تمضي الأيّام، تغيب ملامح جرحك، يؤويها الرحيل، يُدثّرها أشلاء الماضي، يُغرقها فرار الحاضر، تستسلم للزحام.. بينما أقطف وحيدة، حزينة ثمار نزف الأحلام وحُرقتي بك أبدا لا تضمّحل وتكبر بي فراشات زهريّة وتتحوّل الأيادي إلى أجنحة خضراء تتراقص، تلتّف حولي، تُمطرني أنغاما، تروي حدائق الروح العطشى، تغمرني باحثة عن منافذ جديدة، تائقة إلى الإعتاق والحرّية…أيّ هرب الآن يا مملكة الوجع؟ لما تُصوّبين سهامك الحارقة فتخترقني، تشطرني نصفين، تلفح وجهي، تلتمع النجوم داخل رأسي وتتّفتح أبواب سرّية أكاد ألمسها، أبواب من شأنها أن تُقلّص صدأ الألم، أن تمنحه قرص تخدير لحين إشعار آخر.. وتهفو النفس سابحة في بحيرة زرقاء صافية، يتموّج الأفق، ويستحيل الشفق الى خيوط أرجوانية..أنا هاربة يا مملكة الوجع، أخاف أن تذبل أزهاري ويعلوها دخان أسود.. لن تعصف رياح الأسى بورودي، سوف أمنحها تربة أخرى، فمع كلّ صورة طفل يموت يتكاثر نواح هذا البجع… هذا البجع الذي سكن عواصفي وأضاء بأعماقي منارة حتّى لا تكسرني الظلمات… واليوم، هناك بجعة جديدة تئّن ، تنتحب، تترّبص بأحزاني، يرتفع صوتها من حنجرتي، تُبعثرني، تدفعني بعيدا عن مملكتي، تُحاصرني وتُغلق أبواب المدينة دوني: “اخرجي، عانقي الأمل، تدّفقي نهرا من العطاء، كفاك منادمة للحزن، للقتامة.. الحياة حلمك، لا تدعي القارب يسير دونك، أمسكي بالمجداف وانطلقي… انطلقي… اغسلي أوجاعك، أسكتي صراخ تلك البجعة البيضاء التّي ما فتئت تتوّجع بداخلك..”أأرحل عن مدينتي؟ أأغادر مملكة الوجع؟ أأركض بدونها سيلا من الرماد وسربا من البجع؟أأتجاوزها؟ أأرتمي لاهثة في دوّار أمكنة أخرى؟ وجوه أولئك الأطفال الجياع الحيارى تُطلق ساقيّ للريح وتدعوني للبحث عن مرافئ بعيدة نائية حيث لا يفيض بي الحنين، حيث أشفى من هدير الانتظار، حيث لا تسكنني أرجوحة الجنون، حيث أدّرب النفس على الاستمرار…لم تعد تنبض الروح بتلك الأماكن التّي زرناها معا، تلك الأماكن التّي سكنّاها يوما فسكنتنا دهرا.. لم تعد الأزقة تنتظرني وتنتظرك، بدت لي سوداء قاتمة أنهكتها الظلمة وافترسها الضجيج..طويلا انتظرتك.. قريبا ظللت.. وبعيدا كنت دوما، تخبّطتُ وحيدة في دائرة ألمي بينما حجبت ملامحك الثائرة عنّي، تُزيل عذاب القلب بالمُضّي قُدُما.. يضيق بك الهواء الذي استنشقناه معا.. ترنو إلى السكينة والاطمئنان، تُلبسني وهج من نار البركان وتمتّد جرحا يسحبني ويكسو مدينتنا الدافئة برائحتك، بوجهك، بهروبك، بصوتك، بشظاياي… فجأة يئّن البجع بداخلي وتهّب في وجهي آلاف الوجوه السمراء: “فكيف من الجوع القاسي الهروب؟ أتمنحينني قطرة ماء؟” يخمد هدير صوتك وتتعطّش أصوات البجع للصراخ: “أسدلي ستار أيّامك الماضية، ها حلمك يُدغدغك ويصنع لك جناحين، أسكتي المارد الساكن الروح وامضي سحابة تروي النفوس، تهطل أملا ونورا، تفتح الدروب، تكسر حواجز الخوف وتمنح البلسم الشافي لكّل تلك الجروح.”لقد ضاقت بنا الشوارع والبساتين يا مملكتي الحزينة.. لك ورودي، اسقيها دمعي ووجعي.. كلّما تبعثرت صور الأطفال أمامي أضحى المرار يملأ حلقي… لقد آن الأوان، آن الأوان لحزم أمتعتي.. في الغد عندما حدّق بي مدير المستشفى متسائلا، ترميه الحيرة حائرا: “لما؟ لما تسافرين إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؟ ما الذي تتمنين الحصول عليه هناك؟”، تمهلّتُ في الإجابة، لم أقوى على البوح بأنّي أصبو إلى إسكات جنون أنين البجع الذي ما انفك يصرخ متوّسلا، متمّزقا، ملحا بأعماقي لكي أقطع كلّ تلك المسافات..