ظِلالٌ لا تكادُ تمتد...
ترك كلماتها منغرسة بين حدقتيه وتلفّع بحمرة وشّحت عيناه كما خداه، ورمى بطرفه هادلاً وكأن الإغفاءة داهمته . حاول أن يبتلع ما بقي من ريقه عند عرق اللسان . همس في دخيلته: ما هكذا الظّنُّ.. ولا هذا كان القصد.
أن تُرمى بما ليس فيك فتلك عظيمةٌ لا تمحوها حروفٌ مهما توهّجت في التعبير وتضمّخت بالعذوبة.
أنت في مرمى النظرة الأولى: إمّا أن تكون كما تعهد نفسك بكل ما غرستهُ فيها من محبة واحترام للآخرين وما بنيت عليه ضميرها، وإمّا عارياً من كل هذا. فقط لأنك نسيت التحرّص ولم تملك الزّمام بانتباه الحريص، فأنفلت منك قولٌ يُنسخُ منه أقوال.
يستعيد في سرّه حضورها في قهوته الصباحية وكيف انبجست كتلك اللحظة التي ينقشع فيها الغيم. كما الشمس، أطلّت بوهجها ترسل خيوطها حزمات من دفىء لينقشع كل القرُّ الذي كان يطرد النعاس من الوسادة.
يعيد قراءة كلماتها: "وعَدْتني ألاّ تغيب.. وغبت. وعَدْتني ألاّ تنسى.. ونسيت".
لو تعلم كم يكبِرها في نفسه، كم يحترمها، كم يجلّ إقدامها وسعيها وهي تناضل في سبيل تحقيق الذات، وقهر الممنوع، والانتصار على المستحيل.. كم رغب أن يكون قربها حين أبلغته بنيلها درجة الدكتوراه ليرفعها بيديه نحو الشمس ويقول "ليس أجمل من تحقيق الذات".. أو بلّل وجنتيها بما ذرفته عيناه من فرح سال على خديه.
وها هي ترميه بالغدر وبالتعالي.. ترميه بأنكر ما يُنكِره في الآخرين، وإذا به فريسة ما يُنكر، وضمير كلماتٍ مقهورة ترميه بالكذب..
أحسّ أنها ترمقه بكلماتها وترجمه بحدقات حروفها كأنها تريد أن تلطم وجهه بما أوتيت من قهر: "أتراني ومضة ألمعها البرق في عينيك، فأغمضتها وكأن الضوء لا يولد إلاّ ليرحل"؟
تراني بماذا وعدت.؟
غبتُ.. صحيح. لكنني لم أنسَ..
يتذكر: "إن الفراق أصعب من عدم اللقاء".!؟ قالت ذات مرة.
عاد من ذهوله . ملأ رئتيه بِنَفَسٍ لم يلبث أن زفره بأنّةٍ طويلة . وكتب لها.
***
لسنا إلاّ ظلالاً تمتد طولاً كلّما أمتدت الشمس بخطوها، ولم نكن إلاّ أثراً في صدر الغيب، حيث البرزخ وعالم الذر، فصرنا حواساً تكتشف ما يحيط بها وتتحسس ما تلمّ به. حواسٌ ترى الجميل كما ترى القبيح. فها نحن النقيضان، وما الحياة سوى وجاء نتجلبب به ليَقينا عمراً لم نعرف أننا فيه سنكتوي بتجارب الحياة التي تجعلنا أسرى ما تعطينا..
نحن أمثلةٌ حين يدرس زمن وجودنا ويصير ماضٍ يستعاد منه ما أُثِر. وأتباعٌ مُستلهِمين مِمّن مضوا وصاروا أثراً.
هم كانوا.. ونحن سنكون.
نحن مجرد أشياء تُفِلَتْ مما يُستَقْذَر (كما قيل) ، فَعَلامَا نطيل قاماتنا ونفرد هاماتنا كمثل تلك الظِّلال التي لا تكاد تمتد حتى تنطفىء وتختفي.
إن الظِّلال مهما تطاولت فإنها إلى زوال.
***أودع همسة في قلب نجمة تعوّد أن تحمل رسائله إليها..
صدقيني،
ما غبتُ سوى رفقاً بما حمله الظن عني: بأني..
ما غبتُ إلاّ حذراً ممّا قد يُصوَّر: أني..
ما غبتُ إلاّ لصدق: أقسمت بألاّ ينطق لساني بغيره.. ولأن الفراق سيكون آجلا، فرغبته عاجلاً..
لم أنسَ...
فقهوتي ما زال طيفك يراقص عبقها، ووجهك ما زال يسبح في موجها.. وتلك النجوم التي كانت تحمل رسائلي، ما زالت تتسارق همسي..
علي أ دهيني