رسالة بوتين للغرب، "إبدأوا بتجميع الحَطَب"!
(أمين أبوراشد) | علّقت بعض الدول الأوروبية ضمن مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، مشاركتها في إجتماعات تحضير القِّمة التي من المقرر أن تُعقد في مدينة "سوتشي" الروسية خلال حزيران المقبل، تلتها خطوات أخرى متواضعة،
تتعلَّق بحظر سفر رجال أعمال مقرَّبين من الرئيس الروسي، ووقف منح تأشيرات للمواطنين الروس الى أميركا وبعض الدول الأوروبية على خلفية الأزمة الأوكرانية، وقابلها فلاديمير بوتين بأعصاب من صقيع موسكو، وحمل قلماً واقترب أمام الكاميرات من أنبوبِ غازٍ يمِدُّ أوروبا بالغاز الروسي عبر أوكرانيا، وكتب رسالةً مقتضبة للأوروبيين على الأنبوب: "إبدأوا بتجميع الحطب"! في إشارة الى الحد الأدنى من خطوات المواجهة الروسية مع الغرب، عند بدء أي تضييق إقتصادي أو أي استعراض قوّة للناتو، علماً بأن القارة العجوز تعتمد حالياً على الغاز الروسي بنسبة وسطية تقارب 50% من استهلاكها.
بداية الأزمة الأوكرانية إقتصادية لدرجة الإختناق، وانقلبت سياسية بامتياز، ما جعل الشمال الأوكراني يتطلّع الى الإتحاد الأوروبي منقذاً، من منطلق إنتماء تاريخي إتني لأوروبا، قابله حنين في الجنوب الى "روسيا الإتحاد السوفياتي"، مما أشعل حدَّة الصراعات التي فاقمتها التعدُّدية الإتنية على امتداد أوكرانيا وأجَّجَ نارها في ساحات كييف، وأُسقِط الرئيس الأوكراني المُعاند لفكرة الإنضمام الى الإتحاد الأوروبي، وقابل الجنوب الأوكراني وشبه جزيرة القرم ذات الغالبية السكانية الروسية، إجراءات كييف "الإنقلابية"، بتطهير القُرم من أي تواجد عسكري وإداري يدين بالولاء للشمال، وطالب القرم بالإنضمام الى روسيا، وحُدِّد السادس عشر من آذار الجاري موعداً للإستفتاء المعروفة نتائجه سلفاً لصالح الإنضمام، بالنظر الى التركيبة السكانية التي يُشكِّل الروس 60% منها.
وإذا كانت أوكرانيا هي المعبر الجيو- سياسي لروسيا نحو أوروبا وبالعكس، فإن القرم هو إطلالة روسيا على البحر الأسود ومنه الى المتوسط عبر ميناء "سيباستيبول"، والقرم أساساً شبه جزيرة روسية، أهداها خروتشوف عام 1954 لأوكرانيا يوم كانت ضمن جمهوريات الإتحاد السوفياتي، تعويضاً لسكان القرم من التتار(12%) عن المجازر التي ارتكبت بحقِّهم في عهد ستالين، ووُقعت معاهدات تسمح للإتحاد السوفياتي السابق بتواجد عسكري في القرم لضمان الإطلالة على البحر الأسود، وإذا كان التتار الآن وجدوا أنفسهم من منطلق الثأر يرفضون الإستفتاء على الإنضمام لروسيا فإن نسبتهم لن تُغيِّر في النتائج.
حربٌ باردة أميركية – روسية قد اندلعت، وستبقى باردة وضمن إطار التهويل السياسي والعقوبات الإقتصادية المتبادلة، مع أرجحية حتميَّة لصالح روسيا التي تعتبر أن فتح ملف الأزمة الأوكرانية في خاصرتها، هو ردٌّ على هزيمة أميركا والغرب في سوريا وفي الملف النووي الإيراني، كما أنه نتيجة فشل هذا التحالف المُعادي في تحريك المتطرِّفين الإسلاميين في القوقاز لإدخال النار الى قلب روسيا عبر التهديدات التي تلقتها القيادة الروسية بعمليات إرهابية نوعية خلال الألعاب الشتوية في مدينة "سوتشي" نفسها.
الوضع على أرض الواقع هو كالتالي:
جَمَع بوتين مجلس الدوما وأخذ موافقته الفورية على الدخول عسكرياً الى القرم لحماية المصالح الروسية، لا بل أن "الدوما" طَالَبَ بمنح الجنسية الروسية لكافة شعوب الدول التي كانت تحت راية الإتحاد السوفياتي السابق، وذهب الشعب الروسي في تحدِّي الغرب الى حدِّ تسويق الحُلم بإحياء فكرة "الإتحاد الأوراسي"، الذي يجمع أوروبا وآسيا من حدود أوروبا الغربية على الأطلسي وصولاً حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادىء، وهو طموح الروس والشعوب الرافضة للأحادية الأميركية بهَدَف تطويع أميركا عبر "القارة الأوراسية" التي تمتلك من الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة ما يمكِّنها من حُكم العالم وعزل أميركا نهائياً عن دائرة القرار، لكن الحلم الأوراسي مجرَّد ورقة سياسية ومستحيل تحقيقه في المدى المنظور ولو أنه يعيش في قلب الثقافة الروسية، وفي أجندة بوتين البعيدة المدى.
في المقابل، تردُّد أميركي من التورُّط في حرب، وانقسامات في الكونغرس، وخلافات مع البنتاغون الذي قامت قيامته، نتيجة الخوف على سلامة خطوط تموين القوات الأميركية المتواجدة في أفغانستان عبر الأراضي الروسية التي تُشكِّل 40% من هذه الخطوط، إضافة الى عبور الطائرات الأميركية بدون طيار الأجواء الروسية لمراقبة باكستان، ويُضاف الى هذه المحاذير وضع إقتصادي أميركي مُنهار، وحاجات إقتصادية أوروبية للشريك الروسي سواء لجهة الغاز والنفط أم لجهة الإستثمارات في روسيا، حيث أن ألمانيا على سبيل المثال تعتمد على 70% من استهلاك الغاز من روسيا ولديها حجم استثمارات يبلغ 20 مليار دولار في الداخل الروسي، وهبطت الأسهم ذات العلاقة بشكل دراماتيكي في ألمانيا جراء الأزمة الأوكرانية.
الحلُّ المثالي في أوكرانيا لن يكون إلاّ سياسياً، يفضي الى انتخاب رئيسٍ غير إستفزازي لروسيا، وستبقى أوكرانيا معبراً جغرافياً يستخدمه الغرب والشرق لإستمرار التواصل ولو استمرت الحرب الباردة، وتعويم الإقتصاد الأوكراني سيتحمَّل مسؤوليته الفريقان الدوليَّان مع ضمان إستثمارات كلٍ منهما، والأمور رغم قرع الطبول الفارغة لن تصل الى الحرب، وأوكرانيا ولو بقيت منطقة استعراض أميركي غربي سياسي واقتصادي دون الإنضمام للإتحاد الأوروبي، في مواجهة باردة مع الروس بعد استفتاء القرم، يبقى التعويل على الخوف الحذِر لبريطانيا وفرنسا وألمانيا من التورط الأوروبي بحربٍ مع روسيا، والتجربة الأميركية المريرة في الحروب على أراضي الآخرين، بدءاً من فيتنام ومروراً بالعراق وأفغانستان وانتهاء بوحول الشام، أما الجمهوريات الصغيرة التي تحرِّض الناتو على إعلان الحرب مثل بولندا ولاتفيا وليتوانيا، فهي ليست أصلاً أكثر من حجارة شطرنج على رُقعة اللاعبين الكبار...
التيار