمة التي يضيفها السياق إليها؛ وذلك لأنها - ببساطة - كلمات غير شعرية، والسياق وحده يسمح لها بالذوبان في بوتقة البيت وتكوين السبيكة الشعرية[2].يقول المتنبي:فالشاهد كلمة الضيف، لماذا آثر المتنبي استخدامَ هذه الكلمة على كلمة الشيب، مع أن معنى الكلمتين واحد؟ رغم جواز جعل إحداها مكان الأخرى ولا يختلُّ الوزن.جوابًا على السؤال نقول: إن المتنبي تذمَّر حين استولى على رأسه شيب وهو في مَيْعة الصبا، وفضَّل استعمالَ كلمة "الضيف" لما تُثيره في النَّفْس من دلالات زائدة من ألوان نفسيَّة دقيقة، نُلامِس أن ظهورَ الشيب المفاجئ وغير المتوقَّع كالضيف الذي يُباغِت، وحضوره بدون وعْد أو سابق إعلام، سرعان ما يجعل المتنبي يرغب بلا وعي في التخلص منه وفي رحيله، كالضيف مهما لبث، وطال مُكثه سيرحل.إن استعمال كلمة "الضيف" مكان كلمة "الشيب" ضرب من ضروب حُسْن التعبير، وهو وسيلة مُقنِعة وبارعة لتلطيف الكلام، وتخفيف وقْعه، وتَعمِد اللغة إلى استعمال هذه الوسيلة مع كل شيء مُقدَّس أو ذي خطر، أو مثير للرعب والخوف، كما تُطبِّقه على الأشياء الشائنة، وغير المقبولة لدى النفس، فمن المعروف أننا نلجأ دائمًا إلى العبارات الرقيقة، والتلميحات اللطيفة، والتحويم حول المقصود عندما نضطرُّ إلى إلقاء الأخبار السيئة، وفي كلمة الضيف إيحاء دَلالي للتوقير والتبجيل، الشيب ينبغي الاحتفاء بتوقيره وتعظيمه وإكرامه بالكفِّ عن كلِّ ما يتنافى وجلال الشيب وهيبته ووقاره، كالضيف تُكرَم وفادته ويُحتفى به؛ لإدراك القيمة التعبيرية والأسلوبية للفظة الضيف نَستحضِر لفظة الشيب التي تَعجِز عن إثارة ولو معنى واحد من المعاني المذكورة للفظة الضيف، وتَنفرِد بتحريكها واستدعائها[3].وإذا كانت الكلمات ذات معنى وقيمة في البناء الشعري، فإن الحركات لا تَقِلُّ قيمتها عن قيمة الكلمة.كقول المتنبي:
ضيفٌ ألمَّ برأسي غير مُحتَشِم
والسيف أحسن فعلاً منه باللممِ
إن شعرية هذا البيت تَكمُن في بعض المكوِّنات الشعرية، فمنها تركيب بنيوية، حيث تُمثِّل أربع بنيات، وكل منها مُركَّب من خبر مُقدَّم ومبتدأ مؤخَّر.وهذه الشعرية لا تَقِف في المعنى المعجمي للكلمات فقط، بل تتعدَّاه إلى الأصوات المتمثِّلة في حركاتها في نَسَق مخصوص.حركة الكسرة الطويلة أعطت للبيت الشعري مَيْزة إبداعية التي تتوافق وحالة الشاعر ونفسيَّته؛ لأن الكسرة دليلة الكسر النفسي، وهذه الكسرة الطويلة أسعفت بمد الصوت إلى أقصى حدٍّ ممكن تَحمِل إحساسًا عميقًا بالحزن والألم، وتُعبِّر عن الامتداد بالأصعب.النقطة الثانية: التقديم والتأخير:الجملة العربية تخضع لترتيب يُنظِّم تتابُعَ أجزائها في الهيكل الأساسي للبناء اللُّغوي، ومن ثَمَّ تَستكمِل عناصر أخرى يتم بها التعبير وتنقُل الآراء والانفعالات، فهناك التركيب الاسمي للجملة، وفيه يتقدَّم المبتدأ ثم يليه الخبر، والتركيب الفعلي للجملة يبدأ بالفعل ثم الفاعل وبعده المفعول به، ثم تتوالى الأجزاء الأخرى التي تكون مُشترَكة في الجملة الاسمية والفعلية كالحال والتمييز وغيرها.1- تقديم الخبر على المبتدأ:يقول المعري:
قليل عائدي سَقِم فؤادي
كثير حاسدي صَعْب مرامي
فشعريَّة هذا البيت تُعزى أساسًا إلى ما فيه من تقديم وتأخير، إذ قدَّم الخبر "تَعَبٌ" على المبتدأ "الحياة"، لو جاءت هذه الجملة على التركيب الأصلي لفقد حيويته وطابَعه الجمالي وعاطفته البلاغية، ولانقلب إلى النثر والمعنى لا يزال سليمًا، وهناك فروق دَلاليَّة بين التركيبين؛ ففي الأول الحياة هي بؤرة الاهتمام ومركز العناية، وفي الثاني التعب والنَّصَب هو مركز الاهتمام، فليست الحياة إلا نَصَب وتَعب، ولا شيء غير ذلك، أفاد تقديم الخبر على المبتدأ إبرازه وتركيز الانتباه فيه، وتلخيص حقيقة الحياة وجوهرها في التعب، ويَنسجِم هذا التقديم فعلاً والأجواء الحزينة التي تُلقي بظلالها الشفيفة على مُجمَل القصيدة[4].2- تقديم المفعول به على الفاعل:قال المتنبي:
تَعَبٌ كلها الحياة فما أع
جب إلا مَن راغِبٍ في ازديادِ
إن تقديم المفعول به "ازدِيارَك" على فاعله "الرُّقَباء" أكسب المعنى جمالاً ورونقًا، وزاد التركيب قوة وتماسكًا صوتيًّا ومعنويًّا، فدمج بين الحمولات الدَّلالية للبِنْية الصرفيَّة (الازديار)، وما تُخبئ من دقة وترقُّب في زيارة المحبوبة في وقت الدُّجى، وبين البنية التركيبية من خلال التجاوز في الرتبة للمفعول به الذي قدَّمه المتنبي؛ ليلفت به نظرَ المتتبِّع نحو الاهتمام بموضوع الوصل، الذي يستحيل مع هذا الضياء الفاضح.النقطة الثالثة: بناء الجملة ودلالتها:إن البناء اللغوي في التراث العربي يتكوَّن من عنصرين، فإما من مبتدأ وخبره، فيسمَّى جملة إسمية، وإما من فِعْل وفاعله أو نائبه، فيُطلَق عليه جملة فعلية.تفيد الجملة الاسمية بوضعها الثبوت والدوام، والجملة الفعلية بوضعها تُفيد التجدد والحدوث؛ يقول المعري:
أَمِن ازدِيارَك في الدُّجى الرُّقَبَاء
إذ حيثُ أنت مِنَ الظلامِ ضِياءُ
يستهلُّ الشاعر قصيدتَه بمقدمة مرثيَّة خلالها عبر عن الحزن، بنوح باكٍ وعن الفرح بترنم الشادي بتقنية فنية رائعة؛ حيث كل الكلمات في هذا المقطع توحي بدَلالة خاصة.والجملة في هذا البيت جملة اسمية منفيَّة، استخدم أداة "غير" التي تَقترِن وتُلازِم الجملة الاسمية، وكان بإمكان الشاعر استعمال أداة نفي أخرى، فلا يختل الوزن، ويتحقَّق المعنى، ولكن هذا المعنى سيبقى ناقصًا لإفادة مقصدية يُحاولها الشاعر بلوغها؛ لأن المعاناة التي يُقاسيها المعري تتَّسِم بالثبوت لا تَنقطِع في أي لحظة، وتتَّصِف باللازمنية؛ مما يثير ويجدر الانتباه له أن النفي بـ"غير" أفادنا بهذا المعنى الدقيق أيضًا، رغم أن الجملة جملة اسمية، والغير سمته النحوية أنه مضاف، وما بعده مضاف إليه، والعلاقة بين المتضايفين علاقة تلازمية[5].أما نموذج الجملة الفعلية، فيقول ابن زيدون:
غير مُجْدٍ في ملَّتي واعتقادي
نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادي
لقد استخدم الشاعر الجملة الفعلية - فعل: طار، وفاعل: الكرى - في أثناء حديثه عن العِشْق ومكابدة آلام الاشتياق للمحبوبة الغائبة، والنوم هارب منه؛ حيث عبَّر فيه بدَلالة الطيران، وفِقدان الأمل في عودة النوم والراحة والطمأنينة إلى نفسه وقلبه، وفيه يدخل في باب العلاج الذاتي؛ حيث استغلَّ الفعل للتخفيف من هذا القلق والأرق بأن يقول الشعر في الحب والهُيام وتذكُّر المحبوبة[6].إتيان فِعْل طار يتَّفِق ونَفْس الشاعر العاشقة المُحِبَّة، وهذا الفعل يدل على حدوث هذه المعاناة وتَجدُّدها عند الشاعر، وإذا يَفقِد الشاعر النومَ ومتعةَ النفس، لو استعمل جملة اسمية في هذا الجو لفسد المعنى المقصود، ولكان مبالغة منه؛ لأن المرء في الأصل مهما غلبت عليه مشاكل ولازمته في وقت ما، وسيأتي وقت آخر يكون ذِهْن المرء بدون هذه الهموم.وبإمكان السائل أن يقول لو استعمل الجملة الاسمية لدلَّ على غَلَبة طابَع اللزوم لا الثبوت، ويُجاب عن هذا الاحتمال أن دَلالة الفعل "طار" لدالة على ذلك؛ لأن "طار" يُطلَق على شيء غير ثابت متَّصِف بحركية، وبالتالي ففاعله "الكَرَى" هو الذي يطير، ويجفو عن عيني الشاعر، ويُسبِّب الأرق بتذكر إياه المعشوقة، وأن المعنى هو الذي أفادته الجملة الفعلية، فالأرق والمعاناة هو الحال الغالب على الشاعر وليس بملازمه، ويغيب عنه أحيانًا.ختامًا:من خلال هذه النماذج نُدرِك أن المنهج الأسلوبي قادر على استخراج أسرار اللغة العربية، وعلى إبراز التلوينات التعبيرية الرائعة لهذه اللغة، ونُدرك - أيضًا - الثروة الأسلوبية للغة العربية وكم من أساليب فنية في نموذج واحد، وهذا يدلُّ على حيوية هذه اللغة وقدرتها على مواكبة دراسة نقدية معاصرة ومسايرتها.وبالله التوفيق.
أقول لما طار عني الكَرَى
قَولَ مُعَنًّى، قَلْبُه هَائمُ