الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام
الجزء الأول
كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين. وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها.
والشمس خلقها الله حاملة طابعه الإلهي، في عملها للمادة تحول به وتغير، والنبي يرسله الله حاملا مثل ذلك الطابع في عمله تترقى فيه وتسمو.
ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون نور من الكلام.
والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتين متشابهتين: أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء.
فليس النبي إنسانا من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة، ولكنه إنسان نجمي يقرأ بمثل "التلسكوب" في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان، ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياة تنشئ علم التاريخ, ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء -صلوات الله عليهم- تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة، فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية، يقومها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجيء الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغه الفن البياني، لتكون أقوى أثرًا، وأيسر فهما، وأبدع تمثيلًا، وليس عليها خلاف من الحس. وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانًا واحدًا فن الناس جمعيًا، كما تكون البلاغة فن لغة بأكملها، وهو الشخص المفسر إذا تعسفت الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها، ولا كيف يتهدون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يخلق رجل واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي, أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مروية.
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون في نفس النبي أبلغ نفوس قومه، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي ينصب لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية.
مصطفى صادق الرافعي