TODAY - 25 August, 2011
نظرية تأسيس «حزب الشعب» للثوار العرب ـ فائق الشيخ علي
** طُرحت في الملتقى الاعلامي العربي الثامن، الذي انعقد في دولة الكويت بتاريخ الأحد 24 أبريل (نيسان) 2011م، تحت عنوان «الإعلام وقضايا المجتمع» بحضور نخبة من مئات الإعلاميين وصنّاع الرأي العام والسياسيين العرب، في القاعة الماسيّة بفندق الشيراتون الساعة الثامنة مساءً، والذي امتدت أعماله ليومين متتاليين.
المقدمة
نظراً للثورات المتوالية التي يقوم بها شباب العرب في الدول العربية، منذ انطلاقتها في تونس نهاية العام الماضي 2010م وإلى اليوم، حيث يخوض الثوار معارك ضارية مع أنظمة الحكم في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها من البلدان العربية، فقد ظهرت الحاجة ملحة (بعد تحقيق النجاحات في بعض البلدان تونس، مصر) إلى أن الثوار ينقصهم حزب، يجمعهم لتحقيق أهدافهم وغاية ثوراتهم، المتمثلة بإطاحة الأنظمة الديكتاتورية وإقامة البديل الديمقراطي، ذلك على الرغم مما يتمتعون به من قوة تنظيمية رائعة، اقتصر دورها على التحريض والنزول إلى الشوارع والساحات في العواصم والمدن، أعوزها التنظيم الحزبي لاستلام السلطة.إن ما يفعله الثوار العرب اليوم، أشبه بأنهم جعلوا من أنفسهم نذوراً وأضاحي ومشاريع استشهاد وفداء بوجه القمع والإرهاب وقوى الطغيان.. حتى إذا ما حققوا بغيتهم، قدّموا انتاجهم مجاناً وبدون مقابل للآخرين، ممن اتخذوا أدوار المتفرجين، لا بل الانتهازيين ممن ينتظرون نتائج الثورات، ليروا مَنْ المنتصر في نهاية المطاف، كي يقطفوا ثمار نصره بلا مقابل.. هؤلاء إما أن يكونوا أشخاصاً هرمت عقولهم من السياسة النفعية والوصولية، أو أحزاباً ضرب التخلف والجهل والرجعية أطنابه بين مخابئ أفكارها وانشاء طروحاتها.وعليه فإنه يقع على عاتق الثوار العرب ـ لا على غيرهم ـ ممن نهضوا بعبء الثورات، أن يواصلوا مشوارهم للأخير، وأن لا يتكلوا على غيرهم، وأن لا يتركوا ثمار ثوراتهم يجنيها غيرهم.. بل عليهم ـ وهم المنظّمون أصلاً ـ أن ينتظموا في حزب يحقق تطلعاتهم وأهدافهم. أن يضعوا هم بأنفسهم أفكار هذا الحزب وأهدافه وشعاره. أن يترجموا فيه رؤيتهم لعلاقات بلدانهم مع الآخرين، من الإقليم والخارج. أن ينتخبوا من بينهم قيادات ومفكرين من الشباب الأحرار، لا من الملوثين والمحقونين بأبر الأحزاب التقليدية المتخلفة والمتحجرة.لا قيادة من غير حزب، ولا حزب من دون قيادة. وفي جميع الأحوال والحالات لا يجوز إبقاء الأمور فوضى، ولا حتى السماح للآخرين من وصف الثوار بالفوضويين.أما لماذا يجب عليهم أن يؤسسوا حزباً؟ فلأن الدول والشعوب لا تقاد بالتظاهرات ولا بالاعتصامات.. نعم هذه أساليب مؤثرة للضغط على الأنظمة والحكومات، من أجل ارضاخها عند مطلب معين، ولكن ليس لقيادة دول وشعوب وتحقيق تطلعات وإقامة علاقات مع الآخرين.الحزب منهاج تنظيم حياة دول وشعوب. الحزب فكر في ضوء تبلد الفكر العربي وتراجعه وهزيمته. الحزب إبداع من جهة التأثير في استحداث مفاهيم عالمية جديدة، أو من جهة مسايرة المتغيرات الدولية المتسارعة. ليس الحزب ـ كما قدمته الديكتاتوريات ـ استيلاءً على السلطة ومقدرات الشعوب والدول ومصادرة حقوق الآخرين. الحزب مؤسسة تعمل لبناء المؤسسات الأخرى. ليس الحزب هدفه إشاعة فكرة عبادة شخص القائد أو الرئيس أو الزعيم.هذه النظرية تقدم أُسساً، يمكن وصفها بالمتينة لتأسيس حزب. حزب يهتم بالشعب أولاً وأخيراً.. لا بغيره. واسمه المقترح «حزب الشعب» والثوار العرب أحرار في أن يقبلوا الاسم أو يرفضوه، وأن يُلحقوا به اسم الدولة التي ينتمون اليها (العراقي، المصري، التونسي، الليبي، السوري، اليمني... الخ).
شعاره الله ـ الشعب ـ الوطن
وبالتركيز على مفهوم «الشعب» لاعتبار أن الحديث عن «الله» جلّ جلاله و«الوطن» أمر مفروغ منه في شعارات الدول التي شرحتها بما فيه الكفاية، ولا نجد ضرورة إلى تكرارها هنا. فإن «الشعب» في هذه الثلاثية، ليس فقط أزاح القائد أو الملك أو الرئيس وحلّ مكانه، إنما جاء تسلسله ثانياً بعد الله (سبحانه وتعالى) وقبل «الوطن» الذي صار ترتيبه ثالثاً وفق هذه النظرية.هذا هو ما يجب أن يكون عليه الشعار. فبعد الله (عزّ شأنه) يأتي الإنسان وليس الوطن.. بل إن الإنسان أكرم وأسمى عند الله (جلّت قدرته) من السماوات والأرض، وليس من الوطن فقط، الذي لا يشكل إلا جزءاً محدوداً من الأرض، والتي هي بالتالي لا تشكل إلا كوكباً في السماء، والسماء نفسها ما هي إلا واحدة من سبع سماوات طباق.
لا يتوجب على انسان أن يموت من أجل وطن لا يمنحه كرامة أو خبزاً أو سكناً أو رعاية أو ضماناً، هذا فضلاً عن أن يموت من أجل قائد أو زعيم أو رئيس لا يستحق الحياة أصلاً، كونه عدو شعبه ووطنه.والوطن الذي لا يجد فيه الإنسان ما يحفظه ويُبقيه.. على هذا الإنسان أن يركله بقدمه، ويرحل عنه إلى وطن آخر، فالأرض وسيعة ورحبة. أما أولئك الذين ارتضوا لأنفسهم العيش بذُلّ وهوانٍ وامتهانٍ، تحت ظل الديكتاتوريات في بلدانهم، فهو ليس كما يزعمون ـ خطأ
ـ حُباً واعتزازاً بوطنهم، وإنما خوفاً من الغُربة ومفارقة الأهل والأحبة، حيث لا أناس يعرفونهم في وطنهم البديل، وعلى هذا الأساس صار الشعب مقدماً على الوطن. أسس الحزب الديلمانية ـ الإشتمالية ـ القطمية الديلمانية في الحكم:هي جمع لـ «الديني ـ العلماني» ومزاوجة بينهما، وهي تدعو إلى الأخذ بأنصاف المنهج «الديني» و«العلماني». هي ضرورة يحتمها الواقع العربي الذي نعيشه في دولنا. فمجتمعاتنا العربية مسلمة في أغلبها.. ولكن هذه الأغلبية ليست متدينة كلها، ولا مبتعدة عن الدين كلها. بعضها يجد في الدين ضرورة للمحافظة على القيم والأخلاق والتعامل في المجتمع، وبعضها يجد الدين خصوصية شخصية بين المرء وربه، والحياة يجب أن تسير بعيدة عن مظـاهر التدين والمحافظة والتزمت أحياناً.وبعيداً عن هذه الرؤى، فإن ما يهمنا من أساس «الديلمانية» في المجتمع والسياسة، أو الحياة والحكم، هو أن علاقات الأفراد مع بعضهم البعض ـ كمجتمع ـ تنظمها أحكام قوانين، ليست دينية صرفة، ولا علمانية بحتة، إنما هي خلط من الإثنين معاً.
فالإسلام ـ من جانب ـ كدين وشريعة لا يمكن الاستغناء عن أحكامه في شؤون الأحوال الشخصية للمسلمين أو المعاملات أو القانون المدني، لأن غالبية الممتثلين لأحكام القانون هم من المسلمين.. ولهذا يمكن استخدام الشريعة الإسلامية كأحد المصادر، أو حتى كمصدر رئيس لتشريع أحكام القانون.ولكن ـ من جانب آخر ـ لا يمكن فرض أحكام الشريعة الإسلامية على كل مظاهر الحياة في الدول الحرة والمتحررة من الديكتاتوريات، وعلى كل القوانين والأنظمة التي تحكمها، فضلاً عن العلاقات الدولية والإنضمام إلى المنظمات والهيئات الدولية العاملة. إذ لا بد من القبول بالعلمانية التي تحكمها، وإلا لأصبحنا خارج نطاق المجتمع الدولي.
أساس «الديلمانية» يكمن في أنه لا يمكن أسلمة المجتمع العربي، كما لا يمكن علمنته. إنما يجب إشاعة مظاهر الإثنين معاً. فهناك الجامع لمن يريد أن يصلي، وهناك البار لمن يريد أن يشرب، بدلاً من يتعاطى المخدرات. على أن لا يحتك المصلون بالشاربين ولا الشاربون بالمصلين.. كل يحترم الآخر.
الإشتمالية في السياسة:هي إدماج لـ «الإشتراكية ـ الرأسمالية» في السياسة الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعنا، وهي تدعو إلى الأخذ بمبادئ الاشتراكية كنظام اجتماعي، ومبادئ الرأسمالية كنظام اقتصادي.فمن ناحية الحياة الاجتماعية لشعوبنا، على الدولة أن تكفل ـ تشريعاً وتطبيقاً ـ كل الضمانات الاجتماعية للمواطن في دولنا، من حيث:
1. السكن: حتمية اسكان كل عائلة بوحدة سكنية مستقلة (شقة، دار، توزيع قطعة أرض مع مُنحة لبنائها، أو دفع بدل ايجار للعائلة في أقل تقدير.. طبعاً العوائل التي لا تمتلك سكناً).
2. التموين: تجهيز العوائل المحتاجة بضروريات الغذاء (رز، دقيق، زيت، سكر، حليب.. الخ)
.3. البدل النقدي: على الدولة أن تدفع لكل رب عائلة عاطل عن العمل بدلاً نقدياً شهرياً، يعيله وعائلته بكرامة.
4. الضمان الصحي: تكفل الدولة ضماناً صحياً لكل انسان يعيش فيها. وأما من ناحية تقديم الدواء والعلاج للمرضى، فهذا يجب أن يصدر بتشريعات، تحدد مثلاً اللقاحات والفحوصات مجاناً، والدواء والعيادات الخاصة وفقاً لنظام محدد.
5. الضمان التعليمي: مجاني في مراحله كافة، واجباري حتى سن الثامنة عشرة. وأما الجامعات الخاصة فتنظم بقانون.أما من ناحية النظام الاقتصادي الذي يحكم بلداننا، فهو اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، لا تتدخل الدولة فيه، إلا من حيث رقابته، وفرض النظام الضريبي عليه، وجباية الأموال.. ويمكن للدولة أن تقيم مشاريع كبرى في بلدها، من تلك التي لا يستطيع القطاع الخاص أن ينهض بها لوحده، ولكن بطريقة المشاركة معه، لا بالاستحواذ عليه كله. وأما بالنسبة للثورات الكبيرة التي يملكها البلد.. فهي للشعب، ولكن الدولة هي التي تتكفل باستثمارها وادارتها لمصلحة شعبها. خلاصة هذا الأساس هو أن الدولة كافلة وضامنة للإنسان فيها، لا مسخرة له، أو ممتهنة لكرامته، ولعل المبدأ الذي سيظل يحكمه، هو مبدأ العدالة الاجتماعية والعمل على تحقيقها بأمانة.
القُطمية في العلاقات:
ظلت دولنا العربية تعاني على مدى عهود من موضوع انتمائها، لدرجة أضاعت شعوبها معها، ليس تحديد هويتها فقط، وإنما ولائها أيضاً. فتارة نكون قطراً في منظومة، وأخرى منظومة في قطر. ومرة نرتمي طوعاً أو قسراً في أحضان قوى عظمى (الدولة العثمانية، بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة.. الخ) وأخرى ننكفئ وننزوي لنبني دولتنا القطرية المستقلة، فنجد أنفسنا لا نستطيع الصمود والمقاومة أمام الآخرين، فنعود إلى حضن الدولة العربية الواحدة أو القوى العظمى. هذه الإشكالية ولّدت اضطراباً في سياسات دولنا العربية.
القُطمية هي خليط لـ «القطرية» و«القومية» في العلاقات الداخلية والخارجية. فعلى مستوى الداخل علينا أن نبني دولتنا «القطرية» كأبناء دولة واحدة. نتقاسم العيش المشترك، ويقبل أحدنا بالآخر، إذا ما كنا متعددي الطوائف والإثنيات. لا يعتدي أحدنا على الآخر، كي يبرر التدخل الخارجي لحماية المُعتدى عليه. أن لا يستقوي أحدنا بالخارج على ابن الداخل، كي يصادر حقه في الحياة والحرية والكرامة وممارسة حقوقه السياسية والمدنية، فيضعف من ولائه ومواطنته «القطرية». علينا أن نصنع دستورنا «القطري» بأيدينا، نضع فيه كل الكفالات والضمانات لأبناء الشعب الواحد في البلد الواحد. لا أن نستورد الحلول والفكر والزعامات من خارج بلداننا. نقرُّ ما يتلاءم كل مع بلده، ونوزع السلطات والثروات بشكل عادل ومتوازن.على مستوى الخارج أن نقيم أرقى العلاقات وأطيبها مع جوارنا «القومي» لأنه الأقرب إلينا جعرافياً وإثنياً، ولكن ليس عى حساب المكونات الأخرى على الاطلاق. وأن نحل مشاكلنا، والتي هي في أغلبها صراع على الحدود والأرض، وليس موضوعها الشعوب من أجل إسعادها، أو اشمالها بالامتيازات التي تتمتع بها دولة دون أخرى. لا أن نجعل من دولنا العربية ساحة لحرب الجواسيس، واستقطاب الشخصيات لكسبها إلى جانب غير دولها، كي يُستعدى بهم ومن خلالهم على دولهم، كما كان يحصل في ستينات مصر، وثمانينات العراق، أو طوال أربعة عقود من عمر ليبيا.أما في العلاقات مع الخارج، فالأفضل والأقوى للثوار العرب أن يقيموها من خلال جامعة الدول العربية، وليس فرادى.. ولكن متى؟ بعد أن تتم إعادة صياغة مفاهيم الجامعة وسياساتها ومواقفها، التي ظلت منذ تأسيسها وإلى بضعة أسابيع مرت تقف إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية، لتكون ـ وقد بدأت ـ إلى جانب الشعوب العربية وقواها الوطنية.في موضوعة تعامل الدول العربية مع غيرها، والتعاون فيما بينها، لا مجال للاعتراض على ان كل دولة يحكمها نظام يختلف عن الآخر، حيث لا جامع بينها، فمنها اليسار ومنها اليمين، ومنها الديني ومنها العلماني، ومنها الأممي ومنها القومي ومنها الليبرالي.. وهكذا، لأن هذه النظرية موجهة للثوار العرب، الذين أطاحوا ويطيحون أنظمة بلدانهم، ويقيمون بديلهم الديمقراطي الوطني الحر.
الخاتمة
لعل القارى المهتم أو المتخصص سيقول: بأن هذه النظرية مبتسرة جداً، طُرحت بشكل مكثف، حملت من المفاهيم والرؤى ما يحتاج إلى شرح وفير. لا بل سيقول: ربما تفتقر إلى جوانب كثيرة لم تعالجها، ولا حتى تطرقت إليها. وهذا مأخذ صحيح. فالنظرية لم تتطرق مثلاً إلى التنظيم الحزبي، الانتخابات، مصائر أنظمة الحكم السابقة، القوات المسلحة وعقيدتها ومهامها، ولا إلى الأجهزة الأمنية وأدوارها، أو حتى المليشيات أو الأحزاب التي باستطاعتها حمل السلاح، أو هي تسعى إلى حمل السلاح بعد غياب القمع. لم تتطرق إلى الثقافة، إلى التوظيف إلى الإعمار والبناء.. إلى أشياء كثيرة.السبب في كل ما تقدم، هو أنه ليس من شأن هذه الورقة الآن البحث والتوسع في كل هذه الموضوعات، لأن ذلك سيحتاج إلى مجلد كامل، يطرح بشكل تفصيلي ومحدد نظرية «حزب الشعب» ولا أنكر أنني بصدد كتابة هذا المجلد.. ولكن ما أراه ضرورياً في هذه المرحلة، هو تقديم الأسس المركزية لهذه النظرية، ومَن يريد أن يبني عليها، أو يطوّرها، أو حتى ينقضها، فله ذلك، لأنه من الخطأ على شخص يرى نفسه مفكراً، أو مُنظّراً يزعم بأن فكره، أو تنظيره صحيح لا يقبل النقض أو الجدل، بل كل ما عليه أن يطرح ما عنده، ويقول: هذا ما أراه ملائماً ومناسباً لواقعنا في المرحلة الراهنة، ويترك الآخرين أحراراً في قبول، أو رفض ما طرحه.. وهذا هو جل ما أتأمله من هذه الورقة.
فائق الشيخ علي ـ كاتب وباحث عراقي