تراثيات ..فنادق السماوة
بقلم/ زيد الشهيد
لم تكن السماوة سوى مدينة صغيرة لا تشكّل محفلاً سياحياً ، ولا ممرّاً لمصيفٍ يقصده الباحثون عن الراحة ؛ ولا موقعاً اقتصادياً مهماً يمكن أن يثير السلطات فتجعل منه مركزاً تجارياً يدر على خزينتها المال الوفير .
بل كانت مدينةً مرمية على حافة صحراء يمنَّ عليها الفرات بمائه كي يبقى أهلها في عيشٍ لا يرقى إلى الطموح ، بل رضا وقناعةٍ تُقِر أن العمر ليس إلا مجيءٌ للحياة وعيش لعقود ، ثم موتٌ واندثار . لذلك كلَّ مَن يجيء إليها بضعة زائرين يأتونها لقضاء عمل قصير لا يتعدى النهار الواحد فيسافر في أحد القطارين " السريعين اللذين يدخلان المدينة في وقت واحد هو منتصف الليل .
الأول باتجاه البصرة وكان يأتي من بغداد ؛ والثاني باتجاه بغداد هو القادم من البصرة . وإذا أجبر على المبيت فأن بعض الكرام من الناس يأوونه في بيوتهم ليلةً ثم يغادر ضيفاً عزيزاً مُحتفاً به . هذا إذا كان القادم حضرياً ينتمي لمدن البلاد . أما أفراد البدو القادمين من صحراء بادية السماوة فكان لهم مكان يحلون فيه مع جمالهم التي يأتون بها ركوباً ولنقل ما يتسوقون من سوق المدينة الوحيد . كان هذا في ثلاثينات القرن العشرين حيث يدركون موقعاً يطلق عليه " المناخة " ، هذا المكان الذي صار اسماً يشير لقدوم هؤلاء الناس بجمالهم . وحيث لا يوجد فندق آنذاك فقد اعتادوا الرقود ليلاً في أماكن أوجدها بعض من أهالي المدينة بلا كهرباء ولا خدمات لقاء أجور رمزية يتلقونها من هؤلاء البدو مع مكان تنوخ فيها جمالهم . هذه الاماكن التي تحتل بعض من جانبي السوق المفتوح والتي غدت الآن اسواقاً تحتلها محلات تبيع مختلف البضائع .
ولقد استمر هذا الحال حتى صحا الناس على اول فندقٍ يستقبل زائريه بأجور وتقدّم للنزلاء خدمة وإيواءٍ بافرشة واعتناء . وكان أول فندقٍ هو فندق الأهالي " . بناه وفتحه رؤوف الحاج عبيد أواسط العقد الخمسيني من القرن العشرين . وكان افتتاحه يُعد من المشاريع الجريئة التي يضع الإنسان نفسه اجتماعياً في فم المدفع ؛ إذ لم يكن من المقبول والمستحسن أن يكون ثمة فندق يأوي إليه الغرباء وأبواب بيوت أهالي السماوة مفتوحة على مصاريعها تستقبل القادم إلى المدينة كضيف مرحب به ومحتفى . وقد بدأ يستقبل الغرباء والجنود والشرطة القادمين من المدن البعيدة أو النازلين من معسكراتهم لقضاء ليلة أو أكثر ، وحتى البدو الذين يأتون للتسوق ... يقع فندق الصحراء في منتصف السوق المكشوف تقابله وتحاذيه " المجارش " وهي مخازن واسعة لاستيعاب الحبوب من حنطة وشعير . ثم تزامن معه بعد فترةٍ قصيرة فندق " العروبة " وكان موقعه في السوق الرئيسي المسقف وصاحبه مكي حمزة ذو الميول الشيوعية الذي يناهض رؤوف الحاج عبيد الذي كان عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الذي يرأسه كامل الجادرجي . وقد تخلَّى مكي حمزة عن الفندق بعد أن حكم عليه بالإعدام إبان الحكم الملكي متهماً بانتمائه للحزب الشيوعي العراقي
وفي نهاية الخمسينات افتتح محمد حرجان فندقاً له أطلق عليه اسم " الجمهورية " تيمناً بثورة تموز 1958 وكان موقعه قريباً من فندق الأهالي ولكن على الجانب الآخر .
ومع بداية الستينات افتتح فندق " بغداد " وهو بناء أرضي بسيط يقع في بداية شارع " مصيوي " مقابل مستشفى حماية الأطفال قريباً من محطة سكك الحديد . وجاء افتتاحه ليستقبل النزلاء الغرباء الذي يقلون القطار السريع حيث يصلون السماوة منتصف الليل مما يضطرهم إلى النزول فيه كأقرب مكان يريحون أنفسهم فيه من عناء السفر .
ثم بنى منصور حيدر التتنجي فندق " الحيدري" في نفس الشارع وكان فندقاً حُسبَ وقتها حديثاً مقارنةً بالفنادق الموجودة حيث احتلت وسطه حديقة رغم أنها صغيرة المساحة أنها كانت تترك متنفساً مريحاً للنزلاء . وكان اغلب نزلائه من الموظفين الغرباء الذين وجدوا أنفسهم في وظيفةٍ لا يحصلون عليها إلا في هكذا أماكن نائية أو قدموا إجباراً بعقوبةٍ وظيفية أو سياسية . وهؤلاء ياتون منفردين أي بغير أسرهم إمّا لأنهم مصممون على الانتقال إلى مدنهم بعد فترةٍ قصيرة أو أنهم لا يفضلون جلب ألأسر لمدينة تعتبر منغلقة ونائية جغرافياً ، أو أنهم لسبب ثالث عزّاب غير متزوجين أصلاً . وتلا فندق الحيدري فندق آخر اسمه " الوحيد " وموقعه في شارع " الهجع " ؛ أي في الشارع الذي يرتبط مع شارع مصيوي لكنه لا يبعد سوى أمتار عن السوق الرئيس المفتوح .
ومما يلاحظ على تلك الفنادق أنها كانت بسيطة بهياكلها وغرفها وتأثيثاتها فلم تكن ذات طابع تجاري . فالأسرة لم تكن إلا تخوتاً خشبية ، أفرشتها بسيطة وتفتقر الغرف والفناء إلى الشروط الصحية التي ينبغي للفنادق المعاصرة التقيّد بها .
أما أجورها فكانت بسيطة هي الأخرى إذ لا تتعدى الدرهم الواحد ( خمسين فلساً ) لليلة الواحدة . أما إذا كنت نزيلاً دائماً فالتخفيض مؤكداً سيكون من صالح الطرفين : صاحب الفندق والنزيل على حدٍّ سواء . فمالك الفندق يعتبر نفسه محظوظاً حين يحصل على نزيل ثابت في حين يرى النزيل أن المبلغ الذي يدفعه مناسب جداً لإقامة دائمة . وقد تنسحب هذه المبادلة النفعية إلى المطاعم التي تبدي استعدادها لجلب الطعام إلى النزلاء وهم في أماكن نزولهم . وكثيراً ما شاهدنا ونحن صغار عمّال المطاعم يحملون صواني الطعام قاطعين الأزقة بغية نقلها من المطاعم التي يعملون بها إلى الزبائن في محلات إقامتهم . وفي أوائل الستينات افتتح في الصوب الصغير " فندق الجامعة " ما لبث أن أغلِقَ بعد وقت قصير بسبب فشله في استقبال النزلاء . ومع بداية العقد الستيني افتتح فندق بغداد فسوق فرعي مواجه لنهر الفرات وكان يديره كريم محمد شلال ويعد من الفنادق النظيفة حيث انه ذو بناية حديثة وقربه من السوق والدوائر الذي يعمل اغلب نزلائه . وقد أغلق في منتصف السبعينات .
وفي العام 1965 افتتح شاكر العصري فندقاً سماه " فندق الخيام " لا تتجاوز غرفة الخمس غرف صغيرة كان سعر المنام فيها ( 100) فلس لليلة الواحدة ، وإذا كان ثمة نزيل الدائم فله أن يدفع دينارين فقط للشهر بأكمله . ولقد أغلق هذا الفندق في العام 1972 بعد أن افتتح إلى جانبه " فندق المحافظة " الذي عُدَّ في وقتها من الفنادق الحديثة لحداثة بنائه وكونه كان بطابقين ويضم حمامات ومرافق صحية أكثر مما هو معهود في الفنادق الأخرى إضافة إلى الخدمة المستمرة من قبل العاملين وتلبية حاجات النزلاء التي تترك الارتياح في نفوسهم . وفي خضم استحداث قضاء السماوة محافظةً مع ابتداءات العقد السبعيني وقدوم أعداد كبيرة من الموظفين المنقولين ، وكون السماوة غدت مركز المحافظة فقد افتتحت عدة فنادق راحت تستقبل النزلاء وتستوعبهم . فصرنا نرى إلى " فندق بابل " الذي كان ذا سمعة جيدة من حيث الغرف الصقيلة والفرش الراقية والستائر الراقية مع بهرجة الإدارة التي كانت بديكور ملفت للانتباه ذلك أن صاحبه " جبار بريج " كانت له عقلية تجارية وكان يعمل في دولة الكويت حيث تأثر هماك بالمظاهر المؤثرة للفندقة . فقد كانت الصور السياحية المزججة تنتشر على جدران الممرات وداخل الغرف ، والإدارة في أبهى حلة وإثارة والعاملون يرتدون الملابس الخاصة للفنادق . وهو الفندق الوحيد الذي افتتحه محافظ المثنى آنذاك حسن الشامي . وإلى جانب ذلك افتتح فندق جديد صار ينافس فندق بابل ؛ هو " فندق البلدية " في شارع الستين مجاور مصرف الرشيد حالياً ، إذ كان حكومياً ويحمل شارة سياحية .
ومع بداية الثمانينات وقدوم العمالة المصرية والعربية بأعداد كبيرة ووصول الكثير منهم إلى السماوة نظر أصحاب النظرة التجارية فرصة لافتتاح فنادق في بناياتهم الكبيرة التي تضم غرفاً كثيرة فكان فندق " الأخوين " الذي حوى " 30 " غرفة وموقعه في شارع مصيوي ، وفندق " السعادة " الذي يضم " 26 " غرفة وكان في السوق الرئيسي ويملكه عامر موسى . وبسبب قدوم العمالة بأعداد ضخمة ما شكّل ضغطاً على فنادق المدينة ما جعل حالة من انتعاش حركة إنشاء الفنادق فكان هناك " فندق سلام " و" فندق القدس " في شارع " باتا " .
ومع بدء حرب الكويت في يداية العقد التسعيني من القرن العشرين وخروج العمالة العربية وفرض الحصار والكساد الاقتصادي وقلّة حركة التنقل بين المدن جعل من الفنادق أبنية فارغة لا يأتيها النزلاء إلا لماماً . وصارت عبئاً على أصحابها فمنهم من راح يؤجرها لمن يرغب في إيجارها بمبالغ زهيدة لا تعني شيئاً ، ومنهم من رفع لافتة كونها فنادق وحول غرفها إلى مخازن للإيجار فماتت .
وفي بداية الألفية الثالثة استحدثت عدد من الفنادق التي تسترعي الانتباه ويمكن أن يُشار إليها كفنادق فخمة تحمل عدد من النجوم . فكان فندق الهدى لصاحبه يحيى الحجّاري حيث يستقبل النزلاء الذين يبحثون عن أماكن خدمية مريحة واغلبهم ممّن يقدمون موفدين من دوائر الدولة ويدفعون المبالغ العالية لقاء كسب راحتهم . وكان أيضاً " فندق الخير " وهو فندق سياحي يحوي شققاً ( سويت ) ويحمل مواصفات عالية التقييم
لكن الفنادق هذه جميعاً تفتقد إلى الصالة الكبيرة وتقتصر اداراتها على منضدة عالية ( جمبر ) وكراسٍ لا تتعدى اصابع اليد
كاردينيا