في عيد ميلاده أنطون سعادة
غسان بو دياب
شخص إستثنائي في زمن إستثنائي في منطقة إستثنائية، ولادته في زمن كان فيه الحديث في الفكرة الوحدوية والقومية شتيمة، واستشهاده في تلك المحاكمة الصورية السياسية، كان شاهداً على إنغلاق العقل السياسي آنذاك على نرجسية الفرد، وعبادة الذات.
إتهم سعادة أنه يحاول تذويب لبنان في وحدة سورية سياسية اعتباطية، كلام نفاه أمام المدعي العام، شارحاً لبنانيته الفردية، ومؤكداً أنه لا يوجد لبناني يمكنه أن يدعي بأنه أكثر لبنانية منه وفي نفس الوقت، دافع شارحاً «فينيقية لبنان» التي تشمل فلسطين وسواحل لبنان حتى شمال اللاذقية، ذاكراً في دفاعه نصوصاً وعبارات من الإنجيل ومنها «فينيقية التي في سورية». كما اتهم بأنه يخطط للإنقلاب العسكري، فنفى ذلك، ورفض التعرض للجيش، وبطبيعة الحال، فقد رد الإتهام بالخيانة والتعامل مع العدو.
كلمة السر قالها له حسني الزعيم في القصر الجمهوري السوري، حينما سلمه للسلطات اللبنانية آنذاك، ممثلة بالأمير فريد شهاب، مدير عام الأمن العام آنذاك، قائلاً له «دبر حالك معه، في حساب بينك وبين الجماعة تفضل وشوف هذا الحساب». آنذاك، تقاطعت مصالح معظم الأفراد والشخصيات على إلغاء سعادة، وحزب سعادة من المعادلة الوطنية والقومية، المدعي العام الذي تولى المحاكمة افتتحها بأبيات من قصيدة لأمرؤ القيس، ومطلعها «بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وايقن أنا لاحقا بقيصر، فقلت له لا تبك عينك انما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا. وختم بالقول: «ان الزرازير لما قام قائمها، توهمت انها صارت شواهينا»، فرد «الزعيم» في دفاعه المشرق» وفي الشواهين جبن وهي طائرة، وفي البزاة شموخ وهي تحتضر.»
بعد مئة وعشر سنوات على ميلاد أنطون سعادة، لا يزال هذا الشخص يجسد شخصية مثيرة للجدل في المجال السياسي اللبناني والعربي، عملياً، حفر سعادة مبادئه في قلوب مناصريه وأصحابه بالنار، فلا إمكانية لأي تراجع، ما جعل من حزبه أحد أكثر الأحزاب عقائدية في لبنان، يضاهي، ولعله يسبق أحياناً، حزب الله، المنطلق من أيديولوجية دينية في المقاربة، علماً أن الجميع يعلم أن لا أيديولوجية دينية في فكر سعادة، بل أيديولوجية سياسية صرفة، وعقيدة حزبية، لم تختلط بالفكر الديني، ما جعل من الحزب أكثر الأحزاب «لا دينية»، وبالتالي، لم يعرف يوم عن حزب لبناني، إلا الحزب السوري القومي، أن تداول على رئاسته أشخاص من كافة الطوائف والمذاهب.
قال سعادة كثيراً، فعل ما استطاع فعله، من جملة ذلك قوله «ضموا سورية إلى لبنان ولا تضموا لبنان إلى سورية»، وقال أيضاً «نحن من الشعب ونعمل في الشعب لأجل الشعب»، وقال: «لا تكن يا رفيقي صعوبة فوق الصعوبات»، وقال «الشخص الآدمي الطيب أُزوِّجُهُ ابنتي، لا أُسلِّمُه مقدّرات البلاد»، وقال «الانضباط لا يحول دون إبداء العواطف السامية والمشاعر النبيلة»، وقال «لا تنتصر النهضة باعتمادها التسوية مع الرجعة»، وقال «الحياة مغامرة، يا رفيقي، والحزب مغامرة بقلب مغامرة» و«حق الإقناع هو حق الاعتناق، و«لا يتفق من معه شيء مع من ليس معه شيئاً»، وقال «مهما بلغت النصوص من بلاغة التعبير فالنفوس وحدها تظل ضمانة كل تشريع»، وقوله أيضاً «ليست حياة الزعيم ضمانة لبقاء النهضة إنما النهضة هي الضمانة للزعيم».
أما من غرر ما قاله سعادة فكان لمن نفذ به حكم الإعدام : «شكراً…ولكن أبقوا عيناي مفتوحتين حتى أرى». وقوله: «يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لأضمد جراح أمتي البالغة»، وقوله: «ليس عارا أن ننكب و لكنه عار اذا كانت النكبات تحولنا من أشخاص أقوياء إلى أشخاص جبناء»، والأخرى: «إن العبد الذليل لا يمكنه ان يمثل امة حرة لأنه يذلها، و«نحن لسنا أمة حقيرة، قليلة العدد، فقيرة الموارد، معدومة الوسائل. نحن أمة قوية عظيمة، قوية بمواهبها، غنية بمواردها، نشيطة بروحها. ولعل أجملها قوله «إذا لم تكونوا انتم أحرارا» من أمة حرة، فحريات الأمم عار عليكم. واقتتالنا على السماء افقدنا الارض.
أنطون سعادة، نفتقدك في زمن عزت فيه الأخلاق، التي دعوت إلى تفعيلها، مع رفاقك كبار رجال الأخلاق في هذا العالم، وأنت من قلت «كل نظام يحتاج إلى الأخلاق. بل أن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى». ولا أعلم لماذا حينما أقرأ لك، يترائى إلي صورة رفيقك في النضال الشهيد كمال جنبلاط أيضاً، في دعوته إلى الثورة الإنسانية، الأخلاق أيها العظماء قد قلت، إن لم نقل فقدت، أصبحت الرجولة تصنف بمعايير الذكورة لا بمعايير العقول، وبما بين الأرجل لا ما بين الأكتاف للأسف، غابت القيم والمبادىء، لصالح الأنوية وأخلاقيات اللاأخلاق. لماذا تنتشر أيديولوجية الكذب والكاذبين، لماذا أيها العظماء؟
لماذا يريدون منا أن نكون أمة حقيرة، قليلة العدد، فقيرة الموارد، معدومة الوسائل.مع أننا كما قلت، أمة قوية عظيمة، قوية بمواهبها، غنية بمواردها، نشيطة بروحها، أقولها وبأعلى صوت، العقل المسيحي المشرقي مطالب بإنجاب أنطون سعادة جديد، خاصة في هذا الزمن العصيب، الحاجة إلى توسيع المساحة الفكرية وتذكير الجميع، أن رواد النهضة العربية، وعذراً للتعبير، كانوا مسيحيين مشرقيين، من اليازجيين إلى البساتنة، إلى غيرهم مروراً طبعاً بعفلق وشيحا وسعادة.
الديار