نظرات حول الفطرة وفي فقه الشيطان
مقدمة:
سبحان الله الواحد الأحد. الذي لم يسبقه وقت. ولم يتقدمه زمان. ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان. ولم يوصف باين ولا بما ولا بمكان. الذي بطن من خفيات الأمور. وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير. الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا نقصان. بل وصفته بأفعاله ودلت عليه بآياته. فسبحان من لا يحد ولا يوصف ولا يشبهه شئ. يصور ما يشاء وليس بمصور. جل ثناؤه وتقدست أسمائه وتعالى أن يكون له شبيه. من شبهه بخلقه فهو مشرك. ومن وصفه بالمكان فهو كافر ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كاذب (1).
قبل أن يخلق سبحانه آدم عليه السلام قال لملائكته: (إني جاعل في الأرض خليفة) (2) فهو سبحانه خلق آدم ليكون في الأرض لا في السماء.
وعندما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...) (3) لم
____________
(1) من أقوال الإمام علي ع - توضيح المراد: 498 - 500.
(2) سورة البقرة، الآية: 30.
(3) سورة البقرة، الآية: 30.
ينف سبحانه عن خليفة الأرض الفساد وسفك الدماء. وقال سبحانه: (إني أعلم ما لا تعلمون) (4). فالإنسان قبل أن يخلق قدر الله أن تكون حركته على الأرض. ولأن هذه الحركة لحكمة ومن وراء هذه الحكمة هدف. أقام الله الحجة على هذه الحركة. فإذا اقترف الإنسان المعاصي وسفك الدماء: كانت الحجة شاهد عليه. ولا يوصف بالعدل من نسب إلى الله ذنوب عباده.
1 - حجة الفطرة:
وإذا كانت حركة الإنسان قدر لها أن تكون على الأرض. فإن هذه الحركة لا ينبغي لها أن تخرج عن دائرة العبادة لله إذا أراد صاحبها النجاة. أما إذا أراد أن يدلي بدلوه في مربعات الفساد وسفك الدماء. فإنه بحركته هذه يدور في عكس اتجاه النجاة وعندئذ لا يلومن إلا نفسه. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) (5) قال المفسرون.
المراد بخلقهم للعبادة، خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار وعقل واستطاعة، والمعنى: أي ما خلقتهم إلا لأجل العبادة. ولم أرد من جميعهم إلا إياها. والغرض من خلقهم تعريضهم للثواب. وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات. ولما كان الإنسان قد خلق من أجل العبادة وعلى طريق هذه العبادة توجد دوائر للإفساد وسفك الدماء هدفها عرقلة هذه العبادة. فإنه تعالى وضع أصول هذه العبادة في حصن الفطرة الحصين. ليعبر الإنسان بفطرته السليمة تلك العقبات ويصل بعبادته إلى حيث ينال الثواب. فالفطرة شعاع يهدي صاحبه إلى طريق النجاة. والفطرة حجة بذاتها على الإنسان تنطق عليه بالحق يوم يقف أمام الله تعالى يوم القيامة ويقول له: (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
ومخزون الفطرة الحجة بذاته جاء ذكره في أكثر من موضع من كتاب الله. منه قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني أدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " (6) قال صاحب الميزان. أي أذكر للناس. موطنا قبل الدنيا أخذ فيه
____________
(4) سورة البقرة، الآية: 30.
(5) سورة الذاريات، الآيتان: 56 - 57.
(6) سورة الأعراف، الآيتان: 172 - 173.
ربك (من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) فما من أحد منهم إلا استقل من غيره وتميز منه. فاجتمعوا هناك جميعا. وهم فرادى. فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم (وأشهدهم على أنفسهم) فلم يحتجبوا عنه. وعاينوا أنه ربهم كما أن كل شئ بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه. (ألست بربكم) وهو خطاب حقيقي لهم. لا بيان حال. وتكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون. أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف وإعطاء الموثق. وقوله: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الخطاب للمخاطبين بقوله: (ألست بربكم) القائلين (بلى شهدنا) فهم هناك يعاينون الإشهاد والتكليم من الله. والتكلم بالاعتراف من أنفسهم. وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال. ثم إذا كان يوم البعث وانطوى بساط الدنيا. وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم. وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم (7).
والمراد أنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم. وأشهدناهم على أنفسهم.
فاعترفوا بربوبيتنا. فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة. ولو لم نفعل هذا. ولم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه. فإن كنا أهملنا الإشهاد من رأس. فلم يشهد أحد أن الله ربه. ولم يعلم ربه. لأقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا. ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة.
وإن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس. وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم. ثم أشرك الجميع.
كان شرك الآباء شركا على علم بأن الله هو الرب لا رب غيره. فكانت معصية منهم. وأما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالا ولا تفصيلا. ومتابعة عملية محضة لآبائهم. فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر. وقد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك. ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إياهم. فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة. لأن الذين أشركوا وعصوا بذلك وأبطلوا الحق هم الآباء.
فهم المستحقين للمؤاخذة. والفعل فعلهم. وأما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى
____________
(7) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي ط. مؤسسة الأعلمي بيروت: ص 322 / 8.
يأمروا به فيعصوا بمخالفته. فهم لم يعصوا شيئا ولم يبطلوا حقا. وحينئذ لم تتم حجة على الذرية. فلم تتم الحجة على جميع بني آدم. وهذا معنى قوله تعالى:
(أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) (8).
ولكي لا يكون للسلف وللخلف حجة على الله يوم القيامة. أخذ سبحانه الميثاق من بني آدم جميعا. وهذا الميثاق هو مخزون الفطرة. وحجة بذاته على الإنسان في كل حركة له على الأرض. وميثاق الفطرة هو العمود الفقري للعبادة التي خلق الله الإنسان لها. وهو الكشاف الذي يهدي إلى الطريق المستقيم ويجنب صاحبه الإنزلاق في منجيات الإفساد وسفك الدماء التي لم ينف الله سبحانه وجودها عندما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وإذا كانت الفطرة كشاف يهدي إلى الصراط المستقيم فإن حدود هذا الصراط وضوابطه يحددها أنبياء الله عليهم السلام. وأنبياء الله على امتداد التاريخ الإنساني بعثوا بدين الفطرة. أي بالعبادة الحق التي تنسجم مع ميثاق الفطرة وتتكاتف معه على صراط مستقيم. فالأنبياء جاؤوا إلى نوع إنساني واحد ذات مقصد واحد. وهذا النوع له رب واحد. وهو الذي فطر السماوات والأرض.
والربربية والألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية. حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره.
والإنسان حقيقة نوعية واحدة. والنظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض أجزائه ببعض. ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد. لهذا فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر. أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون. فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا. هو رب بحقيقة الربوبية. وهو الله عز اسمه (9) بهذا جاء رسل الله وعلى هذا قامت دعوتهم عليهم السلام.
2 - بذور الإنحرافات الكبرى:
لم تظهر بذور الإفساد وسفك الدماء الذي ذكرته الملائكة عندما خاطبهم
____________
(8) المصدر السابق: 309 / 8.
(9) الميزان: 322 / 14.
الله بأنه جاعل في الأرض خليفة إلا عندما أمر سبحانه الملائكة بالسجود لآدم.
ففي هذا الوقت خط إبليس خط الانحراف الذي تنمو عليه بذور الافساد التي وضعها. يقول تعالى: (إذ قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (10).
لقد ذكرت الآية أن مبدأ خلق الإنسان الطين. وفي سورة الروم التراب.
وفي سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون. وفي سورة الرحمن صلصال كالفخار. ولا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الأصلية التي منها خلق وقد أشير في كل موضع إلى واحدة منها. وأمر الله تعالى الملائكة. إذا سوى الإنسان بتركيب أعضائه بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان تام. ونفخ الروح فيه أن يقعوا له ساجدين. وسجد الملائكة لأمر الله. ولم يذكر أحد منهم. أي علاقة بين طين ونور. فعندما أمروا بالسجود سجدوا. ولم يشذ في هذا المشهد المهيب سوى إبليس (قال أنا خير منه) لقد علل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكونه خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين. ويظهر للمتدبر الفطن أن رفض إبليس للسجود. هو في نفس الوقت رفض للخضوع للإنسان والعمل في سبيل سعادته. وإعانته على كماله المطلوب. على خلاف ما ظهر من الملائكة. فهو بإيبائه عن السجدة خرج من جموع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: (ما لك ألا تكون مع الساجدين) وأظهر الخصومة لنوع الإنسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا
* - بذور الإستعلاء والتحقير:
وإبليس بعد أن لعنه الله وجعله من المطرودين من رحمته. وظف هذا الحقد وهذه الخصومة فيما بعد وذلك أنه وسوس لصنف من الناس وألقى في نفوسهم مقولة أنهم أرقى من البشر وتجري من عروقهم دماء الآلهة. ووفقا لهذا
____________
(10) سورة ص، الآيات: 7 - 76.
الاعتقاد ادعى هذا الصنف من البشر الألوهية وفي عهودهم اندرج الإنسان إلى مستوى أقل من مستوى البهيمة. فإبليس بهذه المقولة ذل الإنسان على أيدي الإنسان. من منطلق حقده وخصومته لآدم وأبنائه. ولم يقذف الشيطان بفقه (أنا خير منه) على الجبابرة الذين ادعوا الألوهية على امتداد التاريخ فقط. وإنما قذف بفقه (أنا خير منه) على الخاص والعام في الساحة الإنسانية لوقف تقدم دين الفطرة. فما من رسول أو نبي بعثه الله منذ ذرأ الله ذرية آدم إلا رفعت في وجهه لافتة تحقير الإنسان التي انبثقت من فقه (أنا خير منه) الذي يحمل بين طياته الخصومة لبني الإنسان. لقد واجه الخاص والعام رسل الله عليهم السلام بقول واحد على امتداد الرسالات فقالوا: (ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ) (11)، وقالوا: (إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدون عما كان يعبد آباؤنا) (12) وقالوا: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) (13) لقد قام إبليس بتوظيف خصومته للإنسان. بأن بث ثقافة من شأنها أن تمنع السجود لله. وإذا كان هو أصل هذه الثقافة يوم أن رفض السجود. فإن هذه الثقافة حملها في الدنيا الإنسان ضد الإنسان بعد أن دق الشيطان وتدها في الكيان الإنساني.
وهذا الوتد كان له أثرا بالغا في الصد عن سبيل الله. يقول تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (14) وتحت مظلة تحقير الإنسان واجه رسول الله أشد الخصومات من الإنسان الذي استحوذ عليه الشيطان. لقد وقف تلاميذ الشيطان أمام الهدى الذي يطالبهم بالسجود لله.
وأثاروا قضية الشيطان القديمة ولكن في ثوب يستقيم مع عصورهم. فرفضوا النبي لأنه بشر خلقه الله من طين. فإذا كان لا بد من نبي فينبغي أن يكون ملكا رسولا.
ملكا من نار أو من نور. فهذا وحده الذي ينبغي أن يسمع لقوله. وتحت مظلة التحقير هذه ارتكبت أفظع الجرائم. وارتدت الأنانية أكثر من ثوب. وارتفع الأغيلمة السفهاء فوق الحلماء الأتقياء، وتحت مظلة السفهاء تم تصنيف البشر إلى خدم وأراذل وأشراف، وعلى امتداد التاريخ الإنساني، ضرب الكون سفهاء
____________
(11) سورة يس، الآية: 24.
(12) سورة إبراهيم، الآية: 10.
(13) سورة المؤمنون، الآية: 24.
(14) سورة الإسراء، الآية 140.
قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم فرعون وغيرهم. وهلك جميع هؤلاء ولكن فقه التحقير لم يهلك معهم لأنه باقي ما بقي الشيطان.
فالشيطان يطرحه على قوم وعند ذهاب السلف يلقيه الشيطان على الخلف وهكذا حتى تتسع الحلقات ليكون التحقير مألوفا على امتداد القافلة البشرية. تلك هي خطة الشيطان في فقه التحقير الذي يرفض الهدى ليفتح أبواب النار (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) (15).
* بذور المتاجرة بالدين:
بعد أن لعن الله أول فاتح فتح باب معصية الله. وعصاه في أمره. طلب إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون. فلما أجيب إلى ما سأل. أظهر ما هو كامن في ذاته. وما أبداه كان في حقيقة الأمر خطته الكاملة تجاه آدم وذريته. والخطة الشيطانية لم تترك منفذا إلا وراقبته. وإذا كان إبليس قد استثمر قوله: (أنا خير منه) في وضع فقه التحقير الذي أنتج نوعا من البشر يعمل ضد البشر. فإنه في مكان آخر عمل من أجل عرقلة طريق العبادة التي من أجلها خلق الله الجن والإنس. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (16). قال المفسرون: إن الغرض العبادة. بمعنى كونهم عابدين لله. لا كونه معبودا. فقد قال. (ليعبدون) ولم يقل: لأعبد أو لأكون معبودا لهم... فالله هو المعبود الحق. وهو سبحانه قد بين للجن والإنس كيف يعبدوه. فالعبادة هي أن تعبد الله كما يريد الله. وإبليس أدلى بدلوه في اتجاهين.. الاتجاه الأول أنه وسوس للإنسان بعيدا عن المعنى المقصود (ليعبدون) ونصب خيمته في مربع، لأكون معبودا لهم. ووفقا لتصورات هذا المربع تم عبادة الأصنام والطاغوت على امتداد المسيرة البشرية. والإتجاه الثاني. وسوس للإنسان ليعرقل المسيرة نحو المعنى المقصود لقوله تعالى: (ليعبدون) فالله تعالى بين لعباده كيفية عبادته على لسان رسله عليهم السلام. ولما كانت دعوة الرسل على صراط مستقيم.
فإن إبليس نصب له خيمة على هذا الصراط مهمتها الصد عن سبيل الله وعرقلة
____________
(15) سورة الكهف، الآية: 50.
(16) سورة الذاريات، الآية: 56.
الطريق أمام العبادة الحقة. وتلاميذ إبليس على هذا الصراط هم المنافقون على امتداد التاريخ الإنساني. فالمنافق يسير على الصراط المستقيم بفقه الشعار وليس بفقه الشعور. وفقه الشعار لا يغني عنه من الله شيئا ولا يحق له أي فوز في موطئ قدم فوق الصراط المستقيم عند العرض على الله يوم القيامة. وعرقلة الطريق على الصراط المستقيم وفقا للخطة الشيطانية جاء في قول الله تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (17) قال المفسرون: أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم. لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك. فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه. وقوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم...) الآية.
بيان لما يصنعه بهم. وقد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم. وهو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الأربعة... والمراد بما بين أيديهم: ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم. مما يتعلق به الآمال والأماني من الأمور التي تهواه النفوس وتستلذه الطباع. ومما يكرهه الإنسان ويخاف نزوله به. كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله. أو ذم الناس ولومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير والثواب.
والمراد بخلفهم: ناحية الأولاد والأعقاب. فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد. أمال وأماني ومخاوف ومكاره. فإنه يخيل إليه. أنه يبقى ببقائهم.
فيجمع المال من حلاله وحرامه لأجلهم. ويعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك نفسه في سبيل حياتهم والمراد باليمين: وهو الجانب القوي الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم وهو الدين. وإتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية، والتكلف بما لم يأمرهم به الله. وهو الذي يسميه الله تعالى بإتباع خطوات الشيطان. والمراد بالشمال: خلاف اليمين. وإتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتباع الأهواء (18).
____________
(17) سورة الأعراف، الآيتان: 16 - 17.
(18) الميزان: 31 / 8.
فكل جهة من هذه الجهات لها في خيام النفاق أساتذة وعباقرة. مهمتهم تمييع القضايا وترقيع الحقائق يرقع الباطل. أو تزيين الباطل بلافتات الحق.
ليصلوا بالجميع إلى محطة لا يكون فيها الدين إلا اسما ولا يكون كتابه إلا رسما.
ووفقا لهذا لا يتحقق المقصود من قوله تعالى: (ليعبدون) وفقه الشعار الذي يعمل به أولياء الشيطان. أول من عمل به الشيطان نفسه. ثم ألقاه على عقولهم الصدئة في خيمة النفاق. ليعملوا به ضد البشرية ولكن بأسلوب آخر. واستعمال كالشيطان لفقه الشعار. جاء في قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما. وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (19) قال المفسرون: المقاسمة. المبالغة في القسم أي حلف لهما وأغلظ في حلفه أنه لهما لمن الناصحين. وروي عن أبي عبد الله قال لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرائيل. فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده. ونفخ فيك من روحه.
وأسجد لك ملائكته. وزوجك حواء أمته. وأسكنك الجنة وأباحها لك. ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة. فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرائيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح. فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كذبا (20) وقال في المجمع: أن الله تعالى خلق آدم حجة في أرضه.
ولم يخلقه للجنة. وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض. وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل. فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (21).
والشيطان استعمل فقه الرمز في البداية. ولكن الله عصم آدم في النهاية.
ثم قام الشيطان بتوسيع هذا الفقه داخل خيمة الانحراف ليتزود منه كل من لم يدخل الإيمان قلبه. لتزل أقدامهم إلى مهابط المغضوب عليهم أو الضالين.
ومن الذين عملوا بفقه الشعار على الصراط المستقيم ولم تغني عنهم أعمالهم
____________
(19) سورة الأعراف، الآيتان: 20 - 21.
(20) الميزان: 61 / 8.
(21) سورة آل عمران، الآية: 33.
شيئا. زوجتا أنبياء الله نوح ولوط عليهما السلام. لقد تزودت كل منهما بزاد من خيمة النفاق. فكان الزاد عليهما وبال وحسرة. ومن نفس الخيمة تزود تجار الأديان في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه. ولحق بهم إخوانهم في عصر البعثة الخاتمة. الذين فضحهم القرآن في أكثر من موضع. وإذا كان تلاميذ الشيطان قد وضعوا العراقيل أمام العبادة الحقة. إلا أن هذه العبادة ظلت راسخة في نفوس المؤمنين بها. وفي كل عصر تنهار الأصنام وتسقط الطواغيت. في الوقت الذي تسير فيه طلائع النهار رافعة لأعلام الفطرة التي فيها خلاص الإنسان.
* بذور المتاجرة بالشهوات
بعد أن دق الشيطان وتده في نفوس الجبابرة وأوهمهم بأن في عروقهم تجري دماء الآلهة. انطلقوا ليملأوا الأرض ظلما وقاست البشرية من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة. وما من عصر من العصور إلا وعليه بصمة من بصمات هؤلاء رغم رحيلهم. وذلك لأن إبليس يوظف الإنحراف في كل عصر بعد أن يضع عليه ملابس جديدة. وما حدث مع الجبابرة وفقا لأطروحة (أنا خير منه) يحدث مع جبابرة اللسان في عالم النفاق. فشذوذ النفاق لا يموت. ويوظف وفقا للتطور البشري. والانحراف وبشذوذ لا يموتان لأن الشيطان جعل لهما ركوبة تستقيم مع كل عصر. وهذه الركوبة صالحة للخاص والعام. للأمير وللخفير. للشريف وللحقير. والركوبة التي اعتمدها الشيطان تخضع لفقه التزيين والإغواء. فهذا الفقه وحده يحافظ على الشذوذ وينقله من عصر إلى عصر تحت حماية فقه الاحتناك.
وفقه التزيين والإغواء جاء في قوله: (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) (22) وفقه الاحتناك جاء في قوله: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " (23) والفقه الأول يسير في حراسة الفقه الثاني. وفي تزيين الشيطان وإغوائه الناس قال المفسرون: قوله: (لأزينن لهم في الأرض) أي لأزينن لهم الباطل. أو
____________
(22) سورة الحجر، الآية: 39.
(23) سورة الإسراء، الآية: 62.
لأزينن لهم المعاصي. والمراد بالتزين لهم في الأرض. غرورهم في هذه الحياة الدنيا وهو السبب القريب للإغواء (24) فالركوبة مزخرفة وتعبير من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وهي تحمل زخارف كل عصر. وفي كل عصر يجري الذين اعتقدوا بأن في عروقهم تجري دماء الآلهة وغيرهم وراء الشهوات التي تستقيم مع كل منهم. وكل فرد فيهم يتحرك نحو شهوته بمقدار الغرس الذي غرسه الشيطان بداخله (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلنهم ولأمنينهم لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) (25) قال المفسرون:
لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله باقتراف المعاصي ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم.
ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله. ولآمرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحاق. ولير من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله، الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف (26) فهذه الأشياء غرس الشيطان. وكل من اتخذ الشيطان له وليا ينطلق بغرسه ليصيب به ما يشتهيه في عالم الزينة والإغواء.
وتسير قافلة الزخرف والشهوات محملة بانحرافاتها وشهواتها بضجيج أو بلا ضجيج في مجتمعات هيمن عليها فقه الاحتناك. والاحتناك: الاقتطاع من الأصل. يقال: احتنك فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله. واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله. وحنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. والمعنى الأخير هو الأصل في الباب. والاحتناك: الإلجام. وقال المفسرون: قوله (لاحتنكن ذريته إلا قليلا) أي لألجمن ذريته إلا قليلا.
فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها. يطيعونني فيما آمرهم.
ويتوجهون إلى حيث أشير لهم من غير أي عصيان وجماح.. إنه فقه تلجيم العقول وتكميم الأفواه وتعصيب العيون فقه لا يخدم إلا الغوغاء وتجار الشهوات لنشر الانحراف والشذوذ تحت لافتة براقة تنادي بالديمقراطية وحرية الإنسان فيما
____________
(24) الميزان 164 / 12.
(25) سورة النساء، الآيتان: 118 - 119.
(26) الميزان: 84 / 85.
يختار من مزابل الشيطان. إنه فقه يحمي الهجوم بالانحراف لتدمير الجنس البشري بأيدي الجنس البشري.
3 - الفقه الشيطاني في مهب الريح:
لقد استثنى الشيطان عباد الله المخلصين من عموم الاغراء والمخلصون - بفتح اللام - هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعدما أخلصوا لله، فليس لغيره سبحانه فيهم شركة. ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى. والمتدبر فيما عزم الشيطان عليه لتدمير البشر. يجد أن أسلحته وإن كانت تبدو فتاكة إلا أنها أسلحة محاصرة ولا تصيب إلا من دخل في مرماها أو حام حولها. وإذا كان الله قد أعطى إبليس سلاح. فإنه تعالى أعطى للمؤمن السلاح الأقوى. وعلى سبيل المثال. فإن الله تعالى أيد إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأيد الإنسان عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا. وأيد إبليس بالتمكين بتزيين الباطل. وأيد الإنسان بأن هداه إلى الحق. وزين الإيمان في قلبه وفطره على التوحيد. وعرفه الفجور والتقوى. وجعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي. وبعث إليه الرسل والأنبياء بهداية التشريع الذي يحمي الله تعالى به عبده الصالح المجتنب عما يسخطه ويكرهه عن مضار الدنيا ويجنبه عن مضلات الفتن. ويلطف به ألطافا ظاهرة أو خفية حتى يخرج من الدنيا سالما دينه راضيا عنه ربه.
وخطوات الشيطان كلها تصب في آخر الزمان في سلة المسيح الدجال بمعنى أن كل انحراف منذ ذرأ الله ذرية آدم وإن بدأ في أول الطريق ضئيلا إلا أن الشيطان يتعهده على امتداد الطريق بإلقائه على المسيرة البشرية وفقا لتطورها.
ليكون في النهاية له صفة القانون. وتحت حماية الجماهير لهذا القانون يأتي المسيح الدجال رمزا لقاعدة لا تعرف إلا الانحراف والشذوذ. وكما في روايات عديدة أن المسيح الدجال هو سر إبليس وحامل رايته آخر الزمان. وإذا كان الدجال ثمرة لطريق الانحراف. فإن المهدي المنتظر الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عنوان الفطرة النقية وتحت رايته سينتظم الذين ساروا على الصراط المستقيم ولم تعرقل خيمة الانحراف والنفاق خطواتهم. وبين الحق والباطل ستدور معارك آخر الزمان. ومعسكر الشيطان مهزوم مهزوم. ولقد هزم </span>
في كل عصر. هزم يوم أن قتل ابن آدم الأول أخيه بحجر وسيهزم بعد أن قتل ابن آدم أخيه بقنبلة ذرية. إن هزيمة الباطل في كل عصر هي عنوان للحق الأصيل في الوجود ودعوة للسائرين في طريق الانحراف كي يصححوا مسارهم. ويعلموا أن الباطل طارئ لا أصالة فيه. وأنه مطارد من الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله.
ونحن على امتداد هذا الكتاب سنسرد الأحداث كما وقعت ليتبين القارئ بنفسه موطن الانحراف وموطن الدعوة الحق. ثم مصير كل منهما. وسيجد أن الانحراف ضربه الله بالكون كله. ضربه يوما بالطوفان. ويوما بالريح العقيم.
ويوما بالصيحة ويوما آخر بالحجارة. وعلى امتداد هذه الأيام وهذه الأهوال نجا الله الذين آمنوا من ضربات الكون وأحياهم حياة طيبة. إن القارئ على امتداد صفحات هذا الكتاب سيكتشف أماكن جراح ما زالت تنفجر منها الدماء.
وسيحيط بجوانب هذه الجرائم التي دخلت بمعسكرات الانحراف إلى عقاب لم يأخذ صورة الطوفان أو الريح أو الصيحة. وإنما أخذ صور أخرى حيث ضنك المعيشة وزخارف الفتن التي لا تحقق لمن تلبس بها أي أمن.
والفقه الشيطاني هزمه الله في كل عصر من العصور. وكانت هزيمته عنوانا لانتصار الحق. ودعوة للسائرين في الظلام كي يخرجوا من خيام ضربت عليها الهزيمة في الحياة الدنيا ولها في الآخرة عذاب أليم. إلى رحاب الكون الذي يتنفس بمخزون الفطرة ويدور في اتجاه واحد نحو غاية واحدة. إن فقه الشيطان الذي قتل هابيل في أول الزمان بحجر، حمل شذوذه وانحرافه في سفك الدماء، ووقف في الحاضر وبيده قنبلة ذرية ليقتل بها مليون هابيل. هذا الفقه المدجج بالسلاح والعتاد مكتوب عليه الفناء لأنه باطل والباطل طارئ لا أصالة فيه.
والباطل يطارده الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله. ونحن على امتداد هذا الكتاب سنقص قصة الفطرة في مواجهة الباطل. وسنرى جراح ما زالت تتفجر منها الدماء. وسنحيط بجوانب هذه الجرائم لنعلم من المسؤول عن كل هذا.
انحرافات قوم نوح عليه السلام
(قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)
سورة الشعراء، الآية: 111
الأوائل والطوفان
أعلام تحقير الإنسان
مقدمة:
روي أن بين آدم وبين نوح عليهما السلام عشرة قرون، واختلفوا هل المراد بالقرن مائة سنة، أم المراد بالقرن الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) (1) وبالجملة أن نوحا عليه السلام بعثه الله تعالى عندما شرع الناس في الضلالة والكفر وعبدوا الأصنام والطواغيت. وفي عصر نوح الذي بعث فيه نوح كان قومه قد ابتعدوا عن دين التوحيد وعن سنة العدل الاجتماعي. فاستعلى القوي على الضعيف، وصار الأقوياء بالأموال والأولاد يستبيحون حقوق من دونهم الذين لا يحملون إلا ألقاب المهانة، ولا قيمة لهم في المجتمع. كانت دائرة الأقوياء تضم السادة والأشراف وباقي الطبقة المترفة، وكانت دائرة الضعفاء تضم الأراذل والأخساء ومن لا حظ له من مال أو مكانة.
وأصحاب هذه الدائرة، كان الملأ الأقوياء ينظرون إليهم على أنهم جنس آدمي منخفض لا بد أن يعمل لينتفع المثل الأعلى الآدمي المرتفع - والذين تمثله دائرة الأقوياء - من عمله وكده.
وعلى امتداد طريق الانحراف قامت ثقافة المترفين بغرس الخرافات في
____________
(1) سورة آل عمران، الآية: 33. عقول القوم، وكانت المقدمة إلى هذا أن المترفين وضعوا قاعدة تقول. بأن أي أمر لو كان حقا نافعا، فإن قيمة هذا الحق وهذا النفع تتحدد في أتباع طبقة الأقوياء له. فإن أعرضت عنه هذه الطبقة، أو اتبعه غيرهم من الضعفاء، فإن الحق مهما كان حجمه يكون لا خير فيه، ووفقا لهذه المقدمة غرس المترفين الأصنام في كل مكان، ودثروها بالخرافات التي تخدم مصالحهم وتحافظ على مسيرة الانحراف. وقد ذكر القرآن من هذه الأصنام: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. وكان كل صنم له كهان وطقوس ويعبده طائفة من الناس. وأمام جميع الطوائف يتقدم الأشراف والأقوياء. ويلتقي الجميع على طريق الانحراف متخذين أهواءهم وشذوذ آبائهم عن الفطرة هدفا لهم.
نوح عليه السلام.
نوح هو أول أولي العزم من الرسل، وهو أول من قام لتعديل الطبقات ورفع التناقض من المجتمع الإنساني. وهو أول من طرح حجج التوحيد أمام الكفار.
وذكر الله تعالى في كتابه أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما. وروي أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة (2) وروي غير ذلك. واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث! فقيل كان ابن خمسين سنة، وقيل ابن ثلاثمائة وخمسين عاما (3).
ونوح عليه السلام اصطفاه الله تعالى على العالمين (4)، وسفاه سبحانه في كتابه عبدا شكورا (5)، وعبدا صالحا (6)، كما عده الله سبحانه من عباده المحسنين (7)، ومن عباده المؤمنين (8)، والسور التي تعرضت لقصة نوح عليه
____________
(2) البداية والنهاية: 120 / 1.
(3) المصدر السابق: 101 / 1.
(4) سورة الصافات، الآية: 81.
(5) سورة الإسراء، الآية: 3.
(6) سورة التحريم، الآية: 10.
(7) سورة الأنعام، الآية: 84.
(8) سورة النمل، الآية: 15. الصفحة 31 السلام من القرآن الكريم، هي ثمانية وعشرون سورة في ثلاثة وأربعين موضعا.
وذكرت قصة نوح عليه السلام مفصلة في سبع سور منها: الأعراف ويونس وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح.
الانذار والصد
* أولا: الإنذار:
كان خروج القوم عن سنة العدل الاجتماعي التي أودعها الله في أعماق الفطرة. يعني أن الشيطان يقود قافلة كفارهم، فالشيطان هو صاحب فقه الانتقاص والتحقير، وكفار قوم نوح قطعوا شوطا بعيدا داخل هذا الفقه! فقاموا بتصنيف عباد الله وفقا لما عندهم من أموال وأولاد وجاه أو مكانة. ثم عكفوا على أصنامهم يحيط بهم كهنة مهمتهم الحفاظ على عبادة الأصنام والصد عن سبيل الله. يحافظون على الأصنام تحت لافتة سنة آبائهم القومية. ويصدون عن سبيل الله بطرح عادات وتقاليد وثقافات لا تدع لفكر الفطرة سبيل داخل المجتمع. وأمر مثل هذا ينطلق من ماض معتم، ويدمر حاضر هيمن عليه خدام الأهواء وتلاميذ الشيطان. ويندفع نحو المستقبل من أجل توثيق طريق الفطرة. يكون خطرا على المسيرة البشرية. ويكون أكثر خطورة إذا كان القائمون عليه قوما من أقوام صدر المسيرة البشرية، لأنهم رأس القافلة، والداء عندما يضرب رأس المسيرة البشرية، فإن الانحراف سيتسع شيئا فشيئا حتى لا يصبح هناك أملا في كل مولود جديد إلا من رحم الله.
وقوم نوح كانوا رأس القافلة البشرية. رأسا أصابها الداء، فبعث الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام بالرحمة التي تشفيهم من الداء، لكنهم أبوا إلا أن يزدادوا كفرا، وعندئذ قطعت الرأس وفقا لعذاب الاستئصال.. لقد أغرقهم الله فدفنوا ومعهم انحرافهم في أعماق الطين ليكونوا عبرة للقافلة كلها. لقد دفن انحراف قوم نوح معهم، ولكن أصول الانحراف ما زالت في أيدي الشيطان، فإذا ما لوح الشيطان بها لأي جيل في أي زمان ومكان، كان في الطوفان الذي اجتاح الرأس آية..
لقد بعث الله تعالى نوحا إلى قومه. بعد أن ساروا في اتجاه العذاب الأليم
النبي الخاتم صلى الله عليه وآله والقافلة البشرية
{ الحجة البالغة }
مقدمة:
قبل البعثة المحمدية، كانت القافلة البشرية تعيش أحط أدوارها، فالقرن السادس الميلادي كان قد طفح بعرق الإنحراف ووصف بأنه كان من أشد القرون ظلاما. حيث ادعى الجبابرة في رقع كثيرة من العالم الحق الإلهي وعلى هذا ملأوا العالم ظلماء وخرجوا يبحثون بمخالبهم وأنيابهم عن فريسة من نبي الإنسان ليقتلوه أو يسبوه خلال حروبهم. التي أشعلوها من أجل مزيد من الشهوات والأهواء. قبل البعثة خرج أصحاب بيوت العنكبوت التي ليس لها من آثار البيت إلا اسمه بعد أن وجدوا أن البيت لا يدفع حرا ولا بردا ولا يقي من مكروه! خرجوا ليبحثوا عن بيوت أخرى وكلما انتهوا إلى بيت وجروه كبيوتهم!
وهكذا دارت جحافل الظلام في حلقة مفرغة. من بيت سوء! ومن أولياء ليس لهم من الولاية إلا الاسم فقط لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا. إلى أولياء لم يتخصصوا إلا في بناء بيوت كبيوت العنكبوت!
كانت الوثنية قد رفعت أعلامها على بلاد الروم واليونان والهند والفرس ومصر وسوريا وغير ذلك من البلاد. وتحت ظل الوثنية أطيح بسنة العدل الإجتماعي، وأنت الفطرة تحت أحمال غليظة، وقام فقهاء الانحراف بتقديم ثقافة تفقد الإنسان رشده وقوة تمييزه بين الخير والشر. فلم يعرف في عالمهم </SPAN>الحسن من القبيح. وكيف يعرف من ألقى مقياس المعرفة الفطرية وراء ظهره وانطلق مسرعا إلى عالم الضلال الذي لا يفلج من سار على طريقه أبدا. فتحت رايات الوثنية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان الإنسان أرخص شيئا على أرضها. كانوا يدفعون بالرقيق إلى حلبات المصارعة كي يصارع إنسان مثله حتى الموت أو يصارع السباع! وكل هذا من أجل أن يدخلوا السرور على شريف من أشرف القوم بع عناء يوم عمل. كانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف. والمؤامرات والمجاملات الزائدة والقبائح والعادات السيئة. كان هم الجميع هو اكتساب المال من أي وجه. فهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الأفراد وهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الشعوب. أما أوروبا فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية وكانت بعيدة عن قافلة الحضارة التي شيدها الناس من حولهم. كان لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعلم. وكانت أجسامهم قذرة ورؤوسهم مملوءة بالأوهام. وكان الرهبان هناك يبحثون في أن المرأة حيوان أم إنسان؟ ولها روح خالدة أم ليس لها روح خالدة. وأن لها حق الملكية والبيع والشراء أم ليس لها شئ من ذلك. ويقول روبرت برفلوت: لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر. وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا. وكانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم. لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت.. وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا. فريسة الدمار والفوضى والخراب (1) أما الهند فكانت قبل عصر البعثة المحمدية قد احترفت صنع الآلهة وذكر صاحب كتاب الهندوكية السائدة. بأنهم ألحقوا بالديانة الهندوكية عددا من الآلهة قد بلغ (330 مليون) إله!! وفي ظل هذه الآلهة رتعت عقائد التثليث والتجسد والحلول وجميع معالم الانحراف. وفي بلاد فارس أقيمت للناس المعابد العديدة! وفي بلاد العراق أقيمت المعابد للكواكب والأوثان! أما العرب فقد انغمسوا في الوثنية بأبشبع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل لكل بيت صنم خاص، وكان في جوف
____________
(1) السيرة النبوية / الندوى: ص 9.
الكعبة وفنائها ثلاثمائة وستون صنما، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر من أي جنس مان، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجن والكواكب. وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله! وأن الجن شركاء الله!
واعتقدوا أن هؤلاء لهم مشاركة في تدبير الكون! وقدرة ذاتية على النفع والضرر والإيجاد والإفناء! فآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم (2) وعلى أرض العرب وبالتحديد في مكة كان العديد من علماء أهل الكتاب يقيمون فيها أو حولها انتظارا لظهور النبي الموصوف عندهم في كتبهم والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم نظرا لدقة الوصف الذي وصفه لهم الأحبار والرهبان الذين أؤتمنوا على ما أخفاه من الكتاب.
وبالجملة كانت القافلة البشرية في حاجة إلى مشعل هداية بعد أن سقطت أطروحات الأصنام في الأوحال العميقة. مشعل هداية يهدي إلى صراط الله المستقيم، وجاء النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن جفت الحكمة وجف العلم من آنية أهل الكتاب.
أولا: وجاء النور الهادي:
1 - من صفاته عند أهل الكتاب:
كان عليه السلام أميا، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب. قال القرطبي في تفسيره: (جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران) " إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك. اجعل كلامي على فيه. فمن عصاه انتقمت منه " فمن إخوة بني إسرائيل؟ فلا محالة أنهم العرب أو الروم. فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة. فلم يبق إلا العرب. فهو إذن محمد عليه السلام. وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب " إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته " فكني عن بني إسرائيل بأخوة إسماعيل. كما كني عن العرب بأخوة بني إسرائيل في قوله: " إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك " ويدل ذلك أيضا قوله:
____________
(2) السيرة النبوية / الندوى: ص 11.
" اجعل كلامي على فيه " وتلقيناه من فلق فيه (3) واليهود يطلقون على أي أمة غير أمتهم لقب " الأمة الأمية " وفي ذلك يقول تعالى: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) (4). فالنبي الأمي ليس من الحي الإسرائيلي. وإما هو من بني إسماعيل. ووصفه بالأمي لا ينطبق إلا عليه. لأن المسيح ابن مريم عليه السلام كان قارئا وكاتبا. ففي إنجيل لوقا " وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ " (لوقا 4 / 16) وفي إنجيل " وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب " (يوحنا 8 / 6) وكان عليه السلام رسولا إلى بني إسرائيل. البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل صنف فيها كتب كثيرة.
2 - من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم:
اختصه الله بعموم الدعوة للناس كافة قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (5) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (6). قال المفسرون: إن في مدلول الآية حجة على التوحيد. وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية، التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم وسيرهم إلى غايات وجودهم، فعموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم. وهو رسول الله تعالى لا رسول غيره. دليل على أن الربوبية منحصرة في الله تعالى. فلو كان هناك رب غيره ولجاءهم رسوله. ولم يعم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عمتهم. واحتاجوا معه إلى غيره. ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه. أمس بجهل الناس من كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا. فمفاد الآية: لا يمكنهم أن يروك شريكا له. والحال أنا لم نرسلك إلا كافة لجميع الناس بشيرا ونذيرا. ولو كان لهم إله غيرنا، لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم
____________
(3) البشارة نبي الإسلام / أحمد حجازي السقا: ص 226 / 1 ط دار البيان.
(4) سورة آل عمران، الآية: 75.
(5) سورة الأعراف، الآية: 158.
(6) سورة سبأ، الآية: 28. عباد لإله آخر. والله أعلم (7).
ونزول القرآن الكريم على رسول الله بلسان عربي، لا ينافي عموم دعوته لعامة البشر، لأن دعوته كانت مرتبة على مراحل، فأول ما دعى دعى الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم، ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة، ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (8). ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (9) ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله تعالى:
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (10) وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) (11) والدليل على عموم الدعوة. إنه كان من المؤمنين به سلمان وكان فارسيا، وبلال وكان حبشيا، وصهيب وكان روميا، وفي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سابق العرب. وصهيب سابق الروم. وسلمان سابق الفرس. وبلال سابق الحبشة) (12) " وبعد استقرار الدعوة أخذ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك في إيران ومصر والحبشة والروم. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعثت إلى الأحمر والأسود) (13) وقال: (أنا رسول من أدركت حيا ومن يولد بعد) (14) وقال: (ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار) (15) وقال: (أنا النبي الأمي الصادق الزكي. الويل كل الويل لمن كذبني وتولى عني وقاتلني...) (16) وقال: (إن الله بعثني بتمام
____________
(7) الميزان: 377 / 16.
(8) سورة الشعراء، الآية: 214.
(9) سورة الحجر، الآية: 94.
(10) سورة الأعراف، الآية: 158.
(11) سورة الأنعام، الآية: 19.
(12) رواه الحاكم (كنز العمال 644 / 11).
(13) رواه ابن سعد (كنز العمال 445 / 11) (14) رواه ابن سعد (كنز العمال 404 / 11).
(15) رواه الحاكم (كنز العمال 453 / 11).
(16)(رواه ابن سعد (كنز العمال 403 / 11). مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال) (17) وقال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) (18) وقال: (أنا رحمة مهداة) (19) وقال: (إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ودينكم واحد ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أخمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى) (20).
ومن خصائصه أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (21) وآيات القرآن في هذا المقام عديدة. كما جعل الله أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرط في حب الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (22) قال المفسرون: إن حب الشئ يقتضي حب جميع ما يتعلق به.
ويوجب الخضوع والتسلم لكل ما هو في جانبه. والله سبحانه هو الله الواحد الأحد، الذي يعتمد عليه كل ما شئ في جميع شؤون وجوده ويبغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل. فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين بدين التوحيد وطريق الإسلام، وهذا هو الذين الذي ينسب إليه سفرائه. ويدعو إليه أنبيائه ورسله. وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه.
وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة، كما يختم بصادعه صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء عليهم السلام، وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، طريقة الإخلاص على ما أمره الله تعالى حيث قال: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله حتى بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحانه الله
____________
(17) رواه الطبراني في الأوسط (كنز 425 / 11).
(18) رواه ابن سعد والحاكم (كنز 425 / 11).
(19) رواه ابن سعد الحاكم (كنز 425 / 11).
(20) رواه ابن النجار (كنز 484 / 11).
(21) سورة النساء، الآيتان: 13 - 14.
(22) سورة آل عمران، الآية: 31 وما أنا من المشركين) (23) فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك، فسبيله دعوة وإخلاص، واتباعه واقتفاء أثره، إنما في ذلك صفة من اتبعه.
ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له صلى الله عليه وآله وسلم هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعا) (24) وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) (25) ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراط المستقيم فقال: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) (26) فتبين بذلك كله أن الإسلام - وهو الشريعة المشرعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة - هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، وهو دين الحب. ومن جميع ما تقدم يظهر معنى الآية (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فالمراد والله أعلم: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب، الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن. أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب، وعند ذلك تجدون ما تريدون. وهذه هو الحب الذي يبتغيه محب بحبه (27).
ومن خصائصه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم كقول نوح عليه السلام: (يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) (28) وقول هود عليه
____________
(23) سورة يوسف، الآية: 108.
(24) سورة الجاثية، الآية: 18.
(25) سورة آل عمران، الآية: 20.
(26) سورة الأنعام، الآية: 153.
(27) الميزان: 159 / 3.
(28) سورة الأعراف، الآية: 61. السلام: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) (29) وغير ذلك، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد تولى تعالى تنزيهه عما نسبه إليه أعداؤه والرد عليهم فقال تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) (30) وقال تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) (31) وقال: (ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى) (32).
ومن خصائصه أن كتابه معجز، ومحفوظ، يسره الله تعالى للذكر ليفهمه العامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه قال تعالى:
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (33) قال المفسرون: والمعنى لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به. فهل من متذكر فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه الدين الحق. والقرآن لا انحراف فيه في جميع الأحوال. ولا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير. ووصف القرآن بالحكيم دليل على عدم وجود نقطة ضعف أو لهو الحديث فيه. جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة فيه تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد. قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (34) قال المفسرون: أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) (35) وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفة بالقيام كما قال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (36) وقال: (فأقم وجهك للدين القيم) (37) وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنيا هم وآخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وليس إلا لكونه موافقا لما
____________
(29) سورة الأعراف، الآية: 67.
(30) سورة يس، الآية: 69.
(31) سورة القلم، الآية: 2.
(32) سورة النجم، الآيتان: 2 - 3.
(33) سورة القمر، الآية: 22.
(34) سورة الإسراء، الآية: 9.
(35) سورة الأنعام، الآية: 161.
(36) سورة الروم، الآية: 30.
(37) سورة الروم، الآية: 43.
تقتضيه الفطرة الإنسانية (38).
والقرآن الكريم لا يجد الباطل طريقا إليه قال تعالى: (وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون) (39) قال المفسرون: لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به. إنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله.
والقرآن حق لا سبيل للباطل إليه. فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد (ما يستطيعون) أي وما يقدرون على التنزل به، لأنه كتاب سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) أي أن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملأ الأعلى معزولون. حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا (40) والله تعالى تحدى بالقرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثله فقال: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (41) وعندما عجزوا أن يأتوا بمثله تحدى أن يأتوا بعشر سور من مثله قال تعالى: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)(42) وعندما عجزوا تحدى أن يأتوا بسورة واحدة قال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) (43) قال المفسرون: في الآيات ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم. فلا ترى أثرا منهم. والقرآن باق على إعجازة متحد بنفسه كما كان (44).
ومن خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جعل أهل بيته عليهم السلام طرفا أصيلا مع القرآن وأنهم والقرآن لن يفترقا حتى يرد عليه الحوض ففي
____________
(38) الميزان: 47 / 13.
(39) سورة الشعراء، الآيات 210 - 212.
(40) الميزان: 328 / 15.
(41) سورة الإسراء، الآية: 88 (42) سورة هود، الآية: 13.
(43) سورة البقرة، الآية: 23.
(44) الميزان: 201 / 13. الحديث: (ذ إني تارك فيكم الثقلين أحداهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (45) وأن الله تعالى طهر أهله بيته الذين ارتبطوا بالقرآن تطهيرا قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (46) كما أجب الله تعالى مودة قرابة رسول الله في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (47) وسيأتي الحديث عن أهل البيت فيما بعد مفصلا. وخصائص النبي الأعظم عديدة نكتفي بما أوردناه منها.
3 - من صفاته عليه الصلاة والسلام:
قال الحسين بن على عليهما السلام قال: سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع (48) وأقصر من المشذب (49). عظيم الهامة ". إلى أن قال: " أزهر اللون واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن وبينهما عرق يدره القضب له نور يعلوه يحسبه من يتأمله أشم " إلى أن قال: " إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جمعيا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. جل نظره الملاحظة. يبدأ من لقيه بالسلام " وما أوردناه من الصفات يوجد بتمامه في تفاسير أهل الكتاب. ثم قال الحسن فقلت له: صف لي منطقه. فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة.. يتكلم بجوامع الكلم فصلا فصلا لا فضول فيه ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين... " وعن الحسين عليه السلام قال سألت أبي عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " كان يجلس
____________
(45) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 186 / 1).
(46) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(47) سورة الشورى، الآية: 23.
(48) المربوع: الذين بين الطويل والقصير.
(49) المشذب: الذي لا كثير لحم على بدنه. ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إبطانها (50) إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أجدا أكرم عليه منه. من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، وكانوا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا يؤمن فيه الحرم (51). ولا تثنى فلتاته (52) متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. قال الحسين عليه السلام فقلت: كيف كانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه؟ فقال:
كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر (53). سهل الحلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (54) ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عمالا يشتهي فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمنيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره. ولا يطلب عثراته ولا عوراته. ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه. وإذا تكلم أطرق جلساؤه كان على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم انصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليتهم (55)، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه. حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم (56). ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (57). ولا يقطع على أحد (*)
____________
(50) أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من القصور.
(51) أي لا تعاب عنده حرمات الناس.
(52) أي إذا وقعت فيه عثرة من أحد جلسائه بينها لهم ليحذروا من الوقوع فيها ثانيا.
(53) البشر: بشاشة الوجه.
(54) الصخاب: الشديد الصياح.
(55) أي كانوا يتكلمون عنده الواحد بعد الآخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر.
(56) أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم.
(57) أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح.
كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام (58).
قال الحسين: فسألت أبي عن سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكير.
فأما التقدير، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى وجمع له الحلم والصبر. فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه. واجتهاده الرأي في صلاح أمته. القيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة (59) وما أوردناه ما هو إلا بعض من صفات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي وصفه الله بأنه على خلق عظيم. وصاحب هذه الخلق العظيم هو الذي قدر الله تعالى أن تكون هداية البشرية على يديه بما أنه خاتم الأنبياء والرسل. فهو صلى الله عليه وآله وسلم الذي يشير إلى قوافل الضلال والإنحراف بمصباح الهدى كي يخرجهم من الظلمات إلى النور، فمن استجاب فقد فاز، ومن أمسك بذيول آباء الضلال والانحراف فقد هلك والله غني عن العالمين.
ثانيا: الدعوة إلى الهدى:
1 - معسكرات الانحراف:
لم يكن طريق الدعوة بالطريق السهل. فالانحراف كان شاسعا وعميقا، وعلى امتداد ليلة ظهرت له مخالب وأنياب تدافع عن الأهواء والشذوذ، فأهل مكة كانوا قد أقسموا قبل إرسال الرسول إليهم، لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم، وعندما جاءهم الرسول النبي الأمي الذي لم يعهدوا فيه إلا كل خلصة كريمة، نسوا ما كانوا قد أقسموا به من قبل وغاصوا في مستنقعات الأوحال على دروب الانحراف. ومن داخل الأوحال قذفوا أتباع الهدى بجميع ما يستقيم مع ثقافة الانحراف. يقول تعالى عن خط الصد في مكة: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما
____________
(58) حتى يجوز: أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام.
(59) الميزان: 306 / 6 وما بعدها. زادهم إلا نفورا) (60) قال المفسرون: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يكونوا أهدى من إحدى الأمم التي جاءهم نذير. فلما جاءهم تباعدوا عنه وهربوا! فهذا الخط من خطوط الصد وضع في طريق الدعوة العديد من العراقيل دفاعا عن أهوائه وطريق آبائه. نفورهم واستكبارهم لا يقودهم إلا إلى السنة الجارية في الأمم الماضية، وهي العذاب الإلهي، ولن تجد لسنة الله تبديلا، والله تعالى يبعث الرسل لإقامة الحجة، ولكن لا يكون للناس على الله حجة. وحط الصد في مكة لبس الحجة كاملة وهو يقف على خنادق الإنحراف والشذوذ. يقول تعالى:
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) (61).
فالذي يسمك بحجر ويقف على خندق من خنادق الصد أقيمت عليه الحجة بالدعوة، ولا يبالي الله به في أي واد هلك، ولم يكن حال أهل الكتاب بأحسن من حال كفار قريش، فلقد شاركوهم خطوط الصد ولكن كل حسب طريقته.
وأهل الكتاب كانوا يستفتحون ويستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلما بعثه الله كفروا به وحسدوه قال تعالى: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " (62) وأهل الكتاب تصدروا خطوط الصد بعد هجرة الرسول إلى المدينة ولذا كانت آيات القرآن التي نزلت على رسول الله في المدينة لتكشف كيدهم أكثر مما نزل عليه في مكة. وباختصار لقد وقف في وجه الدعوة جميع أبناء الشذوذ والإنحراف الذين استقامت أهواؤهم مع أهواء الظالمين في الأمم الماضية من عهد نوح عليه السلام، ولقد قدمت الدعوة الإسلامية إلى هؤلاء الدواء الشافي من كل داء لنخرجهم من الظلمات إلى النور فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
____________
(60) سورة فاطر، آية: 42.
(61) سورة الأنعام، الآيات: 155 - 157.
(62) سورة البقرة، الآية: 89. 2 - الداعي إلى الله:
أمام معسكرات الشذوذ وخيام الإنحراف تلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم آيات القرآن الكريم في مكة ومن هذه الآيات قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " (63) قال المفسرون: أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، ولا ذاك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي، فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري، فأنا أخاف ربي وأعبده بإخلاص آمنتم به أو كفرتم (64). عقب ذلك قال: " فاعبدوا ما شئتم " وهذا أمر تهديدي. بمعنى أن عبادتهم لن تنفعهم، لأنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله، حيث يخسرون أنفسهم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة، كما يخسرون أهلم بحملهم على الكفر والشرك، وهذا هو الخسران الحقيقي لأنه لا زوال له ولا انقطاع. وأمام معسكرات الشذوذ وخيام الانحراف تلى الرسول الأعظم: " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلوا هذا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين " (65) قال المفسرون: الدعوة تبشير وإنذار. ولا يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أمرها شيئا. وإنما الأمر إلى الله. ومعنى الآيات قل: " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة " - مكة المشرفة - التي حرمها الله ولم يشكر أهلها هذه النعمة. نعمد تحريم بلدهم. بل عبدوا الأصنام! ولكي لا يتوهم كفار مكة أن الله يملك مكة.. فيكون حاله حال سائر الأصنام. جعلوا لكل منها جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا قال: (وله كل شئ) إشارة إلى سعة ملكه تعالى وقوله:
(وأمرت أن أكون من المسلمين) أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدى إليه الخلقة وتهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.
____________
(63) سورة الزمر، الآيات: 11 - 13.
(64) الميزان: 237 / 11.
(65) سورة النمل، الآيات: 90 - 92.
حفائر قريش
(الطريق إلى سنن الأولين)
أولا: البدايات والنهايات:
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من الفتن. لأن كل فتنة تصب في نهاية المطاف في سلة المسيح الدجال الذي ينتظره اليهود على امتداد طريق الطمس والقهقري. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ". وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال " (1) ولأن فتنة الدجال يجتمع فيها كل ثقافات معسكر الكفر والانحراف منذ عهد نوح عليه السلام. فإن جميع الأنبياء حذروا أممهم من الاقتراب من شذوذ الذين مضوا.
لأن هذا الشذوذ يحمل بصمات الدجال إليهم. وأن يتمسكوا بما معهم لأن في اختلافهم شذوذ يحمل بصمات الدجال وينطلق محتضنا لشذوذ الماضي إلى المستقبل حيث الدجال. قال النبي: (وأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال) (2) ولقد حذر النبي أمته أعظم تحذير. فقال: (لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من الدجال. ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها " (3). فالذي ينجو من الدجال هو فقط الذي تفادى رياح الانحراف والشذوذ والأهواء التي
____________
(1) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح. (الزوائد: 7 / 335)
(2) رواه ابن ماجة: حديث 4077.
(3) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح: (335 / 1).
تحمل ثقافات أصنام الماضي والحاضر والمستقبل. فهذه الثقافة ستكون أرضية للدجال ولن ينجو منها إلآ من عرفها.
ولقد حدد النبي ثلاث محطات في كل واحدة منها فتنة وطالب الأمة أن تحذرها فقال: (ثلاث من نجا منها فقد نجا. من نجا عند موتي. ومن نجا عند قتل خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه ومن نجا من فتنة الدجال " (4). لقد أشار إلى أحداث تكون عند موته. وهذه الأحداث ستعصف بالعقول وبالقلوب. وأشار إلى أحداث تأتي عند قتل خليفة من صفاته إعطاء الحق وهذه الأحداث هي الوسط بين موته صلى الله عليه وسلم وبين ظهور الدجال. أي أحداث تحمل رياح الفرقة والاختلاف وانقسام الأمة إلى أحزاب كل حزب يلعن الآخر. وما تلبث هذه الثقافة حتى تتعانق مع ثقافات الظلام الغابر لتمثل ثقافة عالمية واحدة يسهر عليها علماء الطمس والقهقري وتحميها القوى الدولية المتعددة ويعتبر الخارج عليها خارج عن القانون. ثم يأتي الدجال على إثر ذلك.
لقد حذر النبي من كل فتنة. حذر زوجاته وأصحابه وكان يقول: " هل ترون ما أرى إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) (5) قال النووي.
أي أنها كثيرة وتعم الناس. لا تختص بها طائفة. وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم كوقعة الجمل وصفين والحرة ومقتل عثمان والحسين وغير ذلك (6) وعن ابن عمر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال:
" رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان " (7) وحذر النبي جميع الأجيال المؤمنة التي تأتي في المستقبل والتي تجد نفسها في دوائر الفتن الماضية.
حذرهم أن تصيبهم الرياح التي أصابت الذين ظلموا. لأن رياح الفتن لا تصيب الذين ظلموا خاصة. بل تخترق الماضي ومنه إلى الحاضر ثم إلى المستقبل.
____________
(4) رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ربيعة بن لقيط وقد وثقه ورواه الخطيب في المتفق واللفظ له (كنز العمال: 180 / 11) (الزوائد: 334 / 7).
(5) رواه مسلم 168 / 8.
(6) رواه مسلم: 168 / 8.
(7) مسلم: 181 / 8. ويستقبلها كل من وقع هواه على ثقافتها. قال النبي: (تعرض. الفتن على القلوب كالحصير. عودا عودا. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء. حتى تصير على قلبين. على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض. والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه " (8) وللنبي إرشادات عظيمة لكل مؤمن ضعيف يعيش في زمان هذه الفتن. منها أن يعتزل في حاله. وأن يصلي وراء هذا وذاك في حالة كي ينجو بإيمانه في عالم يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي. وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " (9) وإرشادات النبي لم تدعو الفرص الإيمان بالقوة لأن القاعدة أن دين الله لا إجبار فيه. فالمجتمع الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحييه الله حياة طيبة. أما الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف فله في الكون ضربة لا تخطئة. وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
1 - أول الوهن:
تواتر في كتب السير والتواريخ والصحاح والمسانيد أن الأنصار بعد وفاة النبي رأى معظمهم أن لا تكون البيعة إلا لعلي بن أبي طالب. ولكن نقل إليهم أن المهاجرين أرادوا الأمر. وعندئذ أخرج الأنصار سعد بن عبادة وهو مريض وقالوا: تولى هذا الأمر بعد النبي سعد بن عبادة فإن أبت مهاجرة قريش وقالوا:
نحن المهاجرون الأولون. فإنا نقول: منا أمير ومنكم أمير. وعندئذ خرج من سقيفة بني ساعدة التي كان الأنصار يجتمعون فيها صوت يقول: " هذا أول الوهن " وعندما علم عمر بن الخطاب انطلق إلى أبي بكر فقال له أبو بكر. ابسط يدك لأبايعك. فقال له عمر: أنت أفضل مني. فقال له أبو بكر: أنت أقوى مني. فقال عمر. فإن قوتي لك مع فضلك. فبايعه (*) وانطلقا سويا إلى السقيفة
____________
(8) مسلم: 89 / 1.
(9) مسلم: 20 / 5.
(*) تاريخ الخلفاء: ص 65. ومعهما بعض المهاجرين ولم يكن من بينهم أحدا من بني هاشم. وفي السقيفة خطب أبو بكر وأشاد بسابقة قريش وبفضل الأنصار (10). ومرت المحاورات بين منا أمير ومنكم أمير. أو منا أمير ومنكم وزير
. وانتهى المطاف بأن لقب المسلمون أبو بكر بلقب خليفة رسول الله (11). ولم يبايع سعد بن عبادة وتوعد المهاجرين وقصة تخلفه عن بيعة أبي بكر مشهورة (12) وروي أنه خرج إلى الشام وأن الجن قتلوه وقالوا فيه شعرا. وروي أنه لما انتهت إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنباء السقيفة قال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت منا أمير ومنكم أمير. قال:
فهلا احتججتم عليهم بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (13). قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟
قال: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال: فماذا قالت قريش؟
قالوا: احتجت بأنها شجرة رسول الله الله عليه وآله وسلم. فقال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (14).
والباحث في أوراق ما بعد وفاة الرسول لا يجد المعلومات الكافية عن مجريات الأحداث. ومن المؤكد أن معلومات كثيرة قد فقدت وهي في طريقها إلينا. وإن معلومات أخرى قد حجبت عندما أمر الخلفاء بعدم التوسع في رواية الحديث بحجة أنه يؤثر على القرآن. ولكن من خلال المعلومات التي وصلتنا في كتب السير والتواريخ وغيرها. يمكن للباحث أن يتصور. أنه بعد فتح مكة اتسعت رقعة النفاق ودخل الإسلام الذين قال الله فيهم:! وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون * وسواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)(*) وهؤلاء كان الرسول يعرفهم دفي حياته بل وحذر منهم وطرد
____________
(10) أنظر الطبري وابن الأثير حوادث سنة 11.
(11) الإصابة: 101 / 4.
(12) الإصابة: 80 / 3.
(13) وصية الرسول بالأنصار رواها البخاري ومسلم وفيها: (أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي. وقد قضوا الذي عليهم. وبقي الذي لهم. فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) البخاري: 2 / 314، مسلم حديث رقم 1949.
(14) أراد بالشجرة شجرة النبوة والثمرة آل البيت.
(*) سورة يس، الآيتان: 9 - 10.
بعضهم فمن الممكن أن يقال أن هذا الفريق الذي استصغر أسامة بن زيد في قيادة الحملة العسكرية. كره قيادة علي بن أبي طالب للأمة لأمور عديدة منها أن سيفه كان له أثرا بليغا في رقابهم. لكنه لم يفصح عن هذه الأمور للصحابة الكبار.
وإنما عرض رفضه على أساس استصغار علي. وأن قيادته ستفرق الشيوخ من حوله. ويمكن أن يكون كبار الصحابة قد علموا مواطن القوة عند هذا الفريق.
فأبعدوا عليا حتى لا تكون فرقة واختلاف. ويمكن أن نكتشف ذلك من عدة أقوال حول هذا الحدث. منها قول عمر كما جاء في الصحيح. (أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها) قال في لسان العرب: أراد الفجأة. لأنها لم تنتظر العوام وإنما ابتدرها أكابر الصحابة والفلتة كل شئ فعل من غير روية. وشبه يوم موت النبي بالفلتة في وقوع الشر من ارتداد العرب. والجري على عادة العرب في ألا يسود القبيلة إلا رجل منها.. ومنها ما رواه ابن عباس. قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة. فقال. أم والله يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلته. فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وأنت وصاحبك وثبتما عليه واقترعتما الأمر منه دون الناس؟ فقال: إليكم يا بني عبد المطلب. أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب. قال: فتأخرت عنه وتقدم هنية. ثم قال عمر: سر لا سرت وقال: أعد علي كلامك. فقلت: إنما ذكرت شيئا فرددت عليك جوابه.
ولو سكت سكتنا. فقال: إنا والله ما فعلنا ما فعلناه عن عداوة. ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها. قال: فأردت أن أقول كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه فينطح كبشها أفتستصغره أنت وصاحبك.
فقال: لا جرم فكيف ترى؟ والله لا نقطع أمرا دونه. ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه (15) وما ذهبنا إليه يقترب أيضا مما رواه رافع الطائي قال: حدثني أبو بكر عن بيعته فقال: (بايعوني وقبلتها منهم. وتخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها ردة) (16) وأخرج ابن إسحاق وابن عابد في مغازيه عنه أنه قال لأبي بكر: ما
____________
(15) محاضرات الراغب: 213 / 2 ونقل ابن أبي الحديد مثله في شرح النهج 134 / 1 عن كتاب السقيفة للجوهري.
(16) تاريخ الخلفاء / السيوطي: 66.
حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين؟ قال: لم أجد من ذلك بدا. خشيت على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرقة (17).
فقد تكون البداية أن دوائر النفاق داخل البيت الإسلامي قد لوجت بقبضتها فكان ما كان ولكن الذي يقف في أول الطريق لا يرى إلا أول الطريق أو وسطه وأما نهاية الطريق فإنها لا ترى إلا بعد أن تجئ. ونهاية الطريق كانت بكل المقاييس مأساة لا ينكرها باحث منصف لقد تقاتلت القبائل والطوائف وقامت بتصفية حساباتها على حساب الإسلام. وأصبح كرسي الحكم غاية وهدف لغلمان قريش وسفهائها. بل أصبح فيما بعد كعجل بني إسرائيل حوله المستفيد منه والخائف من عضبة.
2 - الحفائر:
في عصر عمر بن الخطاب طفح على السطح فريق يذهب إلى المساجد بوجهه ويطلب الإمارة بقلبه. (منهم): المغيرة بن شعبة. ذكر البغوي وابن شاهين أن المغيرة قال: أنا أول من رشا في الإسلام جئت إلى حاجب عمر وكنت أجالسه. فقلت له: خذ هذه العمامة فالبسها. فكان يأنس بي ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب. فكنت أجلس في القائلة. فيمر المار فيقول: إن للمغيرة عند عمر منزلة إنه ليدخل عليه في ساعة لا يدخل فيها أحدا (18).
واستعمل عمر المغيرة على البحرين فكرهوه وشكوا منه فعزله. ثم ولاه البصرة.
ثم عزله لما شهد عليه أبو بكرة بالزنا ثم ولاه الكوفة. وأقره عثمان ثم عزله وبعد قتل عثمان حضر مع الحكمين. ثم بايع معاوية فولاه الكوفة. والمغيرة الذي اعتبر نفسه أول من رشا في الإسلام. اعتبره التاريخ أول من وضع بذرة الحكم الملكي في الإسلام. وذلك عندما علم أن معاوية سيعزله أشار إليه بتنصيب ابنه يزيد من بعده. فلم يعزله معاوية وطلب منه أن يعد العدة لذلك.
(ومنهم): معاوية بن أبي سفيان ولاه عمر الشام وأقره عثمان. ثم إستمر فلم يبايع عليا بعد قتل عثمان. ثم حاربه واستقل بالشام ثم أضاف إليها مصر ثم
____________
(17) تاريخ الخلفاء /. السيوطي: 66.
(18) الإصابة: 132 / 6.
تسمى بالخلافة بعد صلحه مع الحسن. وقال في الإصابة: عاش ابن هند - يعني معاوية - عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة (19). ومعاوية أسلم يوم الفتح مع أبيه وأمه. وروى البعض أنه أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره يوم الفتح وإنه كان في عمرة القضاء مسلما. وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد. بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج. فعلناها وهذا يومئذ كافر (20).
(ومنهم). عمرو بن العاص. نظر عمر بن الخطاب إليه وهو يمشي فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا (21) ولاه عمر فلسطين وذكر ابن سعد. أن عثمان لما عزله عن مصر قدم إلى المدينة. فجعل يطعن على عثمان. فبلغ عثمان ذلك فزجره. فخرج عمرو إلى أرض له بفلسطين. وبعد قتل عثمان بلغته بيعة علي ثم بلغته وقعة الجمل. وخروج معاوية. فلحق بمعاوية لعلمه أن عليا لا يشركه في أمره (22). وساند معاوية مقابل شيئا واحدا. أن يعطيه معاوية مصر طعمة ما بقي(*).
فهذه الطائفة وغيرهم ما كانت الدعوة هدفا من أهدافهم وإنما كان الكرسي هو الهدف. كانوا في أول الطريق أصحاب أحمال خفيفة. أما في نهاية الطريق فقد أمطروا الأمة بفتن لا حد لها. وإذا كان عمر بن الخطاب قد اعتمد على سواعد الولاة القوية في بداية الطريق. فإن عثمان بن عفان لم يتخير إلا أقاربه حتى ولو كانوا من الذين طردهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(ومنهم): عبد الله بن أبي السرح. قال في الإصابة. كان أبوه من المنافقين (23). ويوم فتح مكة أمن الرسول الناس كلهم إلا أربعة نفر منهم: ابن أبي السرح. الذي اختبأ عند عثمان وكان أخوه من الرضاعة. فجاء به عثمان
____________
(19) الإصابة: 113 / 6.
(20) الإصابة: 113 / 6.
(21) الإصابة: 3 / 5.
(22) الإصابة: 61 / 6.
(*) ابن الأثير: 179 / 1.
(23) الإصابة: 77 / 4.
حتى أوقفه على النبي وهو يبايع الناس. فقال يا رسول الله: بايع عبد الله. فبايعه بعد ثلاث. ثم أقبل النبي على أصحابه وقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن مبايعته فيقتله (24) وعبد الله هذا ولاه عثمان على مصر. وكان على الصعيد في زمن عمر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها (25) وفي مصر فرض عبد الله الضرائب وعامل الشعب هناك بقسوة. وترتب على هذا كله الخروج على عثمان وقتله.
(ومنهم): الوليد بن عقبة الذي نزل فيه:! يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وقال ابن عبد البر لا خلاف بين أهل العلم أن الآية نزلت فيه (26) والوليد نشأ في كنف عثمان وكان أخوه لأمه. استخلفه عثمان على الكوفة. وقصة صلاته بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهورة مخرجة (27) وكان الوليد شاعرا وروي أنه كان يحرض معاوية على قتال علي بكتبه وبشعره (28).
(ومنهم): الحكم بن العاص. عم عثمان ووالد مروان. أسلم يوم الفتح وسكن المدينة ثم نفاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف. ثم أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان (29) وروي في سبب طرده أنه كان يتبع سر رسول الله (30) وروي أن أصحاب النبي دخلوا عليه وهو يلعن الحكم بن أبي العاص. فقالوا:
أفلا نلعنه نحن؟ قال: لا. فإني أنظر إلى بنيه يصعدون منبري وينزلونه. فقالوا يا رسول الله ألا نأخذهم؟ قال: لا. ونفاه (31) وروي أن الحكم مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي. (ويل لأمتي مما في صلب هذا " (32)
____________
(24) الإصابة: 77 / 4.
(25) الإصابة: 77 / 4.
(26) الإصابة: 321 / 6.
(27) الإصابة: 322 / 6.
(28) الإصابة: 322 / 6.
(29) الإصابة: 28 / 2.
(30) الإصابة: 29 / 2.
(31) الإصابة: 28 / 2.
(32) الإصابة: 29 / 2.
والنبي لم يأمر بقتله. لأن الحكم وأمثاله ثمرة طريق وباب للفتن والرسالة أغلقت في وجوه هؤلاء الأبواب. فمن فتح الباب عليه استقبل الرياح.
(ومنهم): مروان بن الحكم. وهو ابن عم عثمان وكاتبه في خلافته (33) كان قد خرج مع أبيه إلى الطائف حين نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما أذن عثمان للحكم في الرجوع إلى المدينة رجع مع أبيه (34) روي أن عائشة قالت لمروان: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله. لعن أباك وأنت في صلبه (35). وكان مروان من أسباب قتل عثمان (36) وشهد الجمل مع عائشة ثم صفين مع معاوية ثم ولي إمرة المدينة لمعاوية وخرج منها في أوائل إمرة يزيد بن معاوية. وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية. فبايع بعض أهل الشام مروان. وعندما تمت له المبايعة من هؤلاء. أراد أن يستحوذ على الشام بأسرها. فكانت الواقعة بينه وبين الضحاك بن قيس. وانتصر مروان واستوثق له ملك الشام. ثم توجه إلى مصر فاستولى عليها. وكان الطريد هذا وابن الطريد يلقب حينئذ بأمير المؤمنين في بلاده. إلى أن مات فعهد إلى ولده (أمير المؤمنين) عبد الملك بن مروان. لتبدأ سلسلة أمراء المؤمنين الذين طرد رسول الله أكبر رأس فيهم إن الفريق الذي كان يذهب إلى المساجد بوجهه ويطلب الإمارة بقلبه. حفر في نفوس الشعوب الحفائر العديدة. وهذه الحفائر أنتجت ثقافة. وعلى هذه الثقافة جاء غلمان قريش وسفهائها كل منهم يطلب الكرسي لنفسه. ولقد مهدت حفائر كل حلقة للأخرى حتى إستقرت عند الطريد الذي مهد إلى الضياع. ولقد كان بين كل حلقة وأخرى فتوحات. ولكن الفتوحات جاءت بالأموال حتى كثر التنافس الذي جر الفتن. والإسلام لم يكن في أصوله البحث عن الأموال والنعيم. وإنما في أصوله البحث عن الفطرة التي تئن تحت أحمال الجاهلية في أصول الإسلام أن وضع الفطرة في المكان الصحيح يترتب عليه
____________
(33) الإصابة: 156 / 6.
(34) الإصابة: 157 / 6.
(35) قال في الإصابة أصل القصة عند البخاري بدون هذه الزيادة 29 / 2.
(36) الإصابة: 157 / 6.
دوران صاحبها في اتجاه حركة الكون. ومع هذا الدوران الصحيح سيأتي حتما الاطعام والأمن. وليس معنى ذلك أن الفتوحات كانت سياسة خاطئة وأن حركة جميع الولاة كانت في اتجاه الكرسي والمال. فالتاريخ يشهد بأن العديد من الفتوحات صان بيضة الإسلام من أعدائه المحيطين به. وأن من الولاة من عمل إبتغاء مرضاة الله. ولكن حركة الفريق الذي قدمناه وأمثالهم طغت على أعمال غيرهم. ووضعت مقدمات أثمرت نتائج هي بكل المقاييس لا علاقة لها بالإسلام إلا بالاسم. وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أن الحركة لم تكن في الاتجاه الصحيح. فنحن لا نصدق على سبيل المثال لا الحصر أن ضرب الكعبة ورميها بالمنجنيق أو دخول الخيل إلى مسجد الرسول في واقعة الحرة أو قتل الحسين.
لا نصدق أن كل هذا كان نتيجة صحيحة لمقدمة صحيحة. ولأننا لا نصدق فإننا نقول إن حركة هؤلاء الولاة منذ البداية كانت تعمل لخدمة هوى تلبس بالإسلام.
3 - حفائر أهل الكتاب والأهواء:
إن الكفار من أهل الكتاب يقاتلون معاركهم من وراء جدر. فيدخلون المعارك وراء جدار الجواسيس ويقفون بأسلحتهم وراء الجدر المنيعة. وعلى هذا إذا رأيناهم داخل منطقة ما من البيت الإسلامي اجتماعية أو تربوية أو اقتصادية يجب أن نعلم إما أن لهم جدر تحمي حركتهم وإما فتكت أسلحتهم بهذه المنطقة فدخلوها وهم يعلمون أن أحدا لن يجابههم. وأهل الكتاب لم يستطيعوا أن يقاتلوا أمام المسلمين بسلاح. ولقد هزموا في جميع معاركهم. وبعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدأوا يعدون لمعارك من نوع آخر يساعدهم فيها المنافقين داخل البيت الإسلامي. ومن هذه المعارك وضع الأحاديث ورواية القصص التي تحمل بين طياتها دماء أهل الكتاب. ولقد ساعد أهل الكتاب على ذلك أن الساحة أعطتهم هذه الفرصة الثمنية وهي لا تدري.
في عصر الرسول كانت رواية الحديث معروفة عملا يقول الله تعالى.
(إ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ". ولم تنقطع رواية الحديث حتى يوم خطبة الوداع حيث قال فيها النبي: (" ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) ". وربما يكون الرسول قد أمر في صدر الدعوة بعدم رواية الحديث حتى يتمكن القرآن من النفوس. ولكن الحديث اتصلت روايته بعد ذلك. لأن الحديث مكمل للتشريع. ومبين لمجملات القرآن ومخصص لعموماته ومطلقاته. كما تكفل لكثير من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية. والذي حدث بعد وفاة الرسول أن رواية الحديث كانت في نطاق ضيق. وفي عصر عمر بن الخطاب ضاقت الدائرة أكثر وكان قد قال: (" قلوا الرواية عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم) (37) ثم ضاقت أكثر عندما توعد الخليفة الناس بالعقاب عليها ونحن نختلف مع الذين قالوا: أن النهي عن الرواية والتدوين في عهد عمر كان ضرورة حتى لا يلتبس القرآن بالحديث. وحتى لا ينصرف المسلمين عن كتاب الله. وذلك لأن للقرآن أسلوب لا يبلغه الإنس والجن مجتمعين. فكيف يلتبس القرآن بالحديث؟ وكيف ينصرف الناس عن كتاب الله وهم يقرأونه في صلاتهم كل يوم. ويسهرون معه ليلا طويلا. وهل معنى إننا نخاف على القرآن أن نضيع سنة الرسول؟ لقد كان من الأفضل أن تجتمع هيئة من الأمناء وتدون الحديث الصحيح كله بعد تدوين القرآن. وبهذا يقطع الطريق على الكذابين والوضاعين إما أن تمنع رواية الحديث تحت عنوان المحافظة على القرآن. فهذا لا يقبله عقل سليم ويفتح الطريق للقول بأن عدم الرواية والتدوين الهدف منه التعتيم على من طالب الرسول بالالتفاف حولهم أو الذين حذر منهم وعلى أي حال فكما ذكرنا من قبل أن معلومات كثيرة فقدت عن هذه الفترة. ولا ندري السبب الحقيقي لأمر عمر بن الخطاب بعدم الرواية. ولكن من المؤكد أن حركة الوضع ترعرعت في هذا السكون وحمل شجرتها كعب الأحبار. وكعب كان من أكبر أحبار اليهود. أسلم في عهد عمر وسكن المدينة في خلافته. ثم تحول إلى الشام في عهد عثمان. فاستصغاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه!! ويقول الشيخ رشيد رضا: أن كعب كان من زنادقة اليهود. الذين أظهروا الإسلام والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين. وقد راجت دسائسه. وانخدع به بعض الصحابة ورووا عنه وتناقلوا أقواله (38) وقال ابن كثير في تفسيره: لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه. فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غث وسمين وذكر أن كعبا كان متخصص في بث
____________
(37) الطبري 90 / 5.
(38) المنار: (541 - 783 / 27.
</SPAN>الخرافات في أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوالهم والفتن والساعة والآخرة.
وهذه الأمور قادرة على خلق أرضية ثقافية واسعة تخدم مخطط كعب الأحبار. وإذا كنا لا نعرف على وجه اليقين ماذا كان يريد كعبا من بث هذه الثقافة. إلا أننا يمكننا بملاحظة الساحة أن نتبين ذلك. فروايات كعب كانت في مجملها قريبة من القصص. فهو يقص ولا يحدث. وفي الوقت الذي كان فيه عصر عمر شبه خاليا من رواية الحديث كان هناك قصاص يقصون في المساجد (39) وآخرون يقصون في مقدمة الجيوش الفاتحة (40) ومن المعروف أن القصص نشأ في عهد عمر.
فكعب جاء بسلعة. الساحة في حاجة إليها. وظل كعب يمد الساحة بإنتاجه حتى غمرها. وبعد عهد عمر توسع كعب في عهد عثمان ومن عنده تحول إلى الشام ليكون مستشارا لمعاوية. الذي اتسع القص في أيامه. فكانت هناك طائفة تعرف بالقصاص تفسر القرآن الكريم. وتخرج تفسيرها بقصص كثيرة تستمدها من موروثات أهل الكتب السماوية. وكانوا يستغلون ميل الناس إلى الأخبار العجيبة فيزيدون في قصصهم (41) وكان للأمويين في كل بلد قاص يقص على الناس في المسجد الجامع ويدعو إلى طاعتهم (42) وقد أمر معاوية أن يكون القصر مرتين في اليوم مرة بعد صلاة الصبح ومرة بعد صلاة المغرب وعين للقصاص مرتبات خاصة (43).
وكما فتح عدم رواية الحديث باب القص في المساجد. وترتب على ذلك جريان دماء أهل الكتاب في هذه القصص. كذلك ترتب على عدم رواية الحديث وعلى عدم أخذ علوم القرآن من أهله اتساع دائرة الرأي. يقول الشيخ محمد عبده: (" كان الصحابة إذا رأوا المصلحة في شئ يحكمون به وإن خالف السنة المتبعة لا (44) ويقول الدكتور عبد الحميد متولي: وكان عمر بن الخطاب من أبرز
____________
(39) طبقات ابن سعد: 5 / 341.
(40) أسد الغابة: 5 / 341.
(41) الفن ومذاهبه في النثر العربي د. شوقي ضيف: ص 66.
(42) خطط المقريزي: 2 / 253 عن المصدر السابق.
(43) الولاة والقضاة / للكندي: 304.
(44) علم أصول الفقه / الشيخ خلاف: 301، المنار / رشيد رضا 210 / 4.
شخصيات الصحابة في هذا الباب. فهو لم يقتصر فحسب على الاجتهاد. حيث لا نص من كتاب أو سنة. وإنما ذهب إلى مدى أبعد من ذلك. إذ كان يعمد إلى الاجتهاد. أو بعبارة أخرى: (" استعمال الرأي) ليبحث عن وجه العدالة أو المصلحة حتى رغم وجود نص من الكتاب أو السنة. فكان لذلك لا يفسر النص طبقا لحرفيته. وإنما يفسره طبقا لحكمته. أي طبقا لباطنه ولو أدى هذا التفسير إلى عدم تطبيق النص (45) وقد اتسع مفهوم الرأي وذهب في كل واد بعد عصر عمر. وعندما ظهرت المذاهب والأحزاب. كان كل فريق ينظر إلى النصوص بعين مذهبهم (أي أنهم كانوا لا يرجعون إلى نص القرآن أو الحديث. إلا ليلتمسوا فيه ما يؤيد مذهب إمامهم. ولو أدى ذلك إلى سلوك التعسف في التفسير. ومما يذكر عن أحد علماء الحنفية وهو عبد الله الكرخي المتوفى 340 ه أنه قال: (" كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا - يقصد أتباع المذهب - فهو مؤول أو منسوخ) " (46) واتسعت الدائرة بعد ذلك فيقول الدكتور عبد الحميد متولي: إنه مما لا ريب فيه أن الرسول الذي خاطبه الله في كتابه الكريم بقوله:
(وإنك لعلى خلق عظيم) هو خير قدوة للبشرية. ولكن هذا لا يعني أن المسلمين في كل زمان ومكان ملزمون شرعا أو قانونا بالسير على نهجه واتباعه في جميع ما صدر منه من أقوال وأفعال. حقا لقد قال الله: (! لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ولكن الأسوة أو القدوة كما يقول الإمام ابن حزم مستحبة وليست واجبة. ولو كانت الأسوة أو القدوة واجبة لكان النص: (" لقد كان عليكم) " (47)! وهكذا نشأ الرأي في عصر ما قبل التدوين واستمر بعد التدوين واستقر في أغلب الدول الإسلامية تحت لافتة تقول: (" الإسلام دين الدولة لا مع العلم أن هذا الشعار لا يترتب عليه إلزام الدولة بتطبيق الشريعة. وكما قال البعض. ما هو إلا بمثابة تحية كريمة للعقيدة الدينية التي تدين بها الأغلبية أو بمثابة كفارة تقدمها الدولة لعدم التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية في تشريعاتها.
____________
(45) أزمة الفكر السياسي في الإسلام / د عبد الحميد متولي: ص 148.
(46) أزمة الفكر السياسي في الإسلام / د. عبد الحميد متولي: ص 36.
(47) أزمة الفكر السياسي في الإسلام / د. عبد الحميد متولي: ص 56. 4 - ما أشبه الليلة بالبارحة.
إذا كان كعب الأحبار قد مهد الطريق لوضع الأحاديث واتساع القصص في وقت ثم تضييق الخناق فيه على رواية الحديث. وإذا كان ظهور الرأي نتيجة حتمية لمقدمة لا رواية فيها ولا تأويل. فإن ظهور شعراء النصرانية في الساحة في وقت مبكر من وفاة الرسول كان مقدمة لنتيجة هي كارثة بجميع المقاييس. وشعراء النصرانية بدأوا في التسلل نحو المجتمع الإسلامي على امتداد عصور الفتوحات. وروي أن العديد منهم وفد على عمر بن الخطاب ومنهم حرملة بن المنذر أبو زيد الشاعر قال في الإصابة: كان نصرانيا وكان يزور عمر وعثمان (48) وحرملة بن جابر قال في الإصابة: كان نصرانيا يدخل على عمر (49). والحطيئة الشاعر. قال في الإصابة: أسلم ثم ارتد. كان يقول الشعر. وكعب الأحبار يقول: هذا والله في التوراة. وكان يتردد على عمر (50) وغير هؤلاء الكثير.
وهؤلاء كانوا مقدمة لآخرين جاؤوا في عهد عثمان. وعن هذا العهد يقول الدكتور يوسف خليفة: بدأت الموجة في أول الأمر هادئة. حيث كانت أديرة النصارى المنتشرة في الحيرة النصرانية. تقدم ألوانا هادئة من اللهو. وتهيئ لروادها فرصة هادئة من الشراب (51). ثم اتسعت الموجة. عندما بدأ الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة وأخاه لأمه يشرب الخمر ويستمع إلى الغناء. وروي أنه كان يسمر مع ندمائه ومغنيه من أول الليل إلى الصباح. وأنه كان يؤثر بمنادمته صديقا له من نصارى تغلب هو أبو زبيد الطافي الشاعر. وأنه أنزله دارا على باب المسجد ثم وهبها له. فكان أبو زبيد يخرج من منزله حتى يشق الجامع على الوليد فيسهر عنده ويشرب معه. ثم يخرج فيشق المسجد وهو سكران. وروي أن الوليد صلى بالناس الصبح ذات يوم وهو سكران أربع ركعات. ثم إلتفت إلى الناس وقال.
أزيد كم (52).
____________
(48) الإصابة / ابن حجر: 60 / 2.
(49) الإصابة / ابن حجر: 59 / 2.
(50) الإصابة / ابن حجر: 63 / 2.
(51) حياة الشعر / د. يوسف خليفة: ص 207.
(52) أنظر هذه الأخبار في الأغاني: 5 / 122 - 145، المسعودي. مروج الذهب. -