صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 16
الموضوع:

رحلة الى مدينه بابل ومعالمها

الزوار من محركات البحث: 263 المشاهدات : 2295 الردود: 15
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    المشرفين القدامى
    simple beauty
    تاريخ التسجيل: April-2013
    الدولة: الديوانية
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 11,248 المواضيع: 488
    صوتيات: 5 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 3352
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: Lawyer
    أكلتي المفضلة: السمك
    موبايلي: Galaxy A5
    آخر نشاط: 11/June/2018
    مقالات المدونة: 2

    Rose رحلة الى مدينه بابل ومعالمها

    والآن سنبدأ رحلتنا إلى بابل القديمة

    بــــــــــــــابل وسكانها




    كان العديد من الحجاج والتجار والمسافرين يتوجهون في القرن السادس قبل الميلاد إلى عاصمة زمانهم بابل، التي كانت تنتصب في ذروة المجد تحت حكم ملكها النشيط والمحب للبناء نبوخذنصر. كانت المدينة تترآى من بعيد بأسوارها العالية عبر سهول بابل الممتدة. وكان برج المعبد الكبير للآلهة مردوخ ينتصب كعلامة إهتداء للمسافرين. وعندما كان الإنسان يقترب من المدينة من الجهة الشمالية على امتداد الفرات، كان ينبغي عليه قبل كل شيء أن يجتاز الأسوار المنيعة التي بناها الملك لحماية بابل. إنّ نهر الفرات الذي ينبع من جبال أرمينيا كان يتحول في بابل إلى نهر عريض ويخترق المدينة محولا إياها إلى قسمين غير متساويي المساحة وكانت الأسوار المستقيمة تمتد على شكل قائم الزوايا عبر شاطئ النهر. وقبل أن يبلغ المسافر هذه الحصون الدفاعية لبابل، كان عليه أن يجتاز خندقا واسعا وبوابة أحد الأسوار العالية المحصنة التي كانت تشكل في شمال المدينة زاوية حادة إلى أن تبلغ النقطة الجنوبية من بابل وتنتهي مرة أخرى عند النهر. لقد مجد نبوخذنصر نفسه شخصيا في النصوص التي كتبها حول ما أشاده: " لكي لا تصل الهجمات الحربية إلى سور بابل امكور-بيل، حيث أن أحدا من الملوك الأوائل لم يقم بمثله، قمت أنا بوضع سور يحيط بـ 4000 ذراع من الأراضي حول بابل وطوقت الجهة الشرقية من بابل بحصن منيع بحيث لا يمكن الاقتراب منه. لقد حفرت خنادقها وبنيت منحدراتها بالقطران والطابوق. وبنيت على شواطئها أسوارا عالية كالجبال ثمّ أدمجتها ببواباتها. ولكي لا تتمكن مقاصد الشر من تضييق الخناق على جهات بابل، فقد طوقت البلد بفيض من المياه المتلاطمة كأمواج البحار".




    ووراء هذه الأسوار الخارجية كان على المسافر أن يمر ببناية ضخمة على سطح مستو علوها حوالي 18 مترا وقد بنيت على قاعدة من الطابوق. وكانت البناية هي القصر الصيفي للملك. كان الملك قد إختار مكانا جميلا جدا لأيام الصيف، حيث الجو المنعش قرب المياه وظلال النخيل الوارفة على إمتداد الشواطئ. وكانت ضوضاء المدينة التجارية الصاخبة بعيدة عنه، إذ أن المساحات الواسعة الممتدة أمام أسوار المدينة الأصلية نادرا ما كانت مأهولة بالسكان. كانت تستعمل فقط للقنوات والشوارع المؤدية إلى المدينة. وعندما كان المسافر يتبع الطريق المحاذي للنهر، يخفف من خطواته بصورة لا شعورية، ذلك أنه كان ينبهر حين تقع عيناه على الشارع الجميل العالي المزينة جوانبه بالصور الجدارية الزرقاء الصقلية والأبراج العالية. والذي يؤدي إلى إحدى بوابات المدينة. إنّ المشاهد تتملكه الرهبة عند إقترابه من الأماكن التي أوجدت خصيصا لأعياد رأس السنة ومواكب الآلهة التي تصاحبها جماهير الشعب. وكان قد سمى نبوخذنصر هذا الشارع الذي بذل جهوده الخاصة من أجل تجميله وإظهاره بهذا المظهر المتألق بـ " ايبور – شابو" أي " دع العدو لا ينتصر". وكانت البوابة التي تحمل إسم الآلهة عشتار هي البوابة الوحيدة من بين بوابات المدينة الثماني التي زينت بالطابوق المصقول الجميل والصور الجدارية.
    كان الأهالي يحدثون المسافرين عن اشياء غريبة عن الحصون والبوابات المزدوجة للمدينة. إن أي عدو ليس بمستطاعه بلوغ هدفه دون خدعه لاجتياز هذه المواقع، حيث كان بمستطاع الألوف من المدافعين ردّ أي هجوم من على الأبراج والشرفات. قبل كل شيء كان ينبغي إجتياز خندق مائي واسع يليه السور الخارجي المنتصب المسمى (نيمتي- بيل) والذي كان سمكه 3.72 م وكان بين كل 20م ينتصب برج آخر بشكل متقاطع. وفي داخل هذا الحصن كان يقع الحصن الثاني والمسمى (امكور- بيل) الذي كان أعلى من سابقه وله ضعف سمكه. وإلى جانب أبراجه الضخمة المتقاطعة كانت ثمة أبراج جانبية صغيرة. وكان القسم الذي يقع خارجا على الجهة الشرقية من الفرات هو المدينة القديمة. وكان ثمة سور آخر ثالث يقع بين السورين العريضين الممتدين. وبهذا كان على الأعداء أن يجتازوا أربعة أسوار من ضمنها العقبة الخارجية مع العديد من القنوات المائية. إنّ الأسوار العريضة بأبراجها المحصنة كانت تسمح لأكبر عدد من الوحدات العسكرية التي تدافع عن المدينة، أن تتوزع بسرعة وتسيطر على الأماكن الإستراتيجية الحساسة.
    وقد كان معروفا عند سكان بابل أنّ هذه الأسوار لم تكن من عمل الملوك الذين حكموا آنذاك فقط بل إنّ الأسلاف وحتى الآشوريين الذين تسلموا زمام الحكم قد ساهموا في تلك الانجازات. وكان على نبوخذنصر أن يقوم بترميم وتجديد بعض الأقسام، إذ أن العوامل الطبيعية كانت تؤثر فيها بشكل مستمر.
    وعند إعادة البناء والتجديد كانت تظهر نصوص ووثائق عن الأسلاف الذين وضعوا حجر الأساس، الذي كان يعاد وضعه من جديد في أماكنه السابقة تبعا لوصية واضعه الأول. وكانت هذه الوثائق الطينية التي لها أشكال إسطوانية تنقل لنا أسماء الملوك وأعمالهم البنائية العظيمة. وهكذا يسرد والد نبوخذنصر ما يلي عن بناء سور المدينة امكور- بيل: " نبوبولازار، ملك بابل، الذي إختاره بنوومردوخ، هوانا. (ان) امكور- بيل، الحاجز العظيم لبابل الذي إستضعف أمامي، كان قد إنهار. بدأت ببنائه من جديد من أقدم أساس بمساعدة الجيش والبلاد. وطوقت بابل من كل الجهات في وجه الرياح الأربع. وأنشأت ذورته كما كانت عليه في البداية. أيها الحصن تكلم إلى مردوخ، إلى سيدي واعزمالدي".
    وثمة في متناول اليد ما يؤكد بأنّ الملوك كان ينبغي عليهم دوما أن يجددوا ما بناه أسلافهم، إذ أن معظم الأسوار كانت مبنية باللبن الذي يتكون من الطين الممزوج مع التبن والقصب بعد صبه في قالب بسيط من الخشب وتركه في الشمس حتى يجف. وعند تشييد الأبنية الهامة كان يستعمل الطابوق المحروق لتغطية الواجهات الخارجية. وكان البناؤون يستعملون القار لربط طبقات الطابوق بعضها ببعض ثم كانت تغطى بطبقة من الطين. وكان يوضع بعد كل خمس طبقات حصير مصنوع من سيقان القصب ليعطي البناء خاصية المرونة ومنع تسرب الرطوبة. وبالنسبة إلى الملحقات التابعة لقصر نبوخذنصر فقد كان البناؤون يستعملون الجص في تثبيت الطابوق. ولكي تكون الأبنية ثابتة ودائمة البقاء، كان الأساس يمتد كما قال نبوخذنصر "إلى صدر العالم الأسفل" وهذا يعني أن الأساس يمتد عميقا ويثنت بالاسفلت.
    وكان نبوخذنصر يريد بالطبع - ككل ملك- أن تبقى آثاره خالدة إلى الأبد تتعجب منها البشرية على مر الدهور.
    وكما يسرد زوار بابل، فإن شارع الموكب وباب عشتار لم يكونا قد حصنا من قبل الأسوار حسب بل من قبل أبنية أمامية هائلة ذي مواقع دفاعية أيضا وبنيت في جزء واحد عدة ابواب للهجوم تعطي المدافعين أثناء العمليات الحربية إمكانية أنتشار وانطلاق جيدين.
    وعلى الفرات مباشرة، خارج السورين كان يقع الجزء الأكبر لمقاطعة قصر نبوخذنصر مع البرج الذي يحمل نفس الاسم والذي كان الملك قد احاطه بالأبهة والعظمة. وهنا كان يقع ايضا متحف القصر الذي كان يثير دهشة المشاهدين. وكان الملك قد جمع فيه القطع الأثرية من العصور القديمة ومن مختلف المناطق. إن القصر الجنوبي الواقع وراء سور المدينة الذي كان قد بدأ ببنائه نبوبولازار والذي رممه ووسعه فيما بعد نبوخذنصر، كان قد وضع بالدرجة الأولى تحت تصرف مجلس البلاد والإدارة.
    وعندما كان المسافر يترك وراءه باب عشتار، وكان شارع الموكب يؤدي به – مارا بالقصر- وبشكل مستقيم إلى مقاطعة معبد آله بابل الرئيس مردوخ. وهناك كان يقع مركز مدينة بابل والذي كان نقطة جذب وملتقى للكثير من الحجاج والمسافرين الذين كان يدهشهم برج المعبد العالي. ومن هذا المكان كانت المواكب الكبيرة للآلهة تنطلق خارجة، مشيا وبالعربات والقوارب حيث كانت البلاد كلها تساهم في عيد رأس السنة. وكانت مقاطعة المعبد كالقصر تطل باسوارها الطينية العالية على هذا المركز الثقافي لمملكة بابل وهي تثير الدهشة والفضول. وكان المرء لا يسمح له عادة أن يطأ ساحة المعبد إلا للعبادة والقضايا المقدسة وفيما عدا ذلك فإن التواجد فيه كان مقتصرا على الكهنة وسدنة المعبد. تحيط البيوت السكنية التي كانت تزخو بالحركة والحياة بالأسوار التي تعلوها الأبراج. كان بمستطاع الإنسان أن يجد طريقة في بابل بكل سهولة، إذ أنه بخلاف مدن ما بين النهرين الأخرى، كانت بابل قد صممت بشكل واضح يسهل الاشراف والملاحظة عليه وكانت الشوارع المستقيمة تقسم المدينة إلى زوايا قائمة. وهذا التخطيط الجيد للمدينة حال دون أن تتحول المدينة إلى متاهة من الأزقة والدرابين الضيقة. وكانت الشوارع الواسعة تربط البوابات الرئيسية الثماني بمركز المدينة القديمة. وكانت تغطيها عادة أعداد هائلة من القوافل التجارية التي كانت تتوجه يوما إلى بابل.
    وفي أوقات الأعياد الدينية الهامة كان الناس يتوافدون من كافة أنحاء البلاد إلى المدنة التي كان لبنها الطيني سحيقا في القدم وكانوا يلتقون هنا في مدينة البهجة عند برج معبد الآلهة مردوخ.
    وكان لكل حي من الأحياء الأربعة الذي يفصله عن الآخر شارع رئيس اسم معين مثل: "يد السماء" أو "بيت الحياة" وكان ثمة عدد لا يحصى من المعابد الصغيرة التي كانت تجري فيها مراسيم العبادة من قبل سكان ذلك الطرف.
    وكان كهنة معبد مردوخ، ايزانجيلا قد أعدوا دليلا للمدينة ليهتدي به الحجاج والسواح وهو يحتوي على معلومات عن مواقع المعابد والهياكل والطرق القديمة والهامة وبوابات المدينة. وكان يتضمن أيضا 53 معبدا لمختلف الآلهة مع عدد هائل من الغرف الصغيرة خصصت للعبادة، تابعة لمختلف المعابد. ومن ضمن هذه المراكز الصغيرة للعبادة 55 مركزا يتبع مردوخ، السيد الأعلى للآلهة. وكانت ثمة هياكل بسيطة في المعابد والشوارع والساحات العامة، أعدت لتقديم القرابين من قبل السكان مباشرة. وكان من الممكن تكريم كل من آلهة الحب عشتار وآلهة الطقس اداد الطاعون تركال، في أكثر من 360 هيكلا. وكانت آلهة العالم الأعلى – والأسفل تحتاج أيضا إلى تكريم عظيم من قبل السكان، حيث كان ذلك يجري في أكثر من 900 مركز للعبادة.








    لم تكن الأماكن التي كانت تحيط بمقاطعة معبد مردوخ نقطة إلتقاء دينية حسب، بل كانت ثمة أمام بوابات المعبد المقدس أسواق المدينة الكبيرة التي كانت تحتوي على أنواع البضائع من أنحاء العالم وتسود هناك الحركة والضجيج والغبار، وثمة خليط من روائح أنواع البضائع والمأكولات والتوابل. وفي المخازن الصغيرة أو المفتوحة في الهواء الطلق، حيث حجبت الشمس بقطعة من القماش، كان الباعة ينادون بأصواتهم العالية على بضائعهم.




    لم يستطع المركز التجاري النامي للدولة البابلية أن يكتفي بأحد جانبي الفرات، لذا إمتد إلى الجانب الآخر الذي راح يتوسع أيضا وبسرعة. وكانت تربطه بالعالم الخارجي بوابتان محصنتان وباب صغير آخر، وكان بمقدور المرء أن ينتقل من المدينة القديمة إلى الجانب الآخر عبر جسر معروف. وحكي للغرباء بأن نبوبولازار هو الذي أسّسه وأن نبوخذنصر قد جدده ليس غير. وبهذا يكون قد قطع النهر لأول مرة في التاريخ بجسر حجري. وكان الجسر يقوم على ثمانية أعمدة بنيت من اللبن المطمور في الاسفلت على شكل سفينة، عرض كل عمود تسعة أمتار. وكانت الأعمدة قد ثبتت بشكل خاص بألواح حجرية ضخمة كانت تشكل قاعدة لألواح الممر. وكان الجسر يقطع مسافة طولها 123 مترا. وفي الليل كان يرفع قسم من الألواح حتى تتمكن الأعداد الهائلة من السفن العبور بصواريها العالية. وكان ثمة في داخل المدينة عدد من الأرصفة والمراسي، حيث تفرغ وتشحن السفن بمختلف البضائع. وكانت المدينة الجديدة تحتوي بالدرجة الأولى على الأحياء السكنية وكذلك على مجموعة من المعابد ومراكز العبادة الصغيرة والهياكل. وكانت قناة المدينة الجديدة تتفرع من الفرات وتلتقي بالقناة الرئيسية حول المدينة، تقسم قطاع الجانب الآخر بدورها مرة أخرى إلى قسمين غير متساويين. وفي الجنوب الغربي من المدينة الجديدة - خارج أسوار المدينة، كانت تقع أماكن الدفن الواسعة والمسماة " في داخله بعث الأفول".
    تحيط ببابل – باستثناء الجهة الشمالية من المدينة القديمة- مجموعة من البيوت السكنية التي كان سكانها يستغنون عن أسوار المدينة المحصنة، كان أولئك يضطرون إلى إخلاء مساكنهم والاحتماء بالمدينة خلال هجمات العدو. وكان أهل بابل ينظرون باستعلاء إلى هؤلاء الناس الذين يسكنون أمام البوابات وعلى الأراضي المنبسطة وراء الأسوار.
    كان البابليون يعتقدون أن مدينتهم تقع في مركز العالم وهكذا صورت التعاليم البابلية الأرض كدائرة على الخريطة. وإذا كان بإمكانهم إلقاء نظرة على التاريخ، لعلموا بأن مدينتهم لم تكن تملك الدور القيادي في البدء، ولم تنتم إلى مواقع السكن السحيقة في القدم. إن موقع بابل كان قد سكن منذ عصور ما قبل التاريخ ولكن مراكز الحضارة البشرية الراقية كانت تقع في أعماق الجنوب من البلاد، حيث كان يسكن السومريون – الذين يحتمل أنهم قد نزحوا من الجهة الشرقية- على ضفاف الرافدين العظيمين دجلة والفرات. وكان نظام دويلات المدن هو السائد. كان الحاكم – الذي هو رئيس للكهنة في الوقت نفسه – يقود الدولة دينيا وسياسيا واقتصاديا. وكانت هذه الدويلات نتيجة تنظيماتها العالية في مجال الارواء الذي كان أساسا للزارعة وتربية الحيوان، قد بلغت شأنا من القوة والأهمية. وفي جنوب وادي الرافدين بدأت اريدو، أور، نيبور، كيش ولكش تظهر كمراكز للقوة. ومع التطور الاقتصادي عاشت المدن السومرية نهضة حضارية ذات أهمية كبيرة جعلتها مهد البشرية، ففي حوالي بداية الألف الثالث قبل الميلاد كانت قد إنتصبت في هذه المدن أبنية ضخمة تجري فيها مراسيم العبادة للآلهة السومريين. ولقد اصبحت الكتابة السومرية – التي إقتضاها تعدد مناحي الحياة الاقتصادية – أول كتابة للبشرية. ووجدت أيضا صناعة الفخار والأختام الاسطوانية طريقها من هناك إلى جميع أنحاء العالم.
    إن ثروة البلاد المتحضرة على الفرات ودجلة وكذلك توفر أسباب الحياة الجيدة للناس قد اثرت تأثيرا كبيرا في جذب القبائل التي كانت تحاذي المناطق السهلية الغربية والمناطق الجبلية الشرقية. وعلى ذلك اخذت هذه القبائل بالنزوح إلى وادي الرافدين سواء أكان ذلك بشكل سلمي أم بشكل هجمات حربية. وقد أدى طموح التوسع لدويلات المدن إلى منازعات مسلحة، وعبر هذه المنازعات كانت تنشأ دولا كبيرة، ولكن قصيرة العمر.


    وعبر التخطيط الاقتصادي الجيد والنشاط التجاري والحروب الناجحة جمعت مدن مثل أور ثروات هائلة بين أسوارها وتشهد على ذلك الكنوز التي وجدت مدفونة في قبور الملوك من ذهب ومعادن نفيسة وأحجار كريمة. وقد وضع الأكد الذين احتلوا البلاد حوالي 2350 نهاية قاسية لدويلات المدن هذه. وبمجيئهم إستلم الساميون الذين كانوا يعيشون جنبا إلى جنب مع السومريون، الحكم السياسي لأول مرة. إنّ إنجازات الحضارة السومرية في الواقع راح يمتصها الاكديون مع الاعتناء بها وتطويرها بشكل ابعد. ولقد إستطاع الحكام، عبر الحروب الواسعة أن يمدوا حدود مملكتهم أبعد فأبعد.


    الصور المرفقة








    __________________

    وتحت ظل حكم (سرجون) الذي كان يوجه البلاد من عاصمته أكد، كانت الدولة تتضمن من الشمال آشور ومن الشرق عيلام وكانت جيوشه المنتصرة تطل على البحر الأبيض المتوسط. وبهذا كان سرجون (ملك جهات العالم الأربع) و (مؤسس أول إمبراطورية عظمى في عالم الشرق القديم)، ولكن الدولة راحت تفقد بالتدريج أهميتها تحت حكم أخلافه. وعبر الحروب المتوالية ضعف الحكم وسار في طريق الزوال ولاسيما بعد الضربات التي تلقاها من قبائل الكوتيين الذين جاؤوا من جبال زاكروس. وبقي هؤلاء الغزاة البرابرة يحكمون بلاد ما بين النهرين فترة طويلة. ولقد هدموا وحرقوا العديد من المدن. إلا أن الحضارة السومرية لم تكتب لها الابادة. وقد حاولت بعض دويلات المدن أن تهز حكم الكوتيين. وحوالي 2100 بات في حكم الانتهاء طرد وحوش الجبال تحت قيادة أوتوشيكال من أوروك. وانتعشت الحياة من جديد في لكش تحت حكم الأمير كوديا المحب للعمران وبدأت الحضارة السومرية تزدهر من جديد. وراح أور نامو وسلالته ينشئان الأعمال البنائية في أور والمدن السومرية الأخرى، تلك الأعمال التي بقيت شواهد خالدة لمنجزاتهم.
    إن غزو الجماعات الكبيرة من المهاجرين الساميين قد غيّر الأوضاع في جنوب بلاد الرافدين بشكل جذري. وهنا يكون قد إنتهى عهد دويلات المدن السومرية واختفت السومرية من مسرح التاريخ. وظهرت أسماء لحكام جدد ومدن جديدة راحت تقرر مصير البلاد. ماري، آشور وبابل، وهكذا سميت مراكز الحكم الجديدة. وبين هذه المراكز كانت المنازعات العديدة والقوة هما اللتان تقرران الاحقية في التسلط.
    عندما حطّ سومر – أبوم، شيخ إحدى القبائل الرحل عصا الترحال في مدينة بابل التي كانت حتى ذلك اليوم غير معروفة، سمع للمدينة أن تحمل إسمها القديم بابيلا، إذ أن النازحين الجدد فسروه بـ "باب ايليم" أي (باب الله) ومن هذا الاسم أخذ الاغريق لفظة (بابلون) الذي ما زال يستعمل حتى يومنا هذا. إن الترجمة الأولى النابعة من اللغة السومرية هي
    وتعني (باب الله).KA-DINGIR-RA
    كان سومر- أبوم هو مؤسس إحدى السلالات التي قادت بابل إلى ذروة الحكم وأرادت أن تجعل من بابل إحدى مدن الشرق الهامة. لقد كرس نفسه قبل كل شيء لبناء الأسوار للمدينة وقد جعل أخلاقه ذلك نصب أعينهم. وأما النهضة الحقيقية لبابل فقد بدأت في الواقع في عهد حمورابي، الذي يعتبر من الشخصيات الرئيسية الحاكمة في تاريخ بلاد الرافدين الطويل. كانت مقدرته هائلة وسياسته بعيدة النظر وقد إعتمد على سياسة التحالف والعهود ومعاهدات المساعدة المتبادلة والوعيد أيضا. كانت لهذه السياسة الفضل الأكبر في نهضة بابل السريعة. وبعد ضمّ العديد من الامارات التي كانت تتنازع مع بابل ركز حمورابي غهتمامه على المركز التجاري المزدهر الواقع على نهر الفرات وهو مدينة ماري "التي كانت حجر عثرة أمام طموحه السياسي". لقد أزاح حليفه السابف زيمير يليم وبعد إنتفاضة فاشلة تمت تصفيته وتدمير عاصمته ماري. واضطر الملوك الآشوريون أيضا إلى الاعتراف لحكم حمورابي والرضوخ له. وبذلك أصبح حمورابي حاكما على البلاد من الخليج إلى الجبال الآشورية لا ينازعه في ذلك منازع. وقد أعقبت حروبه وفتوحاته العديدة حقبة طويلة من اليلم والازدهار، إستطاع خلالها حورابي أن يوطّد أركان دولته. وقد وجه إهتمامه بالدرجة الأولى إلى غزدهار الزراعة وشق القنوات والري وكذلك الاهتمام بالتجارة وطرق المواصلات. وبهذه الطريقة إستطاع أن ينجز لمواطنيه حياة الطمأنينة والعدالة وقد عبّر عن مساعيه في مقدمة قوانينه الشاملة.
    إن جهود حمورابي لم تقتصر على كتابة وتدوين المواثيق الرسمية والقوانين، بل إنه كان يساهم شخصيا وبنشاط في حل المشاكل التي كانت تعترض طريق إدارة البلاد. ولقد كان حمورابي ينبه في رسائله الموظفين المهملين ويذكرهم بالاهتمام بواجباتهم وكان يهتم بمواصلة البناء والعمران والمحافظة على المعابد وكذلك الاستماع إلى شكاوي الناس. وكذلك الاستماع إلى شكاوي الناس. وكانت رسائله العديدة إلى أعوانه في أنحاء البلاد تحتوي على إرشاداته حتى في صغائر الأمور: " قل إلى سين – ادينام هكذا يقول حمورابي: فور إستلامك رسالتي هذه، دع جميع المشرفين على بيوت الآلهة وكذلك وارد – شماش، ابن ايريبام، راعي بيت الاله شماش والخاضع لك، يأتوا إليك بكامل حساباتهم، ثم ارسلهم لي في بابل، لكي يتم الاطلاع على حساباتهم. وعليهم أن يسيروا ليلا ونهار حتى يستطيعوا الوصول إلى بابل خلال يومين".
    لم تكن لأخلاف حمورابي قابلية إدارة دفة الحكم كما كان عليه في عهد الملك العظيم لذلك كانت البلاد تسودها القلاقل والاضطرابات. وقد أدت الانتفاضات التي قام بها بعض الأمراء إلى إنهيار ملحوظ لقوة بابل. وفي حوالي 1530 ق.م. غزت الجماعات الحيثية القادمة من أواسط آسيا الصغرى، بابل بشكل مفاجئ تحت قيادة ملكها مورشيلي فأسقطوا الدولة البابلية بشكل تام. وأحرقت بابل وصودرت كنوزها الثمينة التي أصبحت عبر هذا الاضطراب لقمة سائغة للمحتلين الجدد. وكذلك تمكن الكاشيون من ترسيخ حكمهم في بابل تحت قيادة رئيسهم اكوم- مامريمه وراحوا يحكمونها مدة 350 عاما وفقدت البلاد الكثير من أهميتها، إذ أن مركز الثقل السياسي قد إنتقل اثناء هذه الفترة إلى دولة الحيثيين في الأناضول والدولة الميتانية على الفرات الأعلى وإلى الدولة الآشورية التي راحت تسير رويدا رويدا في طريق العظمة. وراح هؤلاء يقفون جنبا إلى جنب مع المصريين الذين بسطوا حكمهم على سوريا وفلسطين واستطاعت بابل أن تلعب بين هذه المجموعة من القوى الكبرى دورا صغيرا فقط، رغم أنها كانت قد إعتبرت في الدستور الرسمي كدولة مساوية لتلك القوى. وقد إزدهرت في تلك الفترة المراسلات الدبلوماسية التي كانت تجري بالخط المسماري بين البيوت الملكية ولم تكن محتويات تلك الرسائل تشمل المسائل السياسية حسب، لإنما إشتملت أيضا قضايا شخصية بحتة. وهكذا يقترح الملك البابلي كاداشمان- كاربه على الفرعون امينوفيس الثالث الزواج من ابنته وكتب يقول: "إنظر: إذا أنت يا أخي لا تعطيني إبنتك لأتزوجها وتكتب لي أنه منذ اقدم الأزمان لم تعط بنت ملك مصري لأحد، لماذا تقول هكذا؟ إذ أنك ملك وتستطيع أن تفعل ما تشاء، فلما بلغتني كلماتك كتبت إلى اخي أن عندك بنتا كبيرة، كذلك هنا نساء جميلات أرسل لي حسب إختيارك أي إمرأة جميلة. من يستطيع أن يقول هنا انها ليست بنت ملك؟".
    وقد إهتم أخلاف كاداشمان – كاريس أيضا إهتماما كبيرا بتبادل الرسائل والهدايا مع الفراعنة وكان البابليون يبغون قبل كل شيء الحصول على الذهب وكانوا يعتقدون أن الذهب في مصر متوفر (كالتراب). وهكذا جاء في رسالة إلى أمينوفيس الرابع أخناتون ما يلي: إلى نيبخور أوربا، ملك مصر يتكلم أخوك بورنابورياش ملك كاردولياش (بابل): " أنا في صحة جيدة، أتمنى لك، لبيتك، لزوجاتك، لأطفالك، لبلادك، لكبارك، لخيولك، لعرباتك أعلى درجات الرفاهية. منذ أن تكلم أبي وأبوك مع بعضهما حول الصداقة الوثيقة تبادلا الهدايا الجميلة، وإذا كان احدهما يتمنى شيئا فإن الآخر لم يرفض طلبه الآن فقد ارسل لي اخي فقط قطعتين من الذهب كهدية وحيث أن الذهب متوفر بكثرة فأرسل لي كميات كبيرة كما كان يفعله ووالدك أما إذا كان الذهب قليلا فأرسل نصف ما كان يرسله والدك. لماذا أرسلت قطعتين من الذهب فقط؟ إن عملي في المعبد كثير وقد تصدرته بنشاط فأرسل ذهبا كثيرا. وأنت ايضا إكتب ما تحتاجه من بلادي دوما حتى يتم إرساله إليك".
    لقد كان بمستطاع المرء أيضا أن يطلع على موضع الدولة البابلية بين القوى الكبرى عبر العلاقات السياسية المتبادلة الائتلافات في الشرق الأدنى.
    وكان البابليون يحاولون دوما من خلال عقد المواثيق مع الدول القوية ضمان امنهم الخاص. وهكذا سرعان ما اظهروا ميلاً كما دخلوا أيضا في تحالفات مع الحيثيين. إلا أن هذه العلاقات كانت على الأغلب لا تدوم لفترة طويلة. ففي النصف الثاني من القرن الرابع عشر بدأت الصراعات المسلحة الكبيرة بين بابل وآشور. وعندما يستلم الحكم في آشور ملك قوي، يكون الوفاق بين الدولتين ملغيا أو منتهيا. وقد كتب توكولتي – نينورتا الأول الذي وجه ضربته إلى بابل وأسر الملكو الكاشيين في تقاريره الخاصة ما يلي:
    " بعون سادتي آشور وأنليل وشماش والآلهة العظمى، وعشتار ربة السماء بعون كل أولئك الذين كانوا يسيرون في مقدمة جيوشي. إصطدمت بكاشتيليا ملك بلاد الكاردونياش (بابل) وتقاتلنا مع بعض. ولقد تمكنت من إلحاق الهزيمة وأرديت محاربيه صرعى على الأرض. وفي هذا القتال إستطعت أن أقهر كاشتيلياش، ووضعت قدمي على قفاه كما لو اضعها على مسند، وجلبته أسيرا إلى آشور، ربي، واحتللت بلاد سومر وبلاد الأكديين بكامل حدودها. ووضعت إشارة حدود بلادي على البحر السفلي لشروق الشمس"
    ولم يكن هذا كل ما فعله، فبعد عام وبعد محاولة الانتفاضة التي قامت بها بابل، عاد توكولتي – نبنورتا بجيشه القوي:
    هدم أسوار بابل، وضرب سكانها بالسلاح وتجاسر على ممتلكات أيزانجيلا وبابل بمصادرتها، وانتزع الآله الكبير مردوخ من مكانه العالي وأخذه إلى آشور. ونصب ولاته في بلاد الكاردونياش.
    وخضعت بابل إلى الحكم الآشوري بشكل تام، إلا أنها لم تنهزم إلى الأبد، إذ بعد مقتل توكولتي- نينورتا الأول إستطاعت بابل أن تستقل. وكان ثمّة عدو آخر يتربص ببابل عبر الحدود الشرقية وهو (بلاد العيلام)- التي إستغلت ضعف بابل المؤقت فغزتها عدة مرات. وفي 1160 تمكن العيلاميون من طرد الكاشيين وبذلك إختفى هؤلاء نهائيا من تاريخ بلاد الرافدين وقد ألحق العيلاميون ببابل أثناء هجماتهم خسائر فادحة أيضا، وصودرت البقية الباقية من النفائس وأرسلت إلى عيلام. ومن ضمن ما صودر مسلة قوانين الملك حمورابي الشهيرة التي جلبت إلى العاصمة سوسا كذكرى للنصر.
    وبهذا التبدل الدائمي لميزان القوى، كان الوضع السياسي يتبدل أيضا في بابل. لقد كانت قوة وأمن الدولة يتعلقان بشكل مباشر بقوة وإخلاص حكامها. لذا تكاد فترات التطور السلمية الطويلة الأمد تكون منعدمة وبعد الانهيار العنيف تمكنت بابل أن تنتعش مرة اخرى وبسرعة وتكسب أهمياتها عبر وعي وطني تحت قيادة حكامها الساميين وقد إستغل البابليون الاضطرابات الموجودة في آشور لبسط حكمهم في تخومها.وأصبحوا هم وحدهم الذين يبتون في مصير سياسة الشرق الأوسط طوال خمسين عاما. وأعيد نصب الآله مردوخ – الذي أخذه في حينه توكولتي- نينورتا الأول- مرة أخرى في بابل.
    إنّ التاريخ البعيد لبابل هو تاريخ الحرب، إذ أن الحروب المستمرة مع الآشوريين لم تؤد إلى نتيجة نهائية. لقد إحتل تيكلا تبلزار الأول ملك آشور مرة أخرى بابل، وهدم القصور الملكية فقط وأخضع المدينة إلى حكمه. ولكن خطرا جديدا راح يهدد البلدين المتخاصمين، إذ أن الآراميين أخذوا يزحفون حوالي نهاية الألف الثاني قبل الميلاد باتجاه الحدود البابلية والآشورية قادمين من مناطق سوريا وأعالي الرافدين- التي كانت قد احتلت فيما مضى من قبلها- وقد توغلوا داخل الحدود البابلية والآشورية وكان هؤلاء من القبائل السامية الرحل التي قدمت من السهول الصحراوية إلى البلاد الخصبة على النهرين. ولقد تمكن الآشوريون من أن يصدوا هذه الهجمات، إلا أن البابليين لم يصمدوا أمامها. وحوالي 1050 ق.م. جلس ملك آرامي على عرش بابل. وأصبح الآراميون هم الذين يقررون مصائر بابل وسكانها.
    وفي حوالي نهاية القرن العاشر ق.م. بدأت في آشور تحت قيادة ملوك أقوياء نهضة الامبراطورية العسكرية التي بثت الرعب نيف وثلاثمائة عام في الشرق الأدنى.
    كان مبدأ القيادة الآشورية العسكرية هو الحرب بلا هوادة ضد جميع الأعداء. وكان السكان العزل يهاجرون من مناطقهم ويُبادون، وكانت المناطق المحتلة تُخرّب وتُنهب. لقد إحتل أداد نير اري الثاني 909-889 ق.م. بابل علما أنه ألبقاها على ما كانت عليه من مركز ثقافي وديني. إنّ الإعتراف بالسلطة الآشورية كان يكفي واستطاع بعض الملوك أن يواصلوا حكمهم في بابل.
    ولقد إهتم الفاتح العظيم آشور ناصر بال الثاني بمدينة العبادة التاريخية المعروفة. وحتى أن إبنه سلمانصار الثالث قد إتخذ في بيته كنّة بابلية اسمها شامورامات التي لعبت دورا هاما في سياسة الدولة الآشورية. وقد قادت أمور الدولة بالنيابة عن إبنها القاصر أداد نيرارى الثالث لمدة أربع سنوات وبنجاح كبير. كان هذا عملا ملحوظا بالنسبة إلى غمرأة آشورية لا تتمتع تقريبا بكامل حقوقها. وقد تحولت فيما بعد إلى اسطورة نسبت إليها مختلف الأعمال المدهشة تحت إسم سمير أميس. وكانت الامبراطورة الآشورية مشغولة باستمرار بالحروب التي لا تحصى وذلك لتثبيت حكمها وتوسيعه. ولقد حاولت بمختلف الوسائل كسب ولاء البابليين حتى تتمكن على الأقل تأمين الحدود الجنوبية للبلاد؟ وقد إتبع مؤسس الامبراطورية الآشورية العظمى تيكاتلبزار الثالث 743- 727 ق.م. عند إستلامه الحكم في بابل وآشور، سياسة حكيمة، إذ أنه اعترف بالآلهة البابليين وقرر أن تقام لها مراسيم العبادة الرسمية. وفي معبد ايزانجيلا أمسك بيد الآلهة مردوخ. وكملك بابل حكمها باسم بولو. وبهذه الوسيلة إستطاع أن يضع لنفسه بكل فخر اللقب التالي: " تيكلاتبلزار، الملك العظيم الملك القوي، ملك الجميع ملك آشور، ملك بابل، ملك سومر واكد، ملك جهات العالم الأربع " ولقد إتبع أخلافه نفس السياسة أيضا. إلا أن الأمراء الآراميين كانوا يسعون دوما من أجل التربع على العرش البابلي وقد إضطر سرجون الثاني الذي إغتصب العرش اآشوري أم يحرك جيوشه عدة مرات ضد الأمراء الآراميين في بابل إلى أن تم له أخيرا طردهم. واحتراما للآلهة البابليين قدّم القرابين للاله مردوخ وقام بحركة عمرانية واسعة في بابل وفي المدن الأخرى في جنوب البلاد.
    كان إبن سرجون، سنحاريب شخصية لامعة وهو إلى جانب تحمسه للبناء والعمران والاهتمام بالتجديد التكنيكي والفني، كان محربا شديدا ينشر الرعب بحروب النهب التي كان يقودها. كان قد بنى قصره في نينوى لـ " مثار دهشة كافة الشعوي" وكان يحمل اسم (لا نظير له). وقد بدأت المنازعات خلال هذه الفترة في بابل مرة أخرى من قبل الأمراء الىرميين على الحكم وذلك بمساعدة العيلاميين. واضطر سنحاريب مرة أخرى أن يهاجمهذا الائتلاف ويقود جيشه لضرب العيلاميين، وبعد سنوات طويلة من الحروب الحامية، زحف سنحاريب علم 689 إلى بابل واحتلها. ويقول في تمجيد أعماله:
    " باجسادهم ملأت ساحات المدينة الواسعة. واخذت شوتسوبو ملك بابل مع افراد عائلته وأشرافها إلى بلادي. ووزعت ثروات هذه المدينة من الفضة والذهب والمجوهرات وكل الممتلكات والأموال على أبناء قومي،فجعلوها أموالهم الخاصة. وكانت الآلهة التي تسكن هناك قد إمتدت إليها أيدي قومي فحطمتها وأخذوا ممتلكاتها. لقد هدمت المدينة وبيوتها من أساسها إلى جدرانها. لقد حرقتها بالنار وجعلتها قاعا صفصفا. لقد ألقيت بأسوار المدينة والأسوار الخارجية والمعبد والآلهة وبرج المعبد المبني من اللبن والطين وكا ما هنالك، لقد هدمت كل ذلك وألقيته في قناة أرآشتو. وحفرت في منتصف المدينة قنوات سلطت عليها المياه. لقد صنعت خرابا هو أسوأ مما يفعله الفيضان، حتى لا يبقى في الأيام المقبلة ذكر لآثار هذه المدينة ومعابدها وآلهتها. لقد خربتها بفيض من المياه وجعلتها مساوية مع الأرض" وجلب إلى آشور نصب الآله مردوخ وقرينته حيث بقيا هناك لفترة طويلة.
    لقد كان ذلك أسوأ مصير عاشته بابل، في تاريخها الذي استمر قرون عدة. واستطاعت أن تعيد نفسها من جديد بعد تلك المحنة بصعوبة كبيرة. كما وأن سنحاريب قد نال عقابه الشديد على ما فعلته يداه. وقد جاء ذلك في أحد النصوص التي كتبت فيما بعد:
    " إم ملك سورى (أي آشور) الذي ألحق السوء بالبلاد، قد قتل – نتيجة غضب مردوخ- على يد إبنه بالذات، بقوة السلاح". إن الملك إذن قد قتل على يد ابنه اسرحدون الذي إستلم العرش. وكانت آراء وميول اسرحدون تقف بالضد عما كان عليه والده. وقد حاول بمختلف الوسائل أن يعيد الحق إلى نصابه بالنسبة لما جرى لبابل من الأهوال. وقد بنى أسوار المدينة من جديد وبدأ بناء ايزانجيلا وايتيمينانكي – معبد مردوخ وبرج المعبد- وجهز المعبد بالقرابين والكنوز وحاول أن يجعل الحياة طبيعية في المعبد. وحاول أن يعيد بناء المباني المهدمة من جديد في المدن البابلية الأخرى مثل نيبور واوروك. وتحت حكم اسرحدون تمكنت الإمبراطورية الآشورية من التوسع، حيث إستطاعت أن تضم إلى حدودها حتى أجزاء كبيرة من مصر. ونتيجة التوسع المترامي الأطراف للامبراطورية الآشورية أصبحت الدولة غير موحدة الأجزاء. وكان من الصعب توجيه أمورها من آشور، ولذلك كانت الحروب المستمرة ضرورية لاخماد حركات المدن والشعوب وإخضاعها من جديد، ولهذا السبب أرهقت الامبراطورية الآشورية قواها وأعدت حتمية إنهيارها بنفسها. ولقد عاشت ذروة مجدها الأخير تحت حكم إبن اسرحدون، آشور بانييال. ولقد تميّز هذا الملك القدير بسياسته القوية وكذلك باهتماماته الفنية. وقد جهز كأسلافه قصورة في نينوى بأعداد هائلة من المنحوتات الجدارية الضخمة. وبإرادة اسرحدون تم تقسيم الحكم بين كل من أشور بانييال وأخيه شام-شوم-أوكين، إذ أن الأخير قد اصبح ملكا على بابل. وقد إستمر هذا التقسيم في الواقع لبضع سنوات فقط، دخل بعدها شام-شوم-أوكين في حلف قوي مع الدولة الآرامية ضد الملك الآشوري طامحا في توحيد الحكم وقيادته بمفرده. وقد أرغم عمله الخطير هذا آشور بانييال على تحشيد جيوشه ضد بابل. ( ينطلق من فمه الكلام الحسن، وفي قلبه تكمن الفتنة. إن البابليين الذين كانوا أكثر عددا من الآشوريين والذين كانوا من رعاياي المخلصين، إستطاع أن يبعدهم عني بكلماته المهيجة). هكذا قال آشور بانييال عن أخيه وأضاف:
    (لقد استدعيت جيشي لحملتي السادسة، واتجهت في طريقي إلى شم –شوم-أوكين. في سباروبورسيا وكوتا وبابل. حاصرته شخصيا مع محاربيه واحتللت منافذ المدن وصرعتهم في المدينة والسهول بلا حساب. والبقية الباقية هلكها إله الطاعون والعوز والجوع مؤديا بها إلى النهاية المحتومة... آشور وسين وشماش واداد وبيل ونابو وعشتار ونينوى وآلهة سماء كيتورى وعشتار اربيلا وادار ونير كال نوسكو، كل هؤلاء الذين ساروا في المقدمة قد هزموا أعدائي وألقوا بشام-شوم-أوكين أخي المعادي الذي خاصمني في النار الحامية وأنهوا حياته) وأبقى الملك على حياة المواطنين وحاول عبر البناء والترميم والحركة العمرانية الجديدة مساعدة مدينة بابل التي طالما إمتدت إليها يد الخراب. وبعد وفاة هذا الملك العظيم والأخير راحت الامبراطورية الآشورية تسير بخطوات هائلة في طريق الأفول، ففي كافة أنحاء الامبراطورية بدأت الانتفاضات والحركات ضد الحكم الآشوري وفي مقدمة ذلك القبائل الميدية التي راحت تترسخ في القسم الفارسي. وشكل الكيمريون خطرا كبيرا ضد آشور التي إستنزفت طاقاتها فلم تستطع بعد صد هذه الانتفاضات والتمردات. وفي هذه الفترة حدثت بعض الانقلابات في بابل وبعد مرور فترة تمكن الىرميون تحت زعامة نبوبولازار إستلام الحكم ولقد استطاع هذا الآرامي غستغلال الوضع المتردي في آشور فاستقل وراح بدوره يتوجه بجيشه ضد العدو التقليدي القديم آشور التي كانت قد بلغت الحضيض لقد تحالف نبوبولازار مع الميديين الذين كانوا تحت زعامة كياكسار (كى خسرو) ولقد أدى تحالفهم إلى أن يستولوا عام 612 ق.م. على العاصمة الآشورية نينوى والتي هدموها إلى آخرها. ولم تستطع المدن الآشورية بعد هذه الضربات إعادة مجدها إن معظمها قد هجر وأصبح في طي النسيان. وورثت بابل غرث آشور وتم تقسيم الامبراطورية مع الميديين، حيث أخذت بابل منطقة بابل الوسطى وسوريا وأعادت بابل مرة أخرى مركزها الهام في الشرق الأدنى واصبحت على قدم وساق مع مصر ورأى نبوبولازار أن واجبه الرئيسي يكمن في تجميل وتجديد مدينته بابل وراح يبني المعبد المدرج إيتيمين انكي، آملا الحصول على الرأفة من مردوخ لسلالته:
    "أوه... مردوخ مولاي. انظر إلى أعمالي الصالحة برأفة وعبر أمرك الجليل الذي لا يتغير. دع ما فعلته يداي، يبقى قويا إلى الأبد متينا مثل آجر ايتمينانكي وهكذا رسخ أسس عرشي إلى اليوم القاصي".
    وعندما توفي نبوبولاصر عام 605 دفن في القصر الملكي في بابل. وكان نبوخذنصر الذي خلفه على العرش آخر ملك له أهميته في تاريخ بابل. ولقد إضطر هو أيضا خوض سلسلة من الحملات العسكرية لتثبيت مركز إمبراطوريته حيث إستطاع بعد حصار طويل إحتلال مدينة أورشليم وهدم المعبد وقام بتجهيز القسم الأكبر من السكان اليهود – على الطريقة الآشورية- كاسرى إلى بابل وراحت الامبراطورية البابلية تشمل مناطق فلسطين وسوريا حتى الخليج وقد قاد نبوخذنصر حروبه هذه باسم الاله مردوخ، قال عن ذلك: (بمعونته السامية مررت ببلاد بعيدة وجبال نائية، من البحر العلوي إلى السفلي، بطريق رديئة بممرات مسدودة، حيث تتعطل فيها الخطوات ولا ترتاح فيها القدم، بشوارع مملوءة بالعثرات وطرق كلها عطش لقد صرعت المتمردين وأخذت الأعداء أسرى لقد استبقيت على النظام في البلاد، ورقيت الشعب إلى الفلاح). وفي خلال أكثر من أربعين عاما من حكمه جعل نبوخذنصر بابل ألمع مدينة في الشرق القديم، وتردد خير روعة وبهاء أبنيتها في جميع أنحاء العالم.
    كان مركز بابل التجاري يعطي زواره صورة ملونة لشعوب مختلفة، وفي المقدمة السكان الأصليون الذين عاشوا في بابل منذ أجبال عديدة، منذ أن وضع فيها أجدادهم عصا الترحال بالإضافة إلى الحجاج والتجار والضيوف الذين كانوا يقدمون من مختلف البلدان للاقامة في هذه المدينة الجميلة سواء لفترات طويلة أم قصيرة ولقد جلبت الحملات العسكرية للملوك البابليين ولا سيما حملات نبوخذنصر، الألوف من الأسرى إلى بابل والذين كانوا يضطرون للعمل هناك كعبيد.
    إنّ المتجول في الشوارع والأسواق يمكنه أن يتعرف ببساطة ليس على ممثلي مختلف أنواع الشعوب حسب، بل كان بإمكانه أن يأخذ إنطباعا عن مختلف أنواع الطبقات الاجتماعية أيضا. وكانت الطبقة الدنيا في المجتمع البابلي تتكون من العبيد. كانوا يشتغلون في مختلف أنواع الأعمال، فقد كانوا يعملون كعمال مساعدين في بناء القصور الملكية أو الزراعة أو كأُجراء عند التجار وأصحاب الحرف أو كخدم في البيوت. ويلاحظ أن العبيد كانوا يعاملون كشيء زهيد منذ عهد سومر أو كأية قطعة يمكن التصرف بها كيفما يشاء دون أن يحميها أي قانون، فمثلا ترى ذلك في مجموعة قوانين حمورابي التي تؤكد بأن عقوبة العبد تختلف عن عقوبة الحر وقد نص كما يلي: (إذا فقأ أحدهم عين رجل حر، فقئت عينه. إذا فقأ أحدهم عين رجل عبد آخر أو كسر عظمه، ينبغي أن يدفع لصاحب العبد نصف ثمن الأخير). وكان هذا المبلغ يدفع بالطبع إلى صاحب العبد، إذ أن تشويه العبد كا يعتبر تقليلا لثمنه. وكان العبد يعتبر بالنسبة لسيده أداة عمل ثمينة، ولذلك كان الاعتناء به من مصلحته الشخصية. وكان العبد الذي يعمل خادما في أحد البيوت يعتبر إلى حد ما أحد افراد العائلة. وغالبا ما كان يتخذ رب البيت عبده كعشيقة أو إمرأة إضافية والتي كانت تستطيع نتيجة إنجاب الاطفال ولا سيما الذكور أن تصل إلى مركز مرموق في العائلة. ولم يكن عدد المشتغلين من العبيد في بيت مواطن متوسط كثيرا. وكانت معظم الأعمال تقوم بها افراد العائلة التي كانت تملك عادة ما يتراوح بين واحد إلى ثلاثة عبيد. وفي عهد نبوخذنصر بنى الحرفيون واصحاب المهن والمصالح ورشات إنتاجية كبيرة شغلوا فيها اعدادا كبيرة من العبيد. كما وتركّز عدد كبير من العبيد في المعابد والقصر وكانوا يشتغلون هناك في مختلف الأعمال الوضيعة وكذلك في الأراضي التابعة للمعبد. ولم يلعب العبد دورا حاسما في الانتاج.
    أين تكمن يا ترى مصادر العبودية، وكيف حدث أن قسما من الناس قد اصبحوا بلا حقوق تابعين للآخرين؟ إن العبيد الأوائل كانوا من الأسرى الذين لم يتقلوا وجلبوا أثناء الحملات العسكرية. وكان عليهم أن يعملوا للأمراء المنتصرين أو المعبد ويدخلوا في ملكية أولئك. وكان من أحد البواعث المهمة للانتقال إلى صفوف العبيد هو الديون المتراكمة على الفلاحين الصغار والحرفيين الذين كانوا يبيعون نتيجة العوز إحدى البنات أو الأولاد أو الزوجة أو حتى أنفسهم بالذات وكان ثمة تجار يديرون أسواقا ضخمة من تجارة الرق فيحصلون بذلك على أرباح خيالية. وكانت الاستدانة تقود أيضا إلى العبودية المؤقتة، فمثلا إذا أراد أحد الفقراء أن يحصل على قرص سواء على شكل نقد أو أية مادة أخرى عينية، كان ينبغي عليه أن يعطي نفسه أو أحد أفراد عائلته إلى الدائن كضمان وكان عليه أن يدفع الدين خلال فترة محددة وكان فائض الاعتماد يرتفع باستمرار – إذ كان بالنسبة إلى النقود 20% والحبوب 33% ولذلك كان على المدين أن يشتغل باستمرار ويجدّ حتى يتسنى له عتق نفسه وكان الدائن يستطيع أن يحتفظ بمدينه سليما ويبيعه فيما بعد وبهذه الوسيلة إنحدر قسم كبير من الناس إلى طبقة العبيد. وغالبا ما حددت في بنود القوانين الفترات التي ينبغي أن تسدد خلالها الديون. وقد أصدر بعض الملوك مراسيم لتحرير الناس من مثل هذه القيود وقد جاء في المادة 117 من مسلة حمورابي مايلي: إذا كان أحدهم مدينا وباع لذلك زوجته أو ابنه بالنقود أو أعطاهم للعمل، فينبغي أن يعملوا لمدة ثلاث سنوات عند المشتري أو السيد. وفي السنة الرابعة يجري الأمر بعتقه إلا أنه ليس واضحا ما إذا قد طبقت تلك القوانين فعلا وتحول أولئك العبيد إلى أحرار؟ ومن الأسباب التي كانت تؤدي إلى الانحدار إلى طبقة العبيد، العقوبات القانونية التي كانت تمارس ضد بعض الخارجين على القانون فمثلا إذا حدث أن أصيب أو قتل بعض الأشخاص في حالة عملية هجوم لصوصية فإن عائلة الجاني تسلم بكاملها كعبيد إلى المجني عليه كتعويض عما لحقت به من الخسائر. وبهذا يعاقب كأفراد العائلة بسبب ما فعله أحد أعضائها. وكذلك في حالة السرقة كان على السارق أن يعوض ما سرقه، وذلك في البيت الذي سرقه. وكان الأطفال الذين يولدون في أحضان الرق يعتبرون أيضا غير أحرار.

    كان يطرأ على اسعار العبيد بمرور الزمن مختلف التغييرات، ففي عهد حمورابي كان قد حدد سعر الشراء قانونيا بـ 20 شيل من الفضة أي ما يعادل سعر بقرة. ونتيجة إرتفاع الأسعار في عهد نبوخذنصر أصبح سعر العبد الواحد 50 شيل من الفضة. وإذا كان العبد يتقن حرفة ما أو مختصا في أحد الأعمال، كان على المشتري أن يدفع مبلغا كبيرا جدا. وكان العبيد يحملون عادة علمة تميزهم عن الأحرار حتى يتسنى التعرف والقبض عليهم عند محاولتهم الهرب وكانت هذه العلامة على الأغلب تختم بشكل لا يمكن إزالتها. وكانت ثمة قطعة تحمل اسم صاحب العبد وتعلق على رقبته كعلامة مميزة لعبوديته وكذلك كانت تحلق مقدمة الرأس لنفس السبب.

    الصور المرفقة






    لقد كان من الصعب جدا على العبد أن يستعيد حريته أو يعتق. وكان أبسط طريق للتخلص من العبودية يجري عن طريق صاحب العبد نفسه وذلك بإرجاع الثمن كاملا إليه وكان الثمن يمكن أن يدفع من قبل أفراد عائلته أو أن العبد نفسه يقوم بأعمال شاقة طويلة تعادل ذلك الثمن، إلا أن عتقه في هذه الحالة كان يتم شكليا فقط. وفي عهد نبوخذنصر تحسنت الأوضاع بالنسبة إلى الرقيق إلى حد أنهم كانوا يستطيعون العمل كفلاحين وحرفيين أو تجار حتى يتسنى لهم دفع عتقهم. وكانوا في بعض الأحيان في وضع يسمح لهم بفتح المخازن والتوقيع على العقود. ولقد حصل هذا في الواقع لمصلحة أصحاب العبيد الذين كانوا يضمنون لأنفسهم حصة من أرباح ورأسمال عبيدهم. وبالنسبة إلى العبدة فإنها كانت تستطيع أن تعتق بعد عقد الزواج من مالكها. وبعد الاعتراف الرسمي كان يعتبر الأطفال الذين ينجبهم أحرارا. إن البابليين الذين كانوا قد إنحدروا إلى طبقة العبيد في الخارج كان ينبغي على عوائلهم (أو المدينة الأم أو المعبد) أن يشتروهم ومن ثم يعتنقونهم. إلا أن القسم الأكبر ممن إنحدروا إلى صفوف العبيد أو ولدوا عبيدا لم تتسن لهم في كل الأحوال إمكانية العتق من عبوديتهم بأية وسيلة كانت.

    كانت هذه المجموعات البشرية الكبيرة التي لا تمتلك حقوقا وأموالا، تعيش مع بقية المواطنين الذين يملكون كامل الحرية في تسيير شؤون البلاد. وكانت بين هذه الفئة درجات تبدأ من ملاكي الأراضي الأغنياء إلى أبسط الحرفيين الأحرار. وكان الملك يجلس في القمة مع مجلس بلاطه وموظفيه الكبار والكهنة وكانت نسبة كبيرة من أملاك البلاد تعود إلى هؤلاء.

    وكان للجيش أيضا في هذا المجتمع الذي يقود الحملات العسكرية بصورة دائمة مركز قيادي. وكان قادته وضباطه ينتمون إلى الشخصيات التي لها نفوذها الكبير. وكانت المجموعات الثلاث الكبيرة، البيت الملكي والكهنة والجيش تملك نفس المصالح، إلا أن هذه المجموعات كانت لا تشكل وحدة متكاملة ومتجانسة. كانت الصراعات وبسط النفوذ قائمة فيما بينها بشكل مستمر. ومن خلال هدايا الملك والشراء والتجارة الناجحة تمكن عدد من الأشخاص من إحراز مقاطعات واسعة من الأراضي، واستطاعوا بذلك أن يكونّوا لأنفسهم مراكز بارزة في المجتمع البابلي وتمكن أيضا الحرفيون والتجار الكبار بلوغ مراكز الغنى والوجاهة الاجتماعية. وتقف دون هؤلاء بقية المواطنين الأحرار: كالحرفيين والتجار والفلاحين ومستأجري الأراضي، كل أولئك الذين كانوا يحصلون على قوتهم اليومي بشق الأنفس. كان هؤلاء في الواقع أحرارا من الناحية القانونية، إلا أن الشروط الحياتية التي كانوا يعيشونها لا تختلف عما كانت عليه بالنسبة إلى العبيد ولم يكن طريقهم إلى العبودية بطويل وكانت هذه المراتب المختلفة داخل فئة المواطنين الأحرار قد تركت آثارها في القوانين. وقد جاء في قوانين حمورابي: ( إذا صفع أحدهم آخر على خده وهو دون مرتبته، يكون عقابه في مجلس العدالة ستين جلدة. إذا صفع رجل حر، آخر حرا مثله على خده يكون عقابه دفع مَن من الفضة. إذا صفع خادم أحدهم حراً على خده يكون عقابه قطع الأذن).
    وبالإضافة إلى هاتين الطبقتين الاجتماعيتين الكبيرتين كانت ثمة طبقة لأنصاف الأحرار. واكن أفراد هذه الطبقة مرتبطين بالأرض أو الحرفة وكان عليهم دفع الضرائب إلى القصر وكان يتوجب عليهم أيضا المساهمة في الحملات العسكرية. لقد كان هؤلاء يستطيعون من جهة أن يملكوا عبيدا وأملاكا ولكنهم من جهة أخرى كانوا مرتبطين بأسيادهم، وبذلك كان مركزهم الاجتماعي يقع بين المواطنين الأحرار والعبيد.
    وعند إلقاء نظرة على الحياة اليومية لسكان بابل في عهد نبوخذنصر، نرى فارقا كبيرا في الحالة الاجتماعية، تعكسه لنا المجموعات السكنية والمهن والملابس والعادات. لقد كانت البيوت والمجموعات السكنية البابلية لا تختلف عن بعضها إختلافا كبيرا من حيث المظهر الخارجي، إذ أن البيت البابلي المطل على الشارع، كان يتميز فقط بجدار بسيط من الطين طلي بالجبس بلا نوافذ أو تزويق. وكانت ثمة نتوءات وأفاريز بارزة هنا وهناك تتخللها مشاكي أشبه ما تكون بالمحراب. وكانت الأبواب البسيطة قد صبغت باللون الاحمر لطرد الأرواح الشريرة. وكانت الجدران المحيطة بالبيوت تبنى بصورة مشتركة. وكان على المرء عند خوله أحد البيوت أن ينزل عدة درجات إلى الفناء، إذ إن مستوى الطريق العام كان أعلى من مستوى مساحات البيوت. وعند البدء ببناء جديد كانت نفايات وبقايا البناء القديم تلقى في عرض الطريق أما البيوت حيث أكوام الفضلات والعظتم على الطريق غير المبلط والكلاب السائبة تبحث عما تقتات به. وكانت النفايات تشكل مع الرمال التي تحمل الرياح طبقة جديدة تضاف إلى الطريق الذي كان يرتفع باستمرار.
    وحين يدخل المرء بيتا ما يمر لأول مرة ببهو صغير يجد فيه إبريقا مملوءا بالماء أعدّ لغسل الأيدي. وعير غرفة أمامية كان المرء ينتقل إلى فناء مكشوف تنتشر عليه الأشجار والنباتات المتسلقة ظلالها الوارفة. وكان بمستطاع المرء أن يدخل كافة غرف البيت التي كانت لا تحتوي على النوافذ وذلك منعا لتسرب الحرارة إلى داخل الغرف. وكان النور يصل الغرف عبر الأبواب. كانت مساحة البيت وعدد الغرف يتعلقان بمكانة صاحب الدار ووضعه الاجتماعي وعدد أفراد عائلته. وكانت غرفة الجلوس الرئيسية تقع عادة في جنوب الدار بحيث يكون بابها باتجاه الشمال تجنبا لأشعة الشمس. وكانت البيوت الغنية تحتوي على غرفة إستقبال وغرف للضيوف وكذلك مرافق خاصة للتواليت. وإذا كان رب الدار يملك في البيت ورشة عمل أو معملا يدويا فإن الطريق إليه يكون من فناء الدار مباشرة ونادرا ما كان هناك باب خاص يؤدي إلى مدخل آخر. وبالرغم من أن ربة البيت كانت تطبخ في مواسم الحرّ في الهواء الطلق، فإن الدار كانت تحتوي على مطبخ أيضا. إذ أن العمل لم يكن مريحا بالتأكيد في مطبخ لا يحتوي على مدخنة وكان الموقد عبارة عن كوانين صنعت من القرميد وكان ثمة موقد ثابت في فناء البيت وكان يوجد في البيوت الثرية جدا حوض للاستحمام وقد دفن إلى النصف في الأرض وطلي بالاسفلت ولتصريف مياه المطر إستعملت أنابيب كانت تؤدي المياه إلى الشارع فالقنوات أو المجاري. وكانت ساحة الدار تغطي عادة بطبقة من الطابوق تأخذ شكلا قمعيا وذلك لتصريف المياه من خلال فتحة في وسط الساحة. وأما أرضية الغرف فكانت تطلى عادة بطبقة طينية. وعند توفر المياه الجوفية كان هناك بئر يزود الدار بالمياه، وإلا فكان على العبد أو نساء البيت نقل الماء من الآبار العامة في الشارع أو من النهر مباشرة. وفي المدن الكبيرة مثل بابل، كانت بعض الدور تحتوي على طوابق عليا تستعمل بشكل خاص غرفا لنوم أفراد العائلة، وكان الوصول إلى هذه الغرف يتم عبر سلم خشبي. وفي ليالي الصيف كان افراد العائلة ينامون على السطح تحت السماء الصافية حيث النسيم المنعش وكان السقف يصنع من جذوع النخيل تغطى بالسعف وسيقان القصب والطين. وكان على صاحب الدار يطلي سقف بيته كل عام بالطين وبالنسبة إلى صنع بيت طيني كان يكلف غاليا للفقراء المعدمين، لذلك كانوا يكتفون بالألواح القصبية في ضواحي المدينة أو خارج الأسوار. كانوا يجمعون سيقان القصب من ضفاف المستنقعات والأنهار ويعملون منها حزما كركائز للكوخ ثم يحيطونها بحصران من القصب فكانت على الأقل تقي حر الصيف وبرد الشتاء.
    كان ترتيب البيوت بشكل عاما بسيطا واقتصاديا ولم تكن هنالك حاجة للمبالغة في التأثيث، إذ أن الخشب كان بالنسبة إلى البابليين من المواد الخام النادرة. وكان معظم الأثاث والمساند والكراسي وحتى الصناديق يتكون من القصب ويرجع أن بعض العوائل الغنية كانت تملك صناديق ومقاعد خشبية وأما الدولاب فلم يكن معروفا وعند الحاجة كانت توضع لوحة دائرية على ثلاثة مساند رئيسية وتستعمل كمنضدة وكانت أرضية الغرف تفرش بالحصران التي كانوا يجلسون عليها القرفصاء. وكانت جدران الغرف تصبغ من حين لآخر بألوان مختلفة مع نقوش بسيطة حتى يكون المكان مريحا للسكن. ولحفظ الذخيرة كانوا يستعملون أواني فخارية كبيرة تدفن حتى النصف في الأرض. وكانت هذه الأواني تستعمل أيضا لحفظ المواد الاستهلاكية اليومية والماء والمشروبات والعلف وعند الضرورة كذلك الملابس وحتى رقم الطين والوثائق العائدة لصاحب الدار. وكانت الأدوات المنزلية تتكون على العموم من الأواني الفخارية إعتبارا من الأباريق إلى الدوارق فالصحون على إختلاف اشكالها إلى جانب المصفاة والملعقة الكبيرة والسكين البرونزي والأمواس الحديدة والقدور النحاسية والطواحين الحجرية اليدوية والهاون. وكانت ثمة مواقد كبيرة لفحم الخشب حيث كانت تستعمل للتدفئة أيام الشتاء ومصابيح طينية على إختلاف أشكالها تشتعل بالزيت وتستعمل للاضاءة.
    وفي مثل هذا المحيط كانت العائلة تقضي أوقاتها وغالبا ما يسكن الأولاد مع زوجاتهم وأطفالهم في كنف الوالدين. وكان البيت عادة مملكة النساء اللواتي كن نادرا ما يغادرنه، إذ أن الرجال عند عدم تملكهم للعبيد يشترون الحاجيات البيتية بأنفسهم. وكان الرجل البابلي يكتفي بزوجة واحدة فقط بالرغم من أنه كان يملك حق إتخاذ نساء آخرين كزوجات إضافيات وإنجاب الأطفال منهن.
    وكان النساء يقضين أوقاتهن بتربية الأطفال وغسل الملابس والطبخ وإعداد الطعام وكذلك الغزل والحياكة. وإذا كان ثمة أغنام أو ماعز ودواجن في البيت فكن يقمن بالعناية بها. وكانت النساء يساعدون الرجال في الأعمال الزراعية لا سيما في مواسم الحصاد والبذار. وأما الرجال فكانوا يقضون قسما من وقتهم خارج البيت في العمل في السوق أو الحديث واللعب مع الأصدقاء والمعارف.
    وكانت المرأة في العوائل الغنية لا تمد يدها إلى الأعمال البيتية بل كانت تُخدم من قبل الآخرين. وكانت تقضي معظم وقتها بالعناية بنظافتها وجمالها أو الالتفات إلى الأعمال المريحة. وكان على الوصيفة أن تقوم بـ (غسل أرجل السيدة) وحمل كرسيها إلى المعبد، وتمشيط شعرها وتسريحه ومساعدتها دوما.
    وللعنابة بنظافة جسد وشعر الرجل والمرأة، كانت تستعمل زيوت تكسبهما النعومة والطراوة وكانت الزيوت المعطرة غالية، إذ أنها كانت تستورد من الخارج. وكان يفضل عادة زيت السرو والآس والسدر لرائحته الجيدة. وللغسل كان يستمعمل الصابون الذي يتكون من أوكسيد الصوديوم أو البوتاسيوم الممزوج بالزيت أو الطين الحر الجيد. وكان البابليون يتخذون من حين لآخر حمامات بخارية ساخنة وكان الرجال كما هو عليه الأمر بالنسبة إلى النساء يعتنون بتسريحة شعرهم وكانت الموضة في تغير مستمر. وكان للرجال أحيانا لحى طويلة وكان حلق اللحية وشذبها من الأمور الاعتيادية. وبالنسبة إلى النساء كن يفخرون بتسريحتهن القصيرة المجعدة التي كانت تتموج إلى الأسفل وتشد بشريط واحد فقط. وكانت هذه التسريحة تلقى استحسانا كبيرا وكان التجميل واستعمال العطور من الأمور اليومية وكان للنساء مختلف ألوان التجميل يحتفظن بها داخل أوعية طينية أو حجرية أو داخل أصداف روّقت بنقوش فنية جميلة. وكن يستعملن الصبغ الأسود للحواجب والأهذاب والأخضر لظلال العينيين، والأحمر للشفاه والخدود. وكان من الأمور الاعتيادية أيضا صبغ باطن اليد والأرجل بالحناء ورسم الوشم على الجلد وكن يحملن حقائبهن النحاسية المعلقة بحلقة صغيرة بشكل دائري، وكانت تحتوي على منقش وسكين وملقط ومعلقة لتنظيف الأذن. ومن الأمور التي لا تنسى مرآة اليد البرونزية والمشط المصنوع من الخشب أو العاج.
    كانت ملابس الرجال والنساء متشابهة ولها نفس الطول وكان ثمة رداء فضفاض يصل إلى الركبة وكانوا يرتدون – النساء ايضا- ثوبا لامعا مخططا بأكمام قصيرة، وكان عند النساء يصل إلى الأرض وكان بالإمكان إرتداء سترة فوق هذا الثوب. وللوقاية من البرد كان يلقى على الكتفين معطف صوفي قصير وكان للمرء حسب ذوقه أن يشد حزاما مزخرفا ويلم به أطراف ثوبه. وفي أثناء العمل كان الرجال يكتفون بارتداء صدرية قصيره، إذ أن الحر يغنيهم عن الملابس الزائدة. وإن إختفى بعضهم فذلك من الأمور الاعتيادية.وأما الناس الأثرياء فكانوا ينتعلون صنادل ثبتت بسيور جلدية تحيط بأصابع القدم والكعب ويحتمل أنهم كانوا يرتدون الجوارب أيضا. وللمسيرات الشاقة ولاسيما في الجبال كانوا يستعملون الجزمة العالية المربوطة بشريط. وأما غطاء الرأس فشكله يختلف من عصر إلى آخر . ففي عهد حمورابي يفضل غعتمار قلنسوة مدورة بجوانب عريضة ملتوية وفي فترة متأخرة يكتفون بلف عصابة حول الرأس. وكانت النساء المتزوجات يخفين شعرهن إذا خرجن إلى الشارع تحت منديل للرأس ويغطين وجههن بحجاب شفاف. وكان لهن الحق قانونيا بارتداء العباءة التي كانت بمثابة علامة تفرقهن عن الرقيق والبغايا اللواتي حرم عليهن ذلك كعقاب صارم. أما الحلى فكانت مرغوبة في كل العصور سواء عند الرجال أم النساء. وكانتالزينة ووزن الحلى تعكسان ما تتمتع به العائلة من يسر ووضع اجتماعي. أما أحسن هدية تقدم إلى إمرأة فهي سوار مصنوع بدقة من البرونز أو الفضة وحجل مطعم بأحجار ملونة وكريمة أو قلائد من الخرز تتدلى منها قطعا مزخرفة وجميلة. وكان الرجل الغني يتميز بحليه التي يعتز بها كالخواتم والاسورة الذهبية والأساور أو الفضة للمعصم أو أعلى الذراع. أما الأقراط فلها أشكال مختلفة، إعتباراً من شكل الزورق البسيط إلى مختلف الأشكال المعقدة مثل عنقود العنب وما شاكل ذلك من النماذج. وكان الرداء يلم بدبابيس مصنوعة بشكلفني مزخرف وبخرز وأزرار مطعمة بأحجار ثمينة. وأما الفقراء فإنهم يكتفون بعدة أسورة نحاسية خفيفة وبسيطة للذراع مع قلائد تتألف من أحجار ملونة. وفي موادهم الغذائية فإن البابليين يفضلون الأكلات النباتية كالبصل والخيار والقرع والرقي والبطيخ. وكانوا يطبخون أنواع المرق من حبوب الفاصولياء واللوبيا والعدس والذرة والشعير. والمادة الرئيسية هي الخبز الذي كانت ربة البيت أو الجارية هي التي تعدها إذ أنهم يتذوقون الخبز طريا ساخنا . ويستعملون لهذا الغرض فرنا إسطوانيا (التنور) يدفن غالبا في الأرض. ومواد الوقود تتكون من روث البهائم المجفف إلا أنها لا تصلح لتسخين التنور ولذلك كان يستعملون الخشب والفحم الخشبي وبعد أن يسخن الفرن كانت أقراص العجين تلصق بالجدار الحامي ثم تسد الفوهة بكوز فخاري. أما أقراص الخبز فرقيقة جدا، حيث كان بالإمكان عند الأكل قطعها إلى قطع صغيرة. وفي مقدمة الفواكه التي يتناولها البابليون التمر والرمان وكذلك الفواكه التي كان يستوردها التجار من بلاد آشور ذات المناخ البارد بعض الشيء، مثل التفاح والعرموط والعنب. وكانت اللحوم غالية لذلك تتواجد على المائدة على الدوام ومن اللحوم المتوفرة لحم الدواجن مثل الدجاج والحمام والبط والوز حيث أن بالامكان ترتيبها في البيت. ونادرا ما كانت الأغنام والماعز ولاسيما الأبقار تساق إلى الذبح غذ تحتفظ بها لأيام الأعياد الكبيرة وكانوا يعدون السمك للأكل على أنواع مختلفة فيأكلونه إما مقليا أو مسلوقا أو مملحا ومجففا. ومن كان محظوظا في الصيد فإنه يستطيع أن يضفي على قائمة المأكولات في المطبخ لحوم الغزال والأرنب والظبي والحمار الوحشي.
    أما منتوجات الحليب فمرغوبة جدا وتقدم على شكل جبن أو لبن مخثر. وكانت النساء يحضرون أنواع الأكلات اللذيذة ويضفن إليها العسل واللوز والفستق والزيت والتوابل. ولأيام الأعياد كن يعدن الحلويات والفطائر الحلوة المحشوة بالتمر والتين واللوز. ويشرب البابليون عادة الماء مع الأكل وكانت البيرة المصنوعة من الحبوب منتشرة ايضا بشكل واسع وللبابليين خبرة عالية في صناعة البيرة. غذ يخمرون حوالي ستة عشر نوعا مختلفا من البيرة وذلك حسب التنويع في إضافة المواد الخام مثل الجودر المقشور والشعير إلخ... ومن أنواع البيرة المعروفة، البيرة السوداء التي لعبت دورا كبيرا بين المشروبات الروحية. وكانوا ينتجون من العنب نوعا رديئا من الشراب. أما الشراب الجيد فإنه غالي الثمن يستورد من أرمينيا وسوريا ومن المشروبات الروحية المفضلة، شراب النخيل اذي يحصلون عليه من العصير الذي كان يسيل من ثقوب يعملونها في جذع النخيل والذي يتم تخميره خلال ثلاثة أيام أما نسبة الكحول فيه عالية. ولا يحتسي الرجال هذه المشروبات غالبا في البيت بل في الحانات. وكانت الحانة على إستعداد لبيع المشروبات. وتهيمن على أجواء هذه الحانات حياة اللهو والطرب. وكان الرجال يشربون حتى السكر التام " بحيث أن بطونهم كانت تنتفخ وهم يترنحون" وكوصفة ضد الآلام الناتجة عن الكحول كان بوصى بـ "سحق خمسة أنواع من بذور النباتات ومزج المسحوق بالشراب وتجرعه دفعة واحدة دون تذوقه".
    يتكون طعام الفطور من وجبة دسمة، ولكن في الظهر حيث الحرارة الشديدة لم تكن الشهية قوية. وبعد تناول وجبة خفيفة ينام أغلب الناس لبضع ساعات.
    أما الوجبة الرئيسية فيتناولونها مساءً. وكانت العائلة تتجمع في أبرد غرفة بالبيت حيث تمتد الأيدي إلى الطعام الجاهز. وكان إستعمال الملعقة والشوكة نادرا جدا. وكان المساء هو أحسن أوقات اليوم إلى البابليين، حيث أن الناس بعد الحر الشديد تعود لهم حيويتهم. أما الأطفال فيمرحون في الشوارع ويلعبون بالصنوج الطينية البسيطة أو بالقوس والنشاب: والرجال يلعبون الكعاب أو يتجمعون حول لوحة لعب بأحجار ملونة. والنساء يجلسن في فناء الدار سوية، وهن يتبادلن أطراف الحديث ويلفن المغزل بنشاط، وبين حين وآخر ترتفع من إحدى الحلقات المرحة أغنية تصاحبها ضربات على الطبلة، تتردد في الشوارع التي تجنح رويدا إلى الهدوء.

    الحياة الاقتصادية



    الصور المرفقة








    في بلاد بابل حيث تفتقر إلى كل أنواع المواد الخام، وحيث كان القصب والطين هما المادتين الرئيسيتين اللتين تستعملان بالدرجة الأولى. كانت الزراعة تلعب الدور الرئيسي وتشكل أساس حياة المجتمع. لم تكن الأمطار التي تسقط في أشهر قلائل وبمعدل 100 ملمتر سنويا لتكفي لا وراء 50 درجة تؤدي إلى جفاف الأراضي وإبادة الزرع. وهكذا كان ينبغي على النهرين – دجلة والفرات- أن يلعبا دور واهب الحياة. كانت مصر هبة النيل، وهكذا كانت بابل تعيش بفضل الرافدين، اللذين ينبعان من جبال أرمينيا جالبين معهما المياه الغزيرة طيلة أيام السنة. وكشرط لتحويل فيضانات دجلة والفرات إلى الخير والبركة، كان العمل هو الذي ينبغي أن يعم وينبغي أن يتحقق بشكل دائمي وبصورة مشتركة. لقد تفرعت قنوات هائلة من الأنهر. وكانت مناسيب المياه تنظم بسدود ونواظم وأي إهمال في هذه الشبكة الاروائية يؤدي تخلف في الانتاج أو أزمة سيئة في حياة السكان الاقتصادية.
    وليس بغريب إذا وجدنا الملوك يهتمون شخصيا بإدامة القنوات ممجدين أنفسهم في كتاباتهم كمحافظين لنظام القنوات. وفي مقدمة لأعماله القانونية يذكر حمورابي بأنّه: " وفّر المياه الغزيرة لسكان بلاده" وغالبا ما سميت الأعوام بأسماء القنوات. ويأمّر حمورابي محافظ لارزا في جنوب بابل: " حالما تنتهي من تطهير النهر الذي بدأت به. طهّر فرات لارزا إلى أور من الأوحال. إلق بالنفايات بعيداً ورتب كل شيء". وقد سمّى نبوخذنصر نفسه أيضا في كتاباته بـ: "فلاح بابل" و "ساقي الحقول".
    لقد كانت الشبكة الاروائية الاصطناعية معقدة جداً، إذ أن القنوات تتفرع من أخرى كبيرة رئيسية وتتفرع إلى فروع أصغر إلى أن تتزود كافة الحقول بالمياه. كان الفلاحون يقومون بشكل مستمر بمراقبة الأنهر والقنوات، فلا تمر سنة دون أن يتم تعميق الجداول وتنظيفها من الأوحال المتراكمة وكذلك صيانة وتجديد السدود. أما الأوحال فتلقى على جانبي القنوات وتشاهد من بعيد على الأرض المنبسطة كسلسلة عالية ممتدة. وكان الحفر المستمر ضرورياً بسبب المواد الغرينية التي تحملها الأنهر والتي كانت تترسب في القاع.
    وفي حالة إرتفاع قاع النهر إلى درجة لا يفيد معها الحفر، كانوا يهملونها ليشقوا قناة أخرى في مكان آخر. وكانت مهمة صيانة القنوات من واجبات السكان الذين يستفيدون منها وكذلك أصحاب الأراضي ومؤجريها الذين تمر المياه من أراضيهم. وتتضمن قوانين حمورابي العديد من المواد المتعلقة بشؤون المياه والارواء وضمان إدامتها. جاء في المادة 53:
    " من أهمل صيانة سد حقله، ولم يقم بتقوية سده، وحدثت فجوة أدت إلى تسرب المياه، وسببت اضراراً للمزرعة، ينبغي عليه أن يعوض ما تسبب من خسائر للغلال".
    وجاء في المادة 64: " إذا لم يستطع أن يعوض ما سببه من خسائر للغلال فسيباع هو وممتلكاته بالنقد ليعوض بهما ما أصاب صاحب المزرعة من خسائر".
    وبالرغم من العناية والمراقبة الممستمرتين للسدود والحواجز فإن الفياضانات كانت تجرف أمامها بين حين وآخر كل مصادر الخير، فتبقى تلك الاحداث كذكريات مؤلمة في أذهان الناس. ولقد سُردت من هذه الكوارث بمرور الأيام أنواع القصص التي بولغ في تزويقها إلى أن أصبحت أساسا لقصة الطوفان المعروفة.
    ولما كان مسوى المياه في أغلب القنوات أوطأ من مستوى الحقول فقد إضطروا إلى رفع المياه بطريقة إصطناعية وذلك بدق عمود في النهر أو القناة تثبت عليه رافعة تحمل في أحد طرفيها دلواً من الجلد أو الفخار وثمة ثقل في الطرف الثاني يقوم رجل بسحب الماء وصبه في المجرى.
    كانت هذه الطريقة من الري تسبب اضراراً كبيرة في مناخ بابل الجاف وذلك لترسب الأملاح بكميات كبيرة. وفي أوقات الحر، حين تتبخر المياه، تبقى الأملاح – التي لا تستطيع الأمطار القابلة إزاحتها- تتراكم بمرور مئات السنين. وحتى في الأراضي التي كانت لا تروى بصورة إصطناعية كانت الأملاح تترسب وذلك لعدم تمكن الأمطار من إجتياز الطبقة المتكلسة فتتحد مع الكلس. وهنا لعبت الأملاح أحياناً دوراً إيجابياً إذ أن قطعان المواشي والأغنام تقوم بلعقها، كما وأن القبائل الرحل تستفيد منها أيضا، إلا أن الأملاح كانت تشكل في كل الأحوال خطرا مبيداً لاقتصاد البلد. وكان ينبغي أن تجري المحاولات ليس لتزويد الحقول بالمياه، إنما لايجاد طريقة جيدة وممكنة – لتصريف المياه بسرعة. وبالرغم من أنهم كانوا يقومون بصرف المياه، إلا أن الأملاح تبقى في الأرض ولذلك كان المحصول يقل بشكل ملحوظ بمرور القرون في الزراعة البابلية. وهكذا عندما كانت نسبة الملح تبلغ النصف بالمائة في الأرض لا يمكن القيام بزراعة الحنطة فمثلا في 2400 ق.م. كان المحصول في أراضي ديالى الخصبة - أحد فروع نهر دجلة – 16% من الحصّة العامة، ولكن في 2100 ق.م. هبطت إلى 2%. وأما إذا إرتفعت نسبة الملح في الأرض إلى 1% فلا ينبت الشعير. وفي حالة إرتفاع نسبة الملح في التربة إلى 2% تستحيل زراعة النخيل. وربما كانت هذه الأزمات الزراعية قد شكلت إلى جانب المشاكل السياسية أحد الأسباب الرئيسية في إنهيار العديد من المدن السومرية. ورغم ذلك فإن الفلاحين البابليين قد إستطاعوا أن يحصلوا على محصول جيد في زمن نبوخذنصر، إذ أنهم يتركون الأرض ثلاث سنوات ويزرعون في السنة الرابعة. وإلى جانب مشاكل الارواء الاصطناعية كان على الفلاح أن يكافح ضد الرياح القادمة من الصحراء والتي تغطي الأراضي الزراعية بالرمال وكانت بعض الأراضي تهدد من قبل الكثبان الرملية المتنقلة.
    كان عمل المزارعين شاقاً إذ أنهم إلى جانب المشاكل الكثيرة كان عليهم القيام بصيانة القنوات. كان العمل يبدأ في الحقول في شهر تشرين الثاني حيث يبدأ الأمطار بالهطول ويعتدل الجو. وفي هذا الوقت كان الفلاحون يحرثون الأرض بالمحراث الخشبي من سن طويلة مقوسة بمقبضين أو ثلاثة يسحبها عادة زوج من الثيران. وفي نفس الوقت كان البذار ينثر مع عملية الحرث خلال قمع مثبت بالمحراث. وبالنسبة إلى الأراضي الطينية الصلبة كانوا يستعملون المعاول القوية. وبعد ذلك كانوا يستعملون المعزق والمسلفة لتسوية الأرض.
    وكان الفلاحون يروون الزرع حسب الحاجة وسرعة النمو. وفي الربيع، تقريبا في نيسان كان يبدأ موسم الحصاد في بابل. وكان الحصاد يجري بالمنجل وبعد ذلك يستعملون الحيوانات لدرس البيادر وكانوا يستعملون أحيانا مدقا أو مركبة لدرس الحبوب. وبعد عملية الدرس يذرون الحنطة ثمّ يغربلونها. ولخزن الحبوب يستعملون اسطوانات طينية كبيرة يسحبون الحنطة منها فيما بعد عند الحاجة من ثقب في الأسفل. وكان الفلاحون يحصلون - كما جاء في النصوص- على حوالي 15-16 ضعفاً مما بذروه وأما في المواسم الجيدة فيحصلون على 40 ضعفا مما بذروه.
    وفي جنوبي ما بين النهرين كانت تزرع بالدرجة الأولى محاصيل الشعير والجودر وفي الحالات الجيدة تزرع الحنطة والذرة. وللحصول على الزيت تلعب زراعة السمسم دوراً كبيراً. ولما كانت الخضروات تستعمل بكثرة، فقد طورت منها أنواع مختلفة منها البقلاء واللوبياء والخردل، التي تزرع في الحقول. بالإضافة إلى ذلك إهتموا بزراعة الكتان الذي كانت النساء يصنعن الاقمشة من أليافه.
    وإلى جانب زراعة الحقول إهتم البابليون بشكل خاص بالبساتين والحدائق وكانت مهنة البستنة محترمة جداً. وثمة روايات عديدة تفيد بأن كثيراً من الملوك في بلاد الرافدين عملوا في البستنة قبل أن يصلوا إلى كراسي العرش منهم مثلا سرجون الأكدي. إحتلت النخيل أوسع المساحات في البساتين، حيث يستفاد منها لمختلف الأغراض. إنّ ثمارها لذيذة ومغذية سواء أكانت طرية أم مجففة. وكانوا يصنعون منها أيضا المشروبات الروحية. وكان الحدادون يستفيدون من نواتها كوقود. وصنعوا من أليافها حبالاً واستعمل جذوعها في ابناء واستفادوا من السعف لاغراض مختلفة ويجري تلقيح النخيل إصطناعيا، حيث أن النخيل يتكون من جنسين. صورت عملية تلقيح النخلة في الميثولوجيا وفن النحت. لذا نرى الصور الجدارية العديدة في القصور الملكية وكذلك المنحوتات الصغيرة للىلهة الدنيا في هذه العملية سواء بالنسبة إلى النخيل أو شجرة الحياة
    وبالإضافة إلى النخيل كانت تزرع أيضا اشجار التين والرمان والعرموط والفستق في البساتين. وأما الأنواع الأخرى من الفواكه فكانت لا تصلح للزراعة الجيدة في مناخ جنوب بلاد الرافدين الحار. لقد كانت تزرع في مناطق آشور المعتدلة وتستورد ثمارها من هناك.
    وتزرع تحت الاشجار خضروات مثل الثوم، البصل، الكراث، الخس، الشبت، الفجل، والخيار إلخ... وهكذا كان البستاني يحصل في الحالات الاعتيادية على محصول جيد. يعتبر البابليون هواة جيدين للأزهار، إذ كانوا يزرعون في حدائقهم وبساتينهم أزهار الورد والسوسن واللوتس وكان زهر الرمان معروفا لتزويق الحدائق.
    وفي آشور حاول الملك سنحاريب زراعة القطن وقد كان ذلك غير معروف في جنوب بابل. وفي دلتا النهرين دجلة والفرات كان بالإمكان الحصول على كميات هائلة من القصب الذي كان البابليون يستعملونه لأغراض عديدة، بدءاً من بناء البيوت إلى صنع ضفائر للسلاسل.
    شكلت تربية الحيوان إلى جانب الزراعة عاملاً ثانيا في إسناد الاقتصاد البابلي:
    وكانت مهنة الرعي تلقى احتراماً كنفس مهنة الفلاحة وكانت ضرورية جداً. وقد سمى العديد من ملوك وادي الرافدين أنفسهم (الراعي المخلص)للشعوب منهم نبوخذنصر. وكانت الأبقار تشكل ثروة خاصة لأصحاب المواشي وهي بالغضافة إلى حليبها كانت تستعمل لجرّ المحراث والعربات ودرس الحبوب. وكان الفلاح المتمكن يمتلك أزواجا من الثيران وأما فقراء الفلاحين فكانوا يؤجرونها لأيام الحراثة والحصاد، ذلك أنهم بالإضافة إلى عدم تمكنهم من شرائها كانوا لا يستطيعون تزويدها بالعلف طيلة أيام السنة. وكانت الأبقار نادراً ما تستعمل للذبح بالنظر لارتفاع أثمانها، اللهم إلا في المناسبات الدينية والأعياد حيث تقدم كقرابين. للغنم والماعز أهمية خاصة بين الحيوانات المنزلية. وكان يمكن للمرء أن يدع قطعان الغنم والماعز تسرح في الأراضي البور وترعى النباتات والأعشاب البرية. وكانت الأغنام تنتمي إلى فصيلة ذوات اللّية وأما الماعز فإلى فصيلة ذوات القوائم العالية والشعر الطويل. وحتى منتصف الألف الثاني كان الجزّ غير معروف، كانوا يحصلون على الصوف والشعر عن طريق النتف. وكان الاهتمام بهذين الحيوانين يجري بالدرجة الأولى بسبب حليبهما. وكانت جلود الحيوانات بعد ذبحها تسلخ كاملة ثم تستعمل فيما بعد كقرب لمختلف السوائل. كان لحم الغنم شهيا ورغوبا. وكان ثمة خنازير في الكثير من الأرياف، حيث تسرح في الأزقة وتقتات على الفضلات. ولم تكن تلعب دورا مهما بالنسبة إلى تغذية الناس، ذلك أنها كانت تعتبر من الحيوانات القذرة. ومن الأشياء التي كانت تنتمي إلى الإنتاج الحيواني، الطيور مثل البط، الوز، الدجاج والحمام، وقد كانت هذه الطيور الداجنة متوفرة في كافة المدن والقرى. ويحتمل أنه قد تمّ إستيراد الطاووس في الألف الأول ق.م. من الهند.
    كانت تربية النحل غير معروفة عند البابليين في البدء، ويمجّد أحد ولاة المدن في سوخي وماري على الفرات نفسه كونه هو الذي جلب النحل إلى بابل بالذات.
    إستعمل البابليون الحمار للنقل. إن هذا الحيوان الضعيف ذا العظام القوية واللون الرمادي كان يقوم بتأدية كل أنواع النقل، ولم يكن راعية يكتفي بتحميله بل كان يركبه ايضا، كما وكان يمكن شدّه إلى عربة لنقل مختلف الأمتعة الثقيلة للتجار والمسافرين. وأما الخيول فقد غستعملها البابليون في وقت متأخر. وقد عرفت في الألف الثالث، إلا أنها لم تستعمل للركوب والنقل. ووجدت الخيول لأول مرة في بابل في زمن الكاشيين وكانت تربى على شكل قطعان كبيرة، ودخلت ضمن الهدايا التي كان يرسلها الملوك البابليون إلى فراعنة مصر. ومن اقدم مناطق تربية الخيول هي سلسلة الجبال الشرقية وآسيا الصغرى حيث المراعي الخصبة التي كانت ترعى فيها الخيول. ومن هناك أيضا استوردت بكميات كبيرة إلى بابل في الألف الأول. لقد كان إقتناء الخيل يتطلب ثمنا باهظاً جداً، ولذلك فإن بسطاء الناس نادراً ما كانوا يستطيعون الحصول عليه. وقد ربيت الخيول بكثرة في القصور الملكية، حيث كانت تستعمل للصيد وتشد إلى العربات الحربية. وفي الألف الأول إستعملت الخيول ايضا في الجيش وجهّز بها قسم من الوحدات. وقد إهتم البابليون والىشوريون غهتماما كبيرا بتربية الخيل وتدريبه. وكان مربوا الخيول يدونون خبراتهم كإرشادات عامة في أصول تربية الخيول. وقد جاء في أحد النصوص المتعلقة بتربية الخيول والتي تعود إلى الألف الثاني ق.م. (دعه يجري منطلقاً ويدخل النهر، إغسله بالماء، دعه ينتفض ويخرج، دعه يدخل البيت، إدلكه جيداً بالزيت. إنه في البيت يخرّ على ركبتيه، عليك أن تدعه يستلقي على بطنه، قدم له الحبوب، إنه سيأكلها) وعن طريق التزاوج بين الحمار والفرس كان يتم الحصول على حيوان رخيص للحمل وجر العربات هو البغل.
    وفي مجرى التطور بدأت علاقات ملكية الأراضي المزروعة تتغير بأشكال مختلفة زكانت أوسع الأراضي تعود للملك الذي عمل دوما من أجل توسيع أملاكه ومن ثمّ الاكثار من موارده. وبالغضافة إلى الملك كانت أملاك المعابد وبدورها كبيرة وكانت تحصا عليها عن طريق الهدايا والوقف الخيري والشراء.
    وكان الفلاحون الأحرار يملكون أصغر القطع من الأراضي. وبالنظر للديون المتراكمة كان الفلاحون يفقدون بالتدريج اراضيهم فتصبح في أيدي كبار الملاكين. كان معظم ملاكي الأراضي لا يعملون في اراضيهم، بل كانوا يؤجرون القسم الأكبر منها للفلاحين الذين كانوا يضطرون للعمل فيها بجد للحصول على الغلال بسرعة. كان ربح الايجار يبلغ في الحالات الاعتيادية ثلث الناتج أما الأرض المعدة للايجار فيجب أن تكون صالحة للزراعة وكان العقد يجري لمدة ثلاث سنوات. وكان الفلاح في السنة الأولى لا يدفع أية أجرة وفي الثانية يدفع شيئا قليلا وأما الثالثة فكان يدفع الحصة كاملة.
    هناك إجراءات قانونية تطبق بحق الفلاحين الذين لا يدفعون الأجرة في الوقت المحدد. وكان حق المالك محفوظا بالدرجة الأولى، إذ أن المالكين هم الذين يشكلون الفئة الحاكمة في الدولة. وقد جاء في المادة 42 من قوانين حمورابي: (إذا إستأجر شخص أرضاً لزراعنها ولم تعط محصولا بسبب عدم قيامه بالأعمال المطلوبة فإنه يدان وعليه دفع ما يعادل كمية المحصول التي أنتجها جاره في حقله).
    وبالنسبة إلى إيجار بساتين النخيل فكان المستأجر يحصل على نسبة قليلة من التمر رغم الأعمال المرهقة الني كان يقوك بها. وقد جاء في المادة 64 من قوانين حمورابي: غذا إستأجر أحدهم بستانا لاستثماره، يجب على المستأجر طيلة فترة الايجار أن يقدم إلى الممالك ثلثي المحصول والثلث الباقي لنفسه. وعندما لا يكون الفلاح في حالة تمكنه من دفع النسبة المقررة بسبب الكوارث الطبيعية فإنه يعفى من الدفع ويمدد الإيجار لعام آخر.
    وفي المقاطعات الكبيرة الواسعة العائدة للملك والمعابد يعمل خدم خاصون وعبيد. وعند الأعمال الكبيرة كالحصاد مثلا كان يتم إيجار أعداد كبيرة من العمال الاضافيين تدفع لهم أجور مقطوعة وعلى الأغلب منتوجات عينية. هؤلاء العمال يأتون عادة من المناطق الجبلية المحاذية للبلاد، حيث كانت الزراعة غير متوفرة وأسباب الحياة صعبة وغالبا كانوا يستوطنون عادة في مدينة بابل.
    وقد كان الملوك البابليون يوزعون الأراضي عادة على منتسبي الجيش، فتكون فيما بعد غرثا لأولادهم. وهذه الطريقة في توزيع الأراضي جرت بشكل خاص في عهد حمورابي. وكان ينبغي على الجنود أن يعملوا في الأراضي الموزعة عليهم وكان المحصول بمثابة راتب لهم لقاء خدماتهم في الجيش. وفي النصف الثاني من الألف الثاني كان الملوك الكاشيون يقدمون الأراضي إلى بعض الأشخاص والمعابد والكهنة وهذه الأراضي غير خاضعة للضرائب. وهذه الاجراءات من الهدايا تكون نافذة المفعول بعد أن يتم تحديدها بأحجار الحدود المسماة (كودورو) التي تحتوي على نصوص كتابية. لقد بقيت هذه الطريقة معروفة حتى وقت متأخر. وهكذا أعار الملك البابلي (مردوخ - ابال – ايدينا) أملاكا واسعة لأحد معتمديه من ذوي الشأن وقد ثبت ذلك في إحدى الوثائق التي نحتت بشكل رائع وأصبحت مستنداً نافذ المفعول. وقد جاء في النص: ( كل من أراد أن يدمر هذا الحجر التذكاري في الأيام المقبلة، سواء أكان ملكا أم ابن ملك أم موفظفاً أو محافظاً. واراد أن يستولي على هذا الحقل، الذي أهداه الملك البابلي مردوخ - ابال – ايدينا) إلى محافظ مدينة بابل بيل - آخه- ربا، فليصبه أنو وبيل وأيا الآلهة الكبار باللعنة التي لا تزول والعمى والصم والشلل وأن يجرجر نفسه بالآلام).
    كانت أوضاع الفلاحين ومستأجري الأراضي المادية بشكل عام لا يحسدون عليها، إذ أنهم كانوا يعملون بالدرجة الأولى ما فيه الكفاية لتسديد الضرائب والفوائد في أوقاتها المعينة. وبعد ذلك عليهم أن يفكروا في إحتياجاتهم الشخصية ومتطلبات عوائلهم. وكان المحصول غالباً لا يسد الحاجة، لذلك يضطرون إلى قرض البذار من الملاكين الكبار والتجار. وقد كانت الفوائد العالية للقروض تأتي على الباقية من المحصول فيبقى الفلاح رازحاً تحت وطأة الديون تدفع به الحاجة إلى أن ينحدر إلى طبقة العبيد. الأراضي الخاضعة للزراعة محدودة جدا، وقد بلغت في بابل عامة 375 كم طولا و 71 كم عرضا. وكانت قد قيست ووزعت بشكل دقيق حتى يتم إستغلالها بشكل تام وفي عهد حمورابي كان الفلاح الغني يملك 26 موركن (قياس ألماني قديم. الموركن الواحد = 2500 م2)(وحدة القياس المستعملة قياس ألماني لأن الكاتبة هي كاتبة ألماني) والفلاح الصغير 8-12 موركن. وفي العهد البابلي الحديث بدأت الأراضي تنحصر في أطراف المدينة. إذ أن الحقول كانت قد بدأت تتقلص إذ لا تتجاوز الموركن الواحد حيث استعملت لبساتين صغيرة.
    وبالنسبة إلى الثروة الحيوانية كانت الحقوق والواجبات مشابهة لما كان عليه بالنسبة إلى الزراعة. وكانت القطعان الكبيرة تعود غالبا إلى البيت الملكي أو المعبد. وكان هؤلاء يؤجرون القطعان للمتعاقدين الذين يوظفون بدورهم الرعاة ومربي الماشية لهذا الغرض. وكان الرعاة يقبضون أجوراً زهيدة جداً. وكان المتعاقد يستطيع أن يستقطع من الأجور فيما إذا أصيبت الحيوانات بضرر ما. وقد جاء في المادة 263 من قوانين حمورابي: (إذا شردت بقرة أو شاة من الراعي الذي سلمت إياه فيجب عليه أن يعوض من ماله بقرة ببقرة أو شاة بشاة. وبالإضافة إلى ذلك كان على الراعي أن يهتم إهتماما كبيرا بقطيعه ولا يدعه يرعى من زرع الآخرين وإلا كان عليه أن يعوض الخسائر التي يلحقها بالناس وكانت رؤوس المواشي تحمل علامات فارقة حتى يتسنى لأصحابها التعرف عليها بسهولة. وفي عهد نبوخذنصر بدأت تربية المواشي تتركز في أيدي المتعاقدين المحدودين الكبار الذين كانوا يستلمونها لمستخدميهم ويستحصلون على الضرائب فقط.
    وكان نفس الشيء ينطبق على الثروة السمكية، إذ كانت الاسماك تربى عادة في أحواض خاصة وبكميات كبيرة. وهكذا نرى أن رئيس عبيد الثري انليل- نادين- شوم قد استأجر من هذا ثلاثة أحواض سمك وكان قد توجب عليه أن يقوم بـ: (دفع نصف تالينت فضة مع تقديم وجبة يومية من السمك لمائدته إعتباراً من يوم الاستئجار). وكان رئيس العبيد يعين المراقبين والسماكين ويأمرهم أن يزودوه خلال عشرين يوماً بـ (خمسمائة سمكة من النوع الجيد).
    وفيما إذا لم يستطيعوا إنجاز ذلك يتوجب عليهم خلال خمسة أيام إضافية صيد ألف سمكة.



    الصور المرفقة






    وكان البابليون إلى جانب إنتاحهم الوافر من الزراعة والثروة الحيوانية، يعملون في ميدان التجارة الناجحة وبما أن البلاد لا تملك ثروات أرضية جاهزة، فإن السكان منذ العهود القديمة يدخلون في مبادلات تجارية مع الشعوب والبلدان الأخرى. وهكذا أعطت التجارة العديد من المدن أهمية كبيرة لا سيما تلك التي لها موقع جغرافي جيد والتي كانت تمر عبرها القوافل التجارية. لقد تطورت بابل تحت حكم حمورابي لكونها تقع في مفترق الطرق التجارية والتي أدت إلى أن تتحول إلى مدينة ثرية. لقد كان البابليون لا يقتصرون على الاتجار بمنتوجاتهم الخاصة فحسب، بل كانوا يعملون كوسطاء وتجار ناجحين لبلدان أخرى ويحصلون من وراء ذلك على الأموال الطائلة. لقد أصبحت بابل البلاد المثلى للتجار ذلك أنه قد تطور فيها فن الشراء والبيع واقتصاد النقد والمقايضة في وقت مبكر وبشكل جيد.
    لقد كان الاقبال جيدا وعاليا على الانتاج الزراعي البابلي من قبل البلدان المحيطة ببابل التي كان لها إنتاج زراعي ضعيف لقد كانت هذه البلدان لا تستورد من بابل الحبوب والطحين والبقول فحسب بل التمر وزيت السمسم والأسماك المجففة وكذلك الأقمشة البابلية والخزفيات تدخل ضمن الصفقات المربحة، إذ أنها تمتاز بنوعيتها الجيدة وشكلها الحسن. وكان الحرفيون البابليون يصنعون من مختلف المواد الخام أدوات فنية جميلة للتصدير. ومن هذه المصنوعات الأختام الاسطوانية من الأحجار شبه الكريمة، والتي كانت تصدر إلى بلدان البحر المتوسط حتى اليونان وبالإضافة إلى الحلي يصدرون دهون التجميل والعطور وغيرها من المواد الكمالية.
    ومن المواد الرئيسية التي تستوردها بابل الأخشاب والمعادن والأحجار، إذ أن هذه المواد غير متوفرة في جنوب بلاد الرافدين، كما وأن خشب النخيل لا يصلح للمباني الضخمة. وقد كان الملوك يحتاجون إلى الأخشاب الجيدة والطويلة التي لها قابلية الاستدامة، والتي تستعمل لسقوف غرف القصور والمعابد. وقد كان خشب السدر مرغوبا جداً ويستورد من أمانوس ولبنان إلى بابل. ولقد ذكر نبوخذنصر في نصوصه حول إستعمالات خشب السدر: (لقد إخترت أحسن أخشاب سدري، التي حلبتها من غابات لبنان الرائعة، لبناء سقف ايكوا المقدس).
    وللحصول على هذه الأخشاب الثمينة كانوا يقومون بإرساليات بل بحملات عسكرية. وكانت أخشاب السدر تجر من لبنان إلى الفرات ومن ثم تصل عائمة إلى بابل. وكانت تستورد للبناء بشكل خاص أنواع أخرى من الأخشاب مثل السرد والبقس.
    زكان البابليون يحتاجون أيضا إلى أحجار البناء ولا سيما لتغطية الأسوار أو البلاط للمباني المتميزة بالىلهة. وكان النحاتون يحتاجون إلى أحجار البازلت والديوريت والمرمر ليتمكنوا من إنجاز تماثيلهم ومنحوتاتهم. وكانت التجارة تجلب إلى البلد أنواع مختلفة من الأحجار الكريمة التي كانت تصنع منها الحلي لتماثيل الآلهة وللحياة اليومية. ومن الأحجار الكريمة المرغوبة حجر كريم أزرق كان به فضل السحر ضد الأرواح الشريرة، وكان يستورد من المناطق الشرقية كافغانستان وإيران. وكانت بابل تصدر بدورها هذا الحجر كمادة خام وكمنتوجات جاهزة إلى بلدان أخرى في مقدمتها مصر. وكانت أرمينيا وكذلك الجزيرة العربية ترسل الكثير من أحجارها الكريمة إلى بلاد الرافدين. وكان يجري صيد اللألئ التي تسمى (أحجار البحر) من الخليج العربي.
    ولصنع أدوات الانتاج والحلي لا يمكن الاستغناء عن المعادن ولاسيما النحاس. وكانت تستورد بالدرجة الأولى من آسيا الصغرى، ذلك أنه ثمة كميات كبيرة منها في جبال أرمينيا والقفقاس والسواحل الغربية. وللحصول على البرونز فإن الحاجة ماسة إلى القصدير الذي كانت القوافل التجارية تجلبه غالبا من مناطق بحر القزوين وخراسان. وكانت هذه المناطق الجبلية وكذلك طوروس موردا هاما للفضة التي لها أهمية كبيرة لأنها أساس التعامل بالنقد وكذلك الذهب يستورد من المناطق الجبلية. وكان الملوك البابليون يحصلون على الذهب غالبا من الفراعنة المصريين الذين كانوا يجلبونه من مناطق النوبي وفي نهاية الألف الثاني بدأ الاقبال على الحديد، ذلك أنهم راحوا يقدرون هذه النوعية الخاصة التي لها خاصيّة المتانة والاستدامة وكان الحديد لإذ ذلك أغلى من الذهبوأكثر إقبالا عليه، غذ أن تملك الأسلحة الحديدية كان يلعب دورا كبيرا في الحروب. وكانت مصادر الحديد الرئيسية هي أيضا ارمينيا والقفقاس وجنوبي آسيا الصغرى مع طوروس. وكانت التجارة تجلب إلى جانب هذه المواد الخام الكثيرة من البضائع الضرورية. ولخدمات المعبد وكذلك صناعة العطور تستورد المواد العطرية مثل الآس والبخور من الجزيرة العربية والهند. وكان الزيت المستخرج من السرو والآس والسدر يستورد بكميات كبيرة للأغراض الدينية والنظافة الجسدية. وللأغراض الكمالية كأواني التجميل والأمشاط وابر الزينة، كان يستعمل العاج الذي يتم الحصول عليه عن طريق التجار السوريين والفينيقيين وكان العاج لا يستورد عادة كمادة خام، إنما كبضائع جاهزة، وكان الاقبال شديدا عليه من قبل القصر الملكي.
    وحيثما وجدت التجارة المزدهرة، ينبغي أن توجد طرق مواصلات ورغم أن الطرق كانت غير مبلطة فإن الخطوط منتشرة حيثما توجّه الانسان، حيث القوافل تبلغ أهدافها بشكل أسرع وأحسن. وفي مواسم التجارة المنتظمةتكون القوافل محملة بثروات طائلة لذا تنتصب في الطرق الهامة مراكز للحراسة مسافة كل ساعتين. في الصحراء مواقع محصنة صغيرة تتوفر بالقرب منها ينابيع المياه ويمكن أن يقضي هناك فترة إستراحة سعاة البريد الملكي من حاملي الوثائق الهامة والرسائل أو الهدايا التي كانت ترسل من قصر ملكي إلى آخر.
    وكانت هذه الطرق التي تحتل عادة في أوقات الحرب من قبل الجيش، تحتوي على علامات تعين الاتجاهات والمسافات من منطقة إلى أخرى. وهذه العلامات الهادية تفيد التجار في معرفة المسافات التي سيقطعونها سلفا وفي ما يحتاجون من الوقت والتجهيزات.
    أما بعض طرق التجارة الخارجية الهامة فتنتهي في السواحل السورية – الفلسطينية إذ تتجه بإمتداد الفرات ثم تعرج في أواسطه إلى واحة تدمر فسوريا الوسطى أو تمتد أبعد باتجاه الفرات إلى حلب. وبالامكان السفر من كاركاميش إلى ىسيا الصغرى. وأما الأنهر داخل بلاد الرافدين فتمتد بشكل مواز للأنهر والقنوات الكبيرة أما الطرق المحاذية لدجلة والزاب الكبير فإنها تمتد إلى جبال أرمينيا. وعبر الممرات الجبلية الشرقية كان بالامكان بلوغ مناطق آواسط آسيا والهند. ويحتمل أن ثمة طريق بحري يبدأ من الخليج العربي بموازاة السواحل وينتهي في الهند وكان الطريق البحري إلى مصر يمتد حول الجزيرة العربية فالبحر الأحمر.
    كانت المسافات التي ينبغي على التجار والمسافرين قطعها هائلة جدا. ومن وسائط النقل التي كانت تستعمل بشكل دائمي، الحمار حيث كان الحمل يوضع مباشرة على ظهره. وللبضائع الثقيلة كانت تستعمل العربات ذات العجلتين أو الأربع عجلات وتجرها الحمير. وكانت هذه الواسطة غير صالحة للطرق الرديئة، إذ أنها كانت تقف في الأوحال ومن الصعب تحريكها. بالإضافة إلى ذلك كانت المجاري المائية تشكل أيضا ما نعا كبيرا ونادرا ما كانت الخيول تستعمل لهذا الغرض، ذلك أن الحصول عليها كان يكلف كثيرا. وأما الجمل فنظرا لتكاليفه القليلة إستعمل كواسطة نقل ولو أن ذلك جاء في وقت متأخر نسبيا، وقد لعب دورا كبيرا في التجارة منذ أواخر الألف الثاني.
    وكان المرء لا يغامر بالسفر لوحده وذلك بسبب المخاطر الناجمة عن مجاهل الطرق. وقد كانت غارات اللصوص التي تقوم بها القبائل الرحل في الصحارى تنشر الخوف والفزع الشديدين. وكانت القبائل تجرد التجار من جميع ممتلكاتهم بما فيها من جيوانات وكانوا يجردونهم أحيانا حتى من ملابسهم وحاجياتهم الشخصية، وكان مصيرهم الابادة عند إبداء أق حركة مقاومة.
    لذلك كانت القوافل تخرج في مجاميع غفيرا حتى تضمن سلامة بضائعها. وكان المسافرون قبل بدء الرحلة يتجمعون في المدن الكبيرة وعند نقاط إنطلاق القوافل مشكلين مجموعات كبيرة. لذلك ينبغي عليهم أن ينتظروا أحيانا أسابيع طويلة حتى يتم تجمع عدد كبير من المشتركين. وكان التجار عادة لا يملكون حيوانات النقل، بل كانوا يؤجرونها من أحد رؤوساء القوافل الذي كان يقود الرحلة بنفسه ويتحمل نسؤولية نقل وضمان البضائع المسلمة إليه وفي الطرق الطويلة يتفق مسؤولو القوافل فيما بينهم على الرحلة المشتركة حتى لا تبقى القافلة تقطع مجاهل الطرق لوحدها. كما كانوا أحيانا يفكون أحمالهم في منتصف الطريق لتحملها مجاميع من القوافل مرسلة من المدن المعنية. وبذلك كان التجار يوفرون عناء البعد عن بلدانهم. لقد كانت حركة المرور مزدهرة بين مراكز التجارة كتدمر الواقعة في قلب الصحراء، ولذلك كانت التجارة منتعشة أيضا. وقد كان يشتري رؤساء القوافل البضائع من المناطق التي يمرون منها فيعرضونها للبيع في بلدانهم.
    في بابل يجري النقل عبر الأنهر والقنوات. وكان السفر في البر معقداً، إذ كانت الأنهر والقنوات تؤدي إلى التعرجات وتطويل الطريق وبالامكان عبور الأنهار في المناطق الضحلة. إذ كانت الحيوانات تسبح والرجال يعبرون بواسطة القرب المنفوخة وأما البضائع فكانت تنقل بواسطة العبّارات وعند الأنهر العريضة تستعمل الجسور العائمة. لقد كان العبور ضد التيار صعبا جدا لا سيما وأن للأنهار جريانا شديداً. كان الفرات إعتباراً من بابل، ودجلة إعتباراً من أوبي صالحين لمواصلات السفن. لقد كان التيار يحول دون أن يلعب الجذف أو الشراع دورهما، ولذلك كانت السفن تجر بالحبال.
    وكانت السفن في بابل عادة تفكك وتنقل في البر ويحتمل أن تكون السفن قد صنعت لأول مرة في مناطق الأهوار بين نهري دجلة والفرات وذلك من القصب والقار. وقد استعمل البابليون الخشب في بناء السفن معطين إياها مختلف الأشكال. كانت للسفن دعامات أمامية وخلفية عالية زخرفت برؤوس حيوانات مختلفة. وتتكون من قطع تتداخل مع بعضها وترتفع الصارية في منتصف السفينة. وأما السفن المستعجلة فلم تكن كبيرة وغاطسها صغير والوزن الصافي لحمولة السفن الكبيرة يتكون من 10-16 طناً.
    ومن وسائط النقل التي كانت معروفة في بلاد الرافدين قارب مدور صغير أشبه بالسلة يسمى القفة. ويصنع من أغصان الصفصاف والقصب المغطى بالجلد ويطلى بالقار وكان التجار القادمون من الشمال ينقلون بضائعهم بالقوارب إلى جنوب بابل. وهناك يبيعون بضائعهم وغالباً أجزاء السفينة أيضاً. وكانوا يبقون على القرب لشد قارب جديد. ولنقل البضائع الثقيلة كان ثمة طوف يدعى (كالاكو) (أي الكلك .م) ويتكون من ألواح مرصوصة فوق مجموعة من القرب المنفوخة.
    وكان التجار عادة يؤجرون السفن ويؤجرون لهذا الغرض ملاحاً ماهراً يتحمل مسؤولية سلامة النقل والوصول المضمون. وقد جاء في المادة 237 من قوانين حمورابي:
    (إذا أجّر أحدهم ملاحا وسفينة حملّها بالحبوب والصوف والزيت والتمر أو أية حمولة أخرى وغرقت السفينة نتيجة إهمال الملاح وأتلفت حمولتها يجب على الملاح أن يعوّض عن السفينة التي أغرقها وعن كل ما تسبب في إتلافه).
    ولما كان التجار لا يرغبون السفر لوحدهم سواء عن طريق البر أم البحر ، لذلك يتفق عدة تجار فيما بينهم ويبدأون بالرحلة ويتقاسمون الربح بعد الصفقة الناحجة. ولكي يقتصد التاجر عدة أسابيع أو أشهر من وقته ولكي لا يجشم نفسه عناء السفر فإنه يوظف مساعداً يقوم له بالمهمة معطيا إياه كافة الصلاحيات ولكنه يجب أن يقدم له قائمة كاملة بالحسابات ويتلقى هذا المساعد أجوراً يومية.
    وبالنظر للدور الكبير الذي كانت تلعبه التجارة فإن الملك كان يطمع في إقتسام الأرباخ. وكان معظم التجار والمستوردين الكبار يعملون بأوامره. وكانت التجارة الكبيرة ذات المستويات العالية تحتاج إلى الموافقة الملكية التي كانت تتم بدفع ضرائب. ويتمتع التجار مقابل ذلك بحماية خاصة من الملك الذي كان يضمن بدوره سلامة المرور من خطوط المواصلات. ويحصل المعبد أيضاً على حصته ويطمع في لعب دور الموجه في هذه الصفقات.
    وثمة إتفاقيات بين الدول تضمن سلامة التجارة والمارة بأراضيها. وكان ينبغي دفع الضرائب الكمركية إلى الدول التي تمر فيها القوافل. ورغم كل شيء فإن غارات اللصوص كانت تشّن دوما على القوافل ويقتل التجار، وكان الملوك البابليون يضطرون إلى التدخل ويشترطون تقديم الحساب القاسي ويكتب أحد الملوك إلى آخر ما يلي: (لقد إعتّدي عليّ في بلدك. أخرجهم –أي اللصوص- إلى الموضع وأرجع المبالغ التي سلبوها. إقتل الناس الذين قتلوا رجالي وانتقم لدمائهم ولكنك إذا لم تقتل أولئك الناس، فستبدأ إما قوافلي أو سعاتك مرة أخرى بالقتل وبذلك تنقطع المواصلات فيما بيننا). لقد كان الملوك يضطرون لإعادة الأمن إلى مجراه الطبيعي بالقبيام بحملات تأديبية ضد القبائل الرحل حتى يكفّوا عن غاراتهم اللصوصية. وكان التجار يدفعون غالباً الضرائب إلى القبائل الرحل حتى يتمكنوا من المرور بأراضيهم بأمان وكذلك عن مهمة موافقتهم لقوافلهم.
    ورغم الخسائر والضرائب التي كان يدفعها التجار فقد كانت أرباحهم كبيرة جداً. وكانت صفقة ناجحة واحدة تكفي بأن تؤدي إلى الثراء. كانت التجارة في بابل تتمركز في نقاط معينة مثل الكراسي وعلى مقربة من البوابات، حيث كانت البضائع تصل عن طريق البر والنهر. وكانت البضائع تنتقل بين ايدي السماسرة والمشترين العاديين. وتنظم الأسواق حسب نوعية البضائع يديرها غالبا تجار صغار يبيعون بضائعهم مباشرة إلى الناس.
    ولقد تطور أسلوب المبادلة الذي كان معروفا منذ العهود السومرية إلى أسلوب القيمة المعادلة. وكان قياس السعر في البدئ هو الحبوب التي كانت تنتج بشكل رئيسي ثم تحول القياس إلى قطعة معدنية أساسها الفضة. وكان التعامل يجري حسب ثقلها سواء في شكل قطع أو حلقات أو سبائك. وكانت وحدات الوزن الدارجة في البلاد كما يلي:
    شي واحد= 0.0467 غم
    شقل واحد= 8.416 غم
    60 شقل= مينة واحدة
    مينة واحدة= 0.5 كغم
    60 مينة= تالينت واحد= 30.5 كغم
    وفي عهد نبوخذنصر راح الشقل بمثل اصغر الوحدات بدلا من الشيء.
    ولقياس الحجوم كانوا يستعملون سيلا= 0.842 لتر وفي بعض المدن والمعابد كانت تستعمل وحدات أخرى للقياس. ومن القياسات المعروفة جداً، القياسالذي كان يستعمل في زيار والذي كان يلعب دورا بارزا في الاقتصاد.
    وكان معظم البضائع والمعادن الأخرى تقدر أثمانها قياسا بالفضة. وبمرور الزمن تغير هذا التقليد، إذ أن الاسعار قد إرتفعت بشكل ملحوظ وهكذا كان يتم الحصول في زمن حمورابي عللا شقل واحد من الذهب مقابل ستة شقلات فضة. وفي العصر البابلي الحديث إرتفع سعر الذهب بحيث وصل إلى 10-13 شقل فضة. وكان الشقل الواحد من الفضة يعادل 120-140 شقل نحاس وهذا يرينا السعر الزهيد للنحاس. وفي الألف الثاني كان الحديد لا يزال غاليا. وكان ينبغس دفع 8 شقلات فضة لشقل واحد من الحديد. وفي القرن السادس قبل الميلاد تغيرت هذه النسبة إلى 125:1 وبهذا كان يتم الحصول على 125 شقل من الحديد مقابل شقل واحد من الفضة. وكان سعر الفضة متعلقا بنقاوتها. وتجنبا للتزوير كانت السبائك والقطع تختم بخم معين ثم تنول للتداول. وكانت هذه القطع هي الأصول الأولى للنقود المسكوكة. وأسعار البضائع قد وضعت بأوامر ملكية حسب القطع المتداولة. وكان الملوك يهتمون دائما بإيجاد حياة اقتصادية سليمة ويحولون دون إفساد المجال لرفع اسعار المواد الغذائية وأدوات الانتاج. إلا أنه في الواقع كان المشتري يدفع عادة أعلى من الأسعار المحددة. وكان الحكام بإجراءاتهم هذه إنما يتوخون الدعاية فحسب والتظاهر بوجود الرفاه في البلد. ورغم بعض المحاولات فإ الأسعار كانت ترتفع بمرور القرون بشكل أسرع من إرتفاع الأجور. أية أسعار إذن كان يجب أن يدفعها السكان للمواد الغذائية الرئيسية. في منتصف الألق الثالث كان يستلم المرء لشقل واحد من الفضة 300 سيلا= 121 لتر من الحبوب. وفي عهد حمورابي كان المشتري يحصل لنفس المبلغ 150-180 سيلا وفي وقت متأخر على 90 سيلا. وفي أوقا العوز كحالات حصار المدينة من قبل العدو كانت ترتفع أسعار الحبوب بشكل خيالي. وفي السوق السوداء كان يتم بشقل واحد على 20 سيلا حبوب. وفي عهد الملك نبوخذنصر إستقرت أسعار الحبوب من جديد واكن يتم الحصول على 180 سيلا من الحبوب مقابل شقل واحد. وفي العهد البابلي الحديث كان يتم الحصول على 180 سيلا من التمر أو 3-4 سيلا دهن مقابل شقل واحد من الفضة. ومنذ عهد حمورابي إرتفعت أسعار الدهن ثلاثة أضعاف وقد كان المحصول على بضعة رؤوس من المواشي من قبل الفلاحين أمراً صعباً جداً. وينبغي دفع 20 شقل فضة للحصول على بقرة واحدة و30 شقل للحصول على حمار واحد. وكانت الحمير الجيدة إغلى بكثير بحيث كان السعر يصل إلى 120 شقل أما الشاة فكان شراؤها يكلف من شقل ونصف إلى شقلين. ومنتوجات الحرف اليدوية غالية نسبيا، ذلك لأن الأخشاب كانت تستورد من الخارج. هكذا نرى أن سعر المحراث الخشبي كان 5 شقلات وباب البيت- الذي كان على المستأجر أن يجلبه بنفسه- من 1-2 شقل وكان السكان العاديون يصنعون ملابسهم شخصيا في بيوتهم، ولكن الاقمشة كانت تشترى جاهزة وكان يمكن شراء ملابس جاهزة أيضاً والسعر متعلق بالنوعية ونوعية الخياطة. وهكذا كان يمكن شراء ثوبين وصدرية بست شقلات وغطاء الرأس بثلاث شقلات. ومن الصعوبة إيجاد تقدير صحيح لحقيقة الأجور، إذ أن معظم الأجور كانت تدفع بالمواد العينية كما وكان تنظيم التعامل مختلفا.
    وكان يتم إستئجار العمال لعمل معين- لموسم الحصاد أو لسنة كاملة- وكانوا يستعملون بالإضافة إلى الطعام اليومي ملا يزيد عن الستة شقلات فضة في السنة وأحيانا أقل من ذلك. أما العوائل التي كانت تؤجر أطفالها القاصرين للعمل فكانت ترضى باقل الأجور. وكان ثمة متعاقدون يؤجرون أعداداً كبيرة من العمال يقومون بدورهم بتأجير الآخرين فيكسبون من وراء ذلك الأرباح.
    كان وضع العاملين بشكل عام سيئاً جداً. رغم التعليمات الملكية في تحديد الأجور واتباع سياسة معينة في ذلك، إذ أن تلك التعليمات لم تراع في متطلبات الحياة اليومية. وكانت الثروة قد تمركزت في أيدي فئة صغيرة من أصحاب المال. يتلاعبون بالأجور كيفما شاؤوا. وكانت بعض البيوت المصرفية التي يتوارثها من جيل إلى آخر، أمثال (اكيبي وأولاده) في بابل و (موراششو وأولاده) في نفر كانت تلعب دوراً بارزاً في الحياة الاقتصادية كانوا لا يتعاملون بإقراض النقود وبيع وشراء مختلف المنتوجات المحلية والزراعية فحسب، بل يتعاملون بمختلف اضرب السوق السوداء والمضاربات المالية. وحتى أن المتوسط لتزويد المواخير وبيوت الدعارة بالعاهرات يجري عبر دار كيبي. كما أن الزواج المنتظم بين العوائل الغنية يؤدي إلأى تمركز الأموال وبسط السيطرة.
    لقد أدى عدم القدرة على الدفع عند أوسع السكان إلى إنتعاش كبير لاقتصاد الاقراض الذي يؤدي بدوره إلى إستغلال أشد وكانت النسبة المحدودة للفوائد – 20% للنقود و33% للحبوب ترتفع باستمرار وتؤدي إلى إنتعاش الربا.
    وعندما يضطر الفلاح إلأى الاستقراض في الربيع لغرض شراء الحبوب واشغال مزرعته فإن ثمن المحصول حسب السعر المتداول آنذاك ويكون تسديد القرض بعد الحصاد مباشرة حيث تكون المحصولات بخسة وقتئذ وعلى الفلاح أن يدفع غلالاً أكثر بكثير من المبالغ التي إستدانها، وبذلك يحصل المقرض بالإضافة إلأى الفوائد، على فروق السعر بالنسبة للمحصول كربح إضافي وضمانا للقرض يعرض المقترض أرضه أو بيته أ, أحد أفراد عائلته أو عبيده إن كان ذلك متوفراً.

    الصور المرفقة








    __________________

    وكان من الضروري في عهد حمورابي وكذلك في العهد السومري، تسجيل العقود بين المشتري والبائع حتى تكون نافذة المفعول أمام القانون وقد جاء في قوانين حمورابي: (إذا إحتفظ أحدهم عنده أو إشترى فضة أو ذهبا أو عبداً أو عبده أو بقرة أو شاة أو حمارا أو أي شيء آخر من رجل حر أو من عبد أحدهم، بلا شهود أ, عقد، يكون هذا الشخص قد إعتبر سارقاً فيقتل).
    يمكن الاكتفاء بشاهد واحد بعد إنتهاء عقد الصفقة. وكان يجري تسجيل العقد عادة على لوحة طينية ةبهذا لا يبقى مجال للإعتراض، إذ أ، كل شيء كان يسجل بالتفصيل. وعند الصفقات الكبيرة تبيع الأموال غير المنقولة والعبيد أو المواشي كانت العقود الكتابية ضرورية جداً وعلى المشتري بالإضافة إلى دفع سعر الشراء تقديم الهدايا إلى البائع والشهود ودفع التكاليف المترتبة على ذلك.
    ومن ضمن الذين كانوا يتكالبون على شراء الأراضي عادة الحرفيون الذين كانوا يثرون بسرعة فإلى جانب الزراعة والتجارة لعبت الحرفة اليدوية دوراً هاماً في الحياة الاقتصادية وكانت الحرفة اليدوية لا تنتج للسوق المحلية فحسب، بل للتصدير أيضا. وبمرور مئات السنين تطورت هذه المهنة وتوسعت إلى أقسام مختلفة. ومن نفر قليل من الصناع الذين يحتفظون بأسرار المهنة، تطور جيش من العاملين المختصين في حقل الحرفة اليدوية والذين كانوا يشكلون جانبا كبيرا من السكان. وقد أدت نشاطاتهم في حقل الانتاج إلى تطوير المدن والأرياف وزيادة ثرواتها. وكان الملوك والكهنة والسكان العاديون لا يستطيعون الاستغناء عن خدماتهم. ولذلك يحاول كل حاكم توفير عدد كبر من الحرفيين الكفوئين بقدر الامكان في بلاده ممكن يستطيعون إنجاز جميع الأعمال الضرورية لأبّهته وراحته. وهكذا كان الحرفيون يأتون من آسيا إلأى بابل. وكانوا يأتون أحيانا باختيارهم للحصول على إمتيازات خاصة وحياة جديدة أو يجلبون في الحملات العسكرية وقد اتبع نبوخذنصر الثاني نفس طريقة أسلافه فجلب من أورشليم بعد إحتلالها جميع الحدادين إلأى بابل وأسكنهم فيها.
    وكان الحرفيون موضع إحترام من قبل الجميع، إذ أن أصولهم ترجع إلى الآلهة. وقد جاء في النصوص بأن الآلهة أيا اله أعماق البحر قد وهب البشر المعرفة للقيام بمختلف المهارات الفنية وقد مجدت كافة الحرَف التي لكل منها آلهة خاصة بها في قصة الخليقة البابلية.
    وكان مركز الحرفي الجيد في المجتمع إعلى بكثير من مركز الفلاح أو الكاسب أو العامل غير المتعلم. إلا أنه مع إرتفاع عدد الحرفيين الماهرين زالت هذه الفروق. وكان الحرفيون في عهد نبوخذنصر ينتمون إما إلى طبقة الأثرياء أو المعدوين وذلك حسب ما بحوزتهم من الممتلكات ولم يعودوا يوضعون فوق المراتب الأخرى نتيجة مهاراتهم الفنية ورغم ذلك ثمة في العهد البابلي الحديث حرفيون وفنانون يقدرون بشكل غير إعتيادي ولهم مركز محترم في المجتمع. وفي كل الأحوال لا يمكن أن يكون قد حدث ما جاء في النص الذي يقول: (إن الفنانيين يتربعون على قمة الحكم في البلد، وإذا كان الملك لا يحترمهم فإنه سيفقد بلده). وأما الحقيقة فإن الثروة والممتلكات هما اللتان كانتا تتربعان فوق الذكاء والمهارة.
    كانت تفاصيل فروع الحرفة اليدوية قد نظمت بضشكل صارم. وفي المدن الكبيرة كبابل تقع الورشات في شوارع أو أطراف معينة. ويمكن مثلا البحث عن شارع الصاغة أو شارع الغزل أو شارع النجارة إلخ... وكان هذا التنظيم عمليا للسكان، إذ إنهم يعثرون بسهولة على ممثلي الحرفة المعينة، ويختارون بذلك أحسن البضائع وأدى وجود إمكانية المقارنة بين البضائع إلى حصول منافسة بين الحرفيين، حيث كان كل واحد يحاول أن ينتج نوعية أحسن من غيره. وبالطبع لم يكن مسموحا له بغش زبائنه. كان منتمو مختلف الفئات الحرفية قد إنتظموا في هيئات حرفية تقوم بتنظيم الأشعار. وكان رئيس الهيئة يمثل زملاءه في العمل في مختلف المجالات، وكان مسؤولا أمام الموظفين والملك عن دفع الضرائب وله حق التوكيل الكامل للتةقيع على مختلف العقود باسم الهيئة وفي عهد نبوخذنصر بدأت بوادر إنحلال هذه التراكيب، إذ أن المعابد الكبيرة أو التجار الأغنياء والملاكين الكبار راحوا يشغلون أعدادا كبيرة من الحرفيين. ومن المحتمل أن هؤلاء لا ينتمون إلى الهيئات الحرفية بل كانوا خاضعين كعمال أجراء إلى اصحاب العمل. كانت للورشات الكبيرة إنتاجية عالية وبذلك تستطيع ببضائعها أن تزيح الحرفيين الصغار من السوق أو على الأقل خلق المتاعب لهم. وكان هؤلاء يضطرون إلى غلق حوانيتهم والعمل كعمال أجراء في الورشات الكبيرة.
    وللحصول على العمل في إحدى الحرف ينبغي على طالب العمل أن يكون قد إختار مرحلة معينة في تلك المهنة. وإذا أرسل أحد الآباء إبنه مثلا إلى أحد النساجين للتعليم يتوجب على المدرس أن يعلم تلميذه بشكل جيد ويطلعه على أسرار المهنة. وإذا لم يفعل ذلك عليه أن يقدم تعويضا. وفي عهد نبوخذنصر كانت معظم العوائل تقدم العبيد الصغار لتعليم مختلف المهن، إذ أن ذلك كان موردا جيدا للكسب.
    إن (رئيس الحرفة) لا يستلم أي مبلغ نقدي مقابل تعليمه. لقد كان آباء التلاميذ أو اصحاب العبيد يجهزونه بالملابس واحيانا بالمواد الغذائية. وكان الاسطة ربّ العمل بالطبع يشغّل عماله في مختلف المجالات سواء أكان ذلك في البيت أم في البستان أيضا. ورغم ذلك عليه أن يعلم تلاميذه (الصناعة) حتى لا ينال العقاب. كانت فترة التعليم عند الخياط قصيرة جدا لا تتجاوز السنة وربع السنة. وإذا أراد التلميذ أن يتعلم صناعة القماش يحتاج إلى فترة لا تقل عن السنتين وربع السنة. وفي أعمال النحت يحتاج إلى معرفة أكثر تستغرق مالا يقل عن أربع سنوات. واكن من أصعب الأعمال الحياكة والنسيج ولاسيما صناعة الاقمشة المنقوشة والأغطية والسجاد وكان التلميذ يحتاج إلى خمس سنوات. وغالبا ما كان التلميذ بعد الانتهاء من فترة التعلم يبقى عند رب العمل فيرتقي إلى رتبة زميل في العمل ويحصل عى الأجرة لقاء عمله. وإذا كان الزميل عبدا فإن مالكه هو الذي يستلم الأجر. وعلى العبد أن يدفع شقلا واحدا عن كل شهر ويحصل من سيده على الأكل والملابس الضرورية. وإذا كان نشيطا جدا فبإمكانه توفير بعض النقود.
    يتعلق تقسيم العمل لمختلف المهن بالدرجة الأولى بالمواد الخام المتوفرة محليا ومن الحرف السحيقة في القدم والهامة صناعة الاواني التي بدأت بها البشرية منذ اقدم العصور وكانت لا توجد في الداية أدوات مساعدة حيث تصنع باليد قدور خشنة من الطين. إلا أنه سرعان ما تعلم الانسان صنع القوالب للصب وفي وقت متأخر من العهد السومري إستعملت الطريقة الدوارة. كانت الأواني القديمة لا تحرق بل تجفف في الشمس. وعلموا فيما بعد بأن عملية الحرق تؤدي إلى تقوية الأواني وحفظ الماء من التسرب وبذلك بدأوا باستعمال أفران بسيطة للحرق. لم يستعمل الناس الأواني للحاجات اليومية الضرورية حسب، بل راحوا يطورون منها فخاريات ملونة بزخارف محلية. ومع تقدم فن الصناعة، كانت ترتفع نسبة الانتاج وتحولت الفخاريات إلى بضاعة لجماهير الناس خالية من أية قيمة فنية. وعندما ظهر فن التلميع (الصقل) راح يستعمل في الفخار. وفي عهد نبوخذنصر غطيت معظم الأواني بطبقة ملونة. وكان الخزفي لايكتفي بصنع الأواني فقط. كما ينبغي أن يكون إنتاجه متنوعا حتى يتمكن من تحقيق رغبات كافة الزبائن، فكان عليه أن ينصب المواقد والمجامر والمصابيح وكذلك مختلف أنواع الخزفيات والتوابيت والصناديق الخزفية.
    وفي المدن الكبيرة ولا سيما في المعابد كان الاقبال شديدا على التماثيل الصغيرة التي كانت تستعمل في بابل لقضايا العبادة وتكريم الآلهة. قام الصناع بصناعة خزفياتهم في البدئ باليد المجردة، إلا أن إزدياد الطلب قد أدى إلى إستعمال أسلوب الصب الذي كان مربحا واقتصاديا أكثر. وهكذا كان الحرفي يقوم بصنع قالب طيني يصب فيه عددا كبيرا من التماثيل التي كان يحرقها فيما بعد فيعرضها للبيع. وكان الاقبال في عهد نبوخذنصر شديدا على النماذج التي تمثل إمرأة تحمل طفلاً- وهي تجسيد لآلهة الخصب- وكذلك موسيقيين بمختلف الأدوات الموسيقية ولمراكب الآلهة في أعياد رأس السنة كانت تعمل نماذج من الطين للأشياء المستعملة في ذلك الحين، ولاسيما السفن والمناضد والأسرّة والأجراس. وكانت الثماثيل الطينية تعد للجماهير الواسعة فإن أسعارها مناسبة، غلا أن ذلك كان على حساب النوعية. وكانت على الأغلب بدائية ومكررة إلا أنّ عددا غير كبير من المنحوتات كانت تضع نفسها فوق هذا المستوى الواطىء وتثبت بذلك بأن الفنانيين الموهوبيين كانوا يستطيعون إستعمال الطين بمهارة كمادة للعمل. وكانت الأفران المستعملة لحرق الفخار تتكون من أقبية كبيرة بأقواس في الغالب جرى صنع الطابوق من قبل الفخارين أنفسهم أو من قبل مساعديهم. وإذا كان الأمر يتطلب صنع نماذج للمباني الفخمة كالصور الجدارية للملك أو الطابوق الصقيل، فكان ينبغي أن يكون العمل في غاية الدقة. ومن تلك الأعمال ما يمكن مشاهدته في شارع الموكب، والطابوق المستعمل في باب عشتار ببابل والذي صقل بمختلف الالوان ولصور الحيوانات الجميلة والبارعة كانوا يصنعون نماذج كاملة من الطين بحيث أنها شكلت الأساس للأشكال الطينية وبذلك كانوا يستطيعون طبع طابوق الصور الجدارية بمختلف الحيوانات. وكان هذا الكابوق يحرق ويصبغ بالطلاء الزجاجي المصهور ويحصل اصحاب العمل على مختلف الألوان وذلك بمزيج من أوكسيد المعادين ويحتمل أنهم إستعملوا خيوطا زجاجية سوداء لعزل الألوان عن بعضها تمنع إمتزاج الألوان مع بعضها. وبعد عملية حرق خفيفة كانت الخيوط تذوب فتتحد مع الطلاء.
    كان ترتيب هذه التفاصيل وكذلك صحر الدهان فناً خاصاً يقتصر على عدد قليل من الحرفيين. وقد بقي هذا الفن الخاص مقتصراً على بابل.
    كانت الحرف السحيقة في القدم والضرورية تعتمد بالدرجة الأولى على المنتوجات الحيوانية. وكان غزل الصوف من واجب النساء في البيوت. أما المعابد التي كانت تملك قطعان المواشي فلها مجموعة كبيرة من الرقيق أو العاملات بالأجرة للقيام بالعمل.
    وأما عملية النسج فكانت من عمل الرجال. وكانت الأقمشة البابلية المعروفة حتى في الخارج تصنع بواسطة نول أفقي بسيط ويصنع الخياطون الملابس قبل كل شيء للقصر الملكي والكهنة والوجهاء. وأما الفقراء فكانوا يخيطون ملابسهم في بيوتهم بأنفسهم. وكانت الملابس التي تخرج من عند الخياط ثمينة ومطرزة بشكل فني عال ومزخرفة بالمعادن الثمينة واللألئ. وكانت في المعابد ثمة حركة خياطة واسعة، ذلك أن تماثيل الآلهة كانت تحتاج إلى ملابس جديدة في الأعياد زالمناسبات. ولأن ألوان صوف الماعز والشياة إقتصرت على الابيض والبني والأسود لذا توجب صبغها بألوان مستخرجة من النباتات أو المعادن وللملابس الثمينة صبغت خيوط من الذهب تعطي للملابس شكلاً جذاباً.
    وبالإضافة إلى الأقمشة كان يتم صنع السجاد الذي يفرش به القصر والمعبد فقط. أما البيوت الاعتيادية لعامة السكان فكانت تفرش أرضية الغرف بالحصران. كان السجاد غالياً جداً وكان يزخرف عادة بالأشكال الهندسية وصور النباتات.
    كان العمل في تهيئة الجلود ودبغها من غختصاص حرفيين إختصاصيين ولا سيما صناع الأحذية، الذين كانوا يصنعون بضائع أخرى مثل الصنادل والجزم وأكياس جلدية وحقائب وكان الطلب كثيرا على السياط وأنواع السيور التي كانت تستعمل للخيول والحمير والثيران. لم يكن المشترون من الريف فحسب، بل من القوافل العابرة والجيش أيضاً. وكان ينبغي على العاملين في حقل الجلود أن يصنعوا للجنود الدروع وجبائر الوقاية للأرجل والخوذ والتروس والجعبات. كان الملك يتعاقد مع الحرفيين العاملين بصناعة الجلود على أن يزودوا الجيش بأعلى نسبة مما ينتجونه.
    لعب الحرفيون العاملون في حقل المعادن دورا هاما في عصور ما قبل التاريخ. والحقيقة أن الناس كانوا يعانون في البداية من صعوبات كبيرة في الحصول على المعادن وإعدادها للعمل، إذ أن الأدوات المستعملة في ذلك الحين كانت بدائية جداً. إلا أن التقدم في المهارة البشرية قد جلب معه تكنيكاً جديداً للعمل. وقد تمّ لأول مرة إستعمال النحاس وقد إستطاع الحدادون من خلال أسلوب جديد للصهر خلط المعادن، كما وتمكنوا قبل كل شيء الحصول على البرونز القوي وذلك بإضافة حجر الكحل أو الرصاص وأخيراً القصدير. إستعمل الحدادون فحم الخشب أو نواة التمر كوقود لنيران أفرانهم. واستعملوا المنفاخ الاعتيادي للحصول على نار حامية أو على الأقل الحرارة العالية لفترة قصيرة. وكان الصب في قوالب الحجر والطين معروفاً بالاضافة إلى أسلوب الطرق في الحصول على الشكل المراد تحمية المعدن. وللانتاج الضخم كانوا يستعملون الصب المجوف وذلك لتوفير المعدن ولكي لا تكون النماذج ثقيلة الوزن. وبالنسبة إلى التماثيل البرونزية الضخمة كانت التجاويف تملأ بالرمل المزيت أو القير.
    وضمن حرفة الحدادة بدأت أيضا الاختصاصات. إذ أن هذا العمل الذي راح يغزو كل شيء بدأ يتطور باستمرار وهناك من إختص بالصهر وحدادة المواد الكبيرة والصياغة .... إلخ. واستعمل الصاغة النحاس والبرونز والذهب كمواد خام. وكانت الأسلحة الذهبية تصنع عادة للعرض في المعابد وكهدايا للآلهة.
    الأواني تعتبر من الأشياء الثمينة جداً، بحيث كانت تجلب كغنائم نفيسة في الحروب من مصر وفينيقية أو كانت تقدم كجزية إلى الملك من الشعوب الخاضعة لحكمه. وكانت الأواني الحجرية الصغيرة الاسطوانية تستعمل لحفظ العطور والزيوت الكريمة.
    كان حق عمل تمثال أو منحوت مناطاً بالملك والفئات الاجتماعية الراقية وكان النحاتون يعملون تقريبا فقط للقصر والمعابد.
    ولاتوجد في بابل تماثيل حجرية ضخمة كما كان عليه الأمر في آشور حيث الأحجار المتوفرة وحين أراد نبوخذنصر أن يخلد نفسه إكتفى بفن الطابوق الملون المصقول الذي تركه على جدران أبنيته، وبتمثال واحد حفر على الصخور المطلة على نهر الكلب على البحر الأبيض المتوسط، حيث يمجد قهره للممرات الجبلية الصعبة. وكذلك أجداد نبوخذنصر – بخلاف الملوك الآشوريين- لم تعرف عنهم أية تماثيل باستثناء حمورابي الذي نشاهد صورته على مسلته المعروفة.
    ومن الطبيعي أن يكون للعاملين في صنع الأختام الاسطوانية سوق رائجة لأن الأختام ضرورية لكل بابلي حر، إذ أنه بعد الانتهاء من عقد صفقة تجارية أو كتابة وثيقة كان عليه تصديقها بالختم. ولفن صنع الأختام الاسطوانية تاريخ طويل من التطور يرجع إلى فجر العصر السومري. وكانت الأختام آنذاك كبيرة وتحمل صورا كثيرة وخاصة المشاهد الاسطورية، وفي العهد البابلي القديم كان تكرار المجاميع الصورية أقل وأكثر تواضعاً. ومن المشاهد التي بقيت مرغوبة حتى عهد نبوخذنصر مراسيم العبادة. وفي العهد البابلي الحديث راحت أشكال الآلهة تقدم من خلال رموزها كما وجرى التركيز في المشاهد.
    إن أعمالا مثل صناعة الأختام والنحت والحدادة والنجارة كانت تتطلب المهارة والبراعة. أما الخبازة والقصابة والطبخ فكان يمكن تعلمها بسرعة وكانت لا تلعب بالنسبة إلى السكان دوراً كبيراً، ذلك لأن معظم النساء كن يستطعن تميز الصاغة ببراعة فائقة ولهم خبرات ممتازة في فنون مختلفة مثل الخرم والنقش والتطعيم. وكانت الأعمال الكبيرة لا تصنع من الذهب الخالص بل تطلى به.
    ولما بدأ الناس باستعمال الحديد بشكل كبير في حوالي نهاية الألف الثاني فقد بدأوا يستوردون غالبا المواد الجاهزة والمصنوعة من الحديد من مناطق آسيا الصغرى. وفي وقت متأخر بدأ الحدادون المحليون يستخدمون المواد الخام في صناعة الأسلحة وأدوات الانتاج. ويحتمل أنهم قد تعلموا هذه الحرفة من الحرفيين النازحين من المناطق الشمالية.
    ولقلة الخشب فإنه نادرا ما كان يستعمل للأثاث ما عدا القصر الملكي والمعابد وبيوت الأثرياء. وكانت صناعة العربات ومستلزماتها من إختصاص نجارين لهم خبرات واسعة في هذا المجال. إن العجلات التي كانت تصنع في البدء من قطعة طاملة من الخشب، بدأوا يصنعونها من ثمانية أضلاع من الخشب. وكانت المتانة أو الحجم يتعلقان بالغرض الذي تستعمل من أجله العربة، فعربات النقل كانت كبيرة وقوية وأما العربات الحربية فكانت صغيرة جدا وخفيفة. إهتم النجارون بالدرجة الأولى بصناعة السفن الصغيرة للتجارة والنقل. ولصناعة السفن الحربية أو الضخمة كان يستدعي بناؤوا السفن المتمرسون من ذوي الكفاءة العالية والذين كانوا قد توارثوا خبرة مئات السنين في صناعة السفن عابرة البحار.
    كانت الأحجار تستورد من الخارج ولذلك كانت هذه المادة غالية جدا وكان السكان يملكون الأدوات الضرورية المصنوعة من الحجر مثل الطاحونة اليدوية ومدقة الهاون التي كانت تتكون من حجر البازلت القوي- وكانت النوعيات الجيدة من الحجر يملكها عادة القصر الملكي والمعابد حيث كانت تصنع منها مزهريات وأواني لماعة وبأشكال جميلة ومثل هذه إنجاز هذه الأعمال في بيوتهن.
    وفي القصر الملكي، البيوت الثرية والمعابد فكان هناك عمال مختصون بتلك الأعمال. أما البيرة والمشروبات الكحولية فتصنع عادة في المعابد. وكان العامل في حرفة عصر النبيذ يستخرج العكور أيضاً. وكانت هذه تلعب دورا كبيرا في مراسيم العبادة.
    وهكذا كان الحرفي البابلي المختص لا يزود السكان بكافة المنتوجات الضرورية اليومية فحسب، بل بالكثير من البضائع الكمالية أيضا.
    إن الوضع الجغرافي الجيد لبابل التي كانت تقع على مفترق الطرق التجارية، وخصوبة الأراضي، ووفرة المياه والنشاط الذي إمتاز به سكانها، كا ذلك شكل أساساً جيدا لاقتصادها القوي ومستوى معيشتها العالية.

    الصور المرفقة






    الملك ومساندو حكمه
    "نبوخذ نصر، ملك بابل، الخاشع، الطائع، الذي يمجد الآلهة العظام، وأمير الكهنة السامي، ومعين المعبد ايزانجيلا وازيدا، أبن نبوبلازار ملك بابل، هو أنا".
    هكذا كان لقب الملك البابلي الذي يرينا شرطين أساسيين لحكمه:
    علاقته الجيدة بالآلهة وأصله الرسمي، ومن خلال ذكر إسم أبيه وأسلافه يعطي الشهادة التي تثبت كونه من السلالة الحاكمة والعائلة الملكية. وكان الحكام بالإضافة إلى ذلك يحاولون جهد إمكانهم إرجاع فروع شجرة النسب إلى أقدم العصور، وحتى أنهم كانوا يعتبرون بعض الأبطال الأسطوريين من ضمن أجدادهم، وإذا شاء أن إحتل أحد المغتصبين الحكم وغسقط السلالة الحاكمة فكان يحاول في هذه الحالة إما أن يضع ستاراً على هذه السلالة أو ينصب نفسه كمنقي من قبل الآلهة كما فعل نبوبولازار حيث سجل ما يلي:
    " أنا بتفاهتي، وكإبن للاشيء، كنت جائم التأمل في قدسية بنو ومردوخ، سادتي... وعندما إختارني مردوخ حاكما على البلاد والسكان لبّيت النداء...." ولتبرير هذه المساندة من قبل الآلهة كان ينبغي على الحاكم أن يتظاهر بالشكر، حيث كان يبني المعابد الجديدة ويقدم الهدايا والامتيازات إلى الكهنة.
    لم يكن المسانجون الحقيقيون لحكم الملك في الواقع هم كهنة المعبد بل الجيش القوي الضارب ومجموعة مختارة من مساعديه وموظفيه. ومن خلال هؤلاء كان يستطيع قبل كل شيء ضبط زمام الحكم في يديه، وكان الحكام يحاولون دوماً توسيع حدود ممالكهم واحتلال بلدان جديدة بواسطة الجيش، وفي أوقات الضعف كانوا سعداء إذا إستطاعوا الاحتفاظ بحدود مملكتهم- وكان الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة ونادرا ما كان يأتمن إعطاء هذا المركز الحساس إلى شخص آخر، كما هو الحال مع نبوبولازار الذي قلّد ولده نبوخذنصر هذا المنصب بسبب الأهمية الكبيرة للجيش، كان الحكام البابليون يهتمون لأعداد الجيش الكبير، ليكون على إستعداد دائم لكل الطوارئ.
    وفي عهد حمورابي ومن خلفوه كانت الفئات السفلى في المدينة والريف تساق إلى الجيش. وكل من يرسل بالنيابة عنه شخصاً آخر إلى الجيش يعاقب بالموت. وكانت تعد قوائم خاصة للقادرين على حمل السلاح. وهناك إستثناءات لمواطني مدن معينة أو منتسبي بعض المهن، إلا أن التجنيد كان مبدئيا إلزامياً لكل فرد وشكل الممتهنون للجندية نواة الجيش العامل. وفي حالات الحرب يستدعى القادرون على حمل السلاح إلى القتال، إذ أنهم كانوا يشكلون القوة الاحتياطية للجيش، وفي عهد نبوخذنصر بدأ الالزام يتلاشى، إذ لم يكن في الامكان جلب كل مواطن إلى الجيش. وكان يتوجب على من لا يرغب أداء الخدمة في الجيش دفع بدل نقدي معين، ولذلك فإن جيش نبوخذنصر يتكون من المرتزقة الذين جاءوا من مختلف أنحاء العالم آنذاك ولاسيما من الجبال المحاذية.
    أما أجور الجنود فتتكون بالدرجة الأولى من المواد العينية التي تسد حاجاتهم، وينبغي على المدن تزويد الجيش بمواد معينة، ويحتمل أنها بالإضافة إلى ذلك كان يجب عليها دفع كميات معينة من النقود التي كان يستفاد منها في دفع الأجور. وكان حمورابي يملك قطعاً من الأراضي التي يستفيدون منها في إعالة عوائلهم؟ وهذه الأراضي لا تخضع للبيع والوراثة بل للاستغلال المباشر فقط.
    وللأولاد حق الحصول على هذه الأراضي فيما إذا أبدوا إستعدادهم للعمل في الجيش، وكان ملتزموا الأراضي يطمحون بالطبع في إدخال الأراضي ضمن ملكيتهم الخاصة وكان طموحهم يتحقق أحيانا وبمرور الزمن. ولقد حاول نبوخذنصر ربط الجنود به وذلك بإعارتهم الأراضي، إلا أنه لم يفلح كثيراً في ذلك.
    كانت الفرق الرئيسية في الجيش البابلي تتكون من وحدات المشاة وفي الألف الثاني قبل الميلاد إستعملت الجنود تلك الفرق. ثم تطور إستعمال العربات فسلاح الفرسان، إن فرق المشاة التي كانت مزودة بمختلف الأسلحة تضم أكبر عدد من الجنود.
    ومن الأسلحة المهمة المستعملة القوس والنشاب وقد كان الرماة بالإضافة إلى ذلك يحملون سيفاً قصيراً ورمحاً وحيث أنهم لا يستطيعون الاحتماء بالقوس، لذلك كان ثمة مرافقين يحملون التروس للحماية وعند قيام الجيش بعمليات الحصار كانت تستعمل تروس كبيرة بطول قامة الانسان يقف وراءها رجلان. وكان حملة التروس أيضا مسلحين بالرماح والسيوف التي تستعمل في حالة الاشتباك المباشر. وكانت الرؤوس المصنوعة من المعدن معرقلة لتحركهم بسبب ثقلها ولذلك يفضل إستعمال الرؤوس المصنوعة من الجلد ومغطاة بالمعدن. وكانت فصائل خاصة من الرماة بالمقاليع تقدم بقذف الحصون المحاصرة بالأحجار والنيران. ومن الأدوات المستعملة أيضا فؤوس القتال والأحجار والهراوات المعدنية وكذلك الفؤوس المزدوجة. وكان الججنود يلبسون عادة صدريات جلدية أو معدنية ويشدون جلوداً لوقاية الأرجل ويعتمرون خوذاً من البرونز أو الجلد. وكان الرماة يرتدون أيضا عند هجمات الأعداء دروعاً معدنية إلا أنها كانت تثقل حركتهم. وكان الرماة يعملون أيضاً في مجال المحاربين بالعربات التي تشكل إحدى الفصائل الهامة في الجيش. وكانت العربة الخفيفة ذات العجلتين والتي يجرها حصانان أو ثلاثة، تحمل عدة أشخاص هم قائد العربة وأحد الرماة وحامل القوس وكان الأخير يستطيع أن يحارب بالرمح، وكانت الخيول تغكى بمختلف أنواع السروج المزخرفة والدروع المصنوعة من المعدن أو الصوف. إن وحدات العربة محدودة في الجيش إذ أن إعدادها كان يحتاج إلى تكاليف عالية جداً وبذل معظم الملوك إهتماماً كبيراً في أن يكون لهم صنوف ضاربة قوية وبأعداد كبيرة. ويستعمل سلاح الفرسان في مطاردة الأعداء خاصة لم يكونوا يستعملون السروج بل يجلسون بارجل منحنية على غطاء للسروج مربوط بحزام ولم يكن الركاب معروفاً لديهم. وكان سلاحهم الفعال هو القوس وغالباً الرمح.
    وفي الحملات الحربية كان على الجيش المرور بأراضي قاحلة لا تتواجد فيها الطرق ولهذا كانت هنالك قوات خاصة من الطلائع لمساعدة الجيش في تمهيد الطرق وإقامة الجشور الخشبية وعمل الآلات الضرورية لها وهذه تتكون من اسكالات عالية قابلة للحركة مربوطة برؤوس معدنية تقوم بتسهيل عملية هجوم الجنود عبر الأسوار. وكانت فرق الكشافة تبني أيضاً المعسكرات التي يرابط فيها الجيش لفترات طويلة، وهذه محصنة وذات قلاع تطوق المدينة المحاصرة من جميع الجهات، وفي الداخل تنصب خيام الفرق وثمة خيمة كبيرة مجهزة بكافة وسائل الراحة معدة للملك أو القائد الأعلى، وثمة خيام خاصة للمطابخ والذخائر والحيوانات والأسلحة.
    وفي الحقيقة أن الملوك البابليين قادوا حملات عديدة واحتلوا الكثير من المناطق إلا أنهم لم يسجلوا عن ذلك تقريبا أي شيء بخلاف الملوك الآشوريين. ولذلك فإن المعلومات تنقصنا حول حجم جيوشهم أو أعداد الأسرى. في حين تخبرنا التقارير الواردة عن الملوك الآشوريين والتي نذكرها في سبيل المقارنة إن وحدات فرقة إحدى المقاطعات تضم 30000 رأس و 30000 من حملة التروس والرماح وهذا يعني أن مجموعة الجيش بالتأكيد يضم أضعاف ذلك. إلى جانب ذلك هنالك أعداد هائلة من العاملين أيضا كخدم العربات والطباخين ومختلف أنواع المساعدين وغيرهم، ولا ندري فيما إذا كانت هذه المعلومات صحيحة أم مبالغ فيها. وفي كل الأحوال لا يمكننا البت في ذلك. وكانت ثمة وحدة حراسة تحت قيادة أحد الرؤساء تقدم بحماية الملك، وكان جنود هذه الوحدة لا يقومون بحراسة الملك في أوقات الحرب فحسب، بل بحراسة القصر والعائلة الملكية والحاشية في كل الأوقات. وكانت القصور الملكية تحتوي على أماكن خاصة لسكن هذه الصفوة من الجنود.
    إحتوى القصر الكبير لنبوخذنصر الذي كان ينتصب ضمن أسوار المدينة، على مجاميع كثيرة من الغرف وهذا يعطينا صورة واضحة عن مدى الابهة التي تمتع بها الملوك البابليون. كما ويمكننا أن نسمح لأنفسنا بالتصور بأن قسماً من هذه الغرف كانت مقرات عمل لأعداد هائلة من الموظفين. ويحتمل أن بعض الغرف الواقعة في القسم الجنوبي كانت ورشات لأعمال الحجر حيث كانت تصنع من أحجار الباستار الناعمة زجاجات رقيقة وطويلة كانت تستعمل بكثرة في القصر، وكان بلوغ الفناء الثاني- الأوسسط- يتم باجتياز بوابة ضخمة. أما الغرف الواقعة على جانبيها فتعود - كما يعتقد- إلى الإدارة أيضاً. وهناك تتجمع التقارير الواردة من جميع أنحاء الدولة حيث تتم مراقبة الأحوال وتفتيش الضرائب، إن الغرفة الكبيرة التي تقع جنوبي الفناء الأوسط تعود إلى بيت كبير الموظفين الذي يسكن هناك. وكان المستشارون يتوزعون في الغرف الصغيرة الكثيرة. وفي الفناء الرئيسي تقع الغرف الضخمة الخاصة بالملك. وفي الجنوب تقع قاعة العرش التي طولها 52 متراً وعرضها 17 متراً وتطل على الفناء بثلاثة أبواب. وقبالة الباب الأوسط تقع مشكاة بسلالم يمكننا تصور وجود عرش نبوخذنصر الذي يجلس عليه في المناسبات الرسمية كإستقبال الوفود ودافعي الجزية والاحتفالات الدينية. أما القاعة فتترك عند المشاهد إنطباعاً مهيباً وذلك بصورها الجدارية الملونة الضخمة. وكان نبوخذنصر قد أعطى لمظهر قلعته إهتماماً خاصاً، ويقول في أحد نصوصه: "في بابل، مدينتي العزيزة، التي أحبها، بنيت القصر، الدار التي تدهش الناس، رباط وحدة البلاد، البناء اللماع ومحل جلوس جلالتي الملكية... لقد إستعملت خشب السدر القوي لسقوفه وصنعت أجنحة أبوابه من السدر المغطى بالنحاس وصنعت مفاصلها من البرونز. لقد صرفت في سبيل ذلك الفضة والذهب والأحجار الكريمة. وكل ما هو غالٍ ونفيس من الممتلكات والأحوال". إن هذا النص يرينا مدى الابهة التي كان يتمتع بها القصر. وفي الغرف الواقعة وراء قاعة العرش آبار كثيرة ربما كانت تزود الملك وعائلته بالمياه العذبة، وكان في السور باب يمكن إجتيازه إلى القصر دون المرور بالفنائين المذكورين والبوابة الرئيسية.
    وكان القسم الغربي المحاذي للقصر غير مبنيا بشكل مباشر، إذ أن مستواه أوطأ بقليل، ولذلك فإن أرضيته قد عليت عدة مرات وبني له بضعة سلالم. وكان هذا القسم قد بني في عهد نبولازار وقام إبنه بتعميره وتجديده.
    ويمكننا الاعتقاد بأن مسكن الملك الشخصي يقع في هذا القسم الخاص من القصر الضخم. وكان ثمة أربعة دور من نفس الشكل في القسم الجنوبي من القصر تعود إلى زوجات الملك. كل واحد منهن تسكن في أحد الأقسام مع جارياتها وعبيدها. إلا أن تحديد غرف السكن الخاصة بالملك صعب، إذ أن كثيرا من الشقق على جانبي فناء هذا الملحق. إن الشيء النموذجي لكافة مرافقة القصر هو أن الفناء يشكل مركزا لكل مجموعة سكنية، وتحيط بكل فناء مجموعة من البيوت، وكل قسم مستقل بذاته وله فناء صيف خاص به. وكانت الغرف الرئيسية تطلّ عادة على الجهة الشمالية منعاً لتسرب أشعة الشمس. ومن مرافق القصر الفريدة "حدائق بابل المعلقة" المعروفة، التي كانت تقع في القسم الشمالي الشرقي وتطل مباشرة على السور وبالقرب من باب عشتار، وتتألف من 14 غرفة مستطيلة متشابهة تماماً تمتد على جانبي ممر في الوسط، تعتبر من أعظم المباني التي بنيت بالطابوق والحجر وبأسلوب الأقواس وفي إحدى هذه الغرف بئر بفتحة مربعة الشكل تمتد على جوانبه آبار طويلة أخرى، ويحتمل أن آلة خاصة لسحب المياه كانت قد نصبت على هذا البئر لدفع المياه إلى السطوح العليا. وكانت السراديب الواقعة تحت الحدائق المعلقة تستعمل كمخازن باردة.
    كان نبوخذ نصر لا يملك هذا القصر حسب، بل إنه أمر ببناء قصر آخر خارجج أسوار المدينة، يقول عنه أحد النصوص- الذي بالغ في وصفه بالتأكيد- بأنه قد أنجز خلال 15 يوما فقط وإحدى جهات هذا القصر تحاذي شارع الموكب. وكان بناء الأسس الهائلة لذلك ضروريا جدا، حيث تقع قناة اراختو التي استلزم ردمها، وكان على العمال أن يغطوا المكان بقطع الطابوق بعلو متر، وقد غير نبوخذنصر خططه خلال العمل عدة مرات، وكان على البنائين أن يعيدوا البناء من جديد كي يتمكنوا من تحقيق رغباته. وقد أراد نبوخذنصر أن يتجاوز ببنائه هذا كل ما سبق من أبهة وعظمة. وقد بلطت الأرضيات بمختلف الأحجار الملونة وزوقت الجدران بالصور الملونة، وأقيمت عند البوابات تماثيل ضخمة، شبيهة بما كان عليه في آشور ويعتقد أن الملك قد هيّأ هذا القصر لمسكنه الشخصي مع إبقاء القلعة الجنوبية لكبار رجال البلد والإدارة.
    وفي القلعة الرئيسية عرضت مجاميع هامة من الأعمال الفنية التي تعود إلى الماضي والتي جمعها نبوخذنصر وأسلافه من مختلف المناطق البعيدة ويمكن إعتبار ذلك من أولى المتاحف في العالم. ولم تكن تلك المجاميع قد جمعت لأهميتها الفنية بل على الأكثر اعتزازا بأهميتها كتذكار لاحتلال مناطق مختلفة من المشرق وإظهار قوة بابل من خلال تلك الشواهد،ومن أقدم التماثيل التي وجدت هناك ما كان تاريخها يعود إلى الفي عام قبل نبوخذنصر أو بالأحرى إلى الأمير السومري سولكي، وثمة تمثالان يصوران أميرين من مدينة ماري الي دمرها حمورابي، بالإضافة إلى مجموعات كبيرة من التماثيل والنصوص الآشورية التي تمثل مختلف العهود. كان الملوك البابليون مثل نبوخذنصر ونبونيد يهتمون كما جاء في النصوص - بفن البناء- وكانوا عند بناء معابد جديدة يبحثون عن أحجار الأساس التي وضعها البناة القدماء من الملوك. وكانوا يفعلون ذلك بالدرجة الأولى لأغراض دينية، إذ أنهم يريدون بذلك إحترام تعليمات الآلهة التي كتبت هناك. وكانت النصوص التي يعثر عليها تترك في مواضعها.
    ويقول نبونيد أحد أحفاد نبوخذنصر: "أحد أحجار الأساس... لم يتم العثور عليها منذ عهد سرجون، ملك بابل وإبنه نارامسن أحد أسلافي الملوك وحتى عهد نبونيد ملك بابل، وبحث كوريكالزو ملك بابل الذي جاء قبلي أيضاً، ولكنه لم يعثر على حجر الأساس... اسرحدون ملك آشور، كلّف قوات كافة الدول للبحث فلم يعثر على حجر الأساس. نبوخذنصر، سلفي الملكي، إستدعى عماله بأعداد هائلة... بحث وجهد وحفر في الأعماق ولم يعثر على التدوين. أنا عكس ذلك، نابونيد ملك بابل معين معبد ايزانجيلا وازيدا، خلال حكمي العادل ورهبتي من عشتار وأكد رأيت رؤيا... وأرسلت رجالي بأعداد كبيرة للبحث عن حجر الأساس. ونقبت ثلاث سنوات في آثار نبوخذنصر، يميناً ويساراً، شمالاً وجنوباً، ولكن لم أعثر...". وأخيرا تمّ له العثور على ما أراد واستطاع أن يبني بناءه الجديد.
    كان الملك إلى جانب واجباته الدينية التي من ضمنها بناء معابد جديدة والشؤون العسكرية العديدة واجبات كثيرة أخرى ينبغي عليه إنجازها في مجال إدارة البلاد، فعليه مراقبة الموظفين الكبار ومتابعة نشاطاتهم وملاحظة خطط المشاريع الكبيرة في الزراعة وفي الممتلكان الملكية. وكذلك إستقبال الوفود وجالبي الجزية. كل هذا ينظم بشكل رسمي صارم. ولا شك أن هذا يحتاج إلى وقت كثير، الأمر الذي يعطي العاملين في القصر فرصة عدم الاستغناء عن خدماتهم. ومن الأمور المسلّية للملك صيد الحيوانات الوحشية وزيادة الغرف الخاصة في قصوره، حيث كان يسهر مع الموسيقيين والراقصات والمهرجين والمصارعين. وكان قصره يحتوي على مجموعة كبيرة من الأميرات والنساء من مختلف البلدان لادخال البهجة إلى نفسه.
    وكان تحت تصرف الملك حاشية ضخمة يوزع على اعضائها مختلف الواجبات وكان الولاة الذين يوجهون أمور محافظة باكملها يعتبرون ضمن فئة الموظفين الكبار، وكانت الأعمال في القصر الملكي تراقب وتدار من قبل مختلف أصحاب المقام منهم الوزير ورئيس خدم القصر ورئيس السقاة ووزير المالية.
    وكانت إدارة كافة شؤون البلاد تخضع لهؤلاء كالسياسة الخارجية وعقد الاتفاقيات الدولية وتنظيم الموارد الزراعية الكبيرة وكذلك الإشراف على الممتلكات التابعة للعرش. وكان رئيس خدم القصر مسؤولا بالدرجة الأولى عن توظيف أعداد هائلة من العاملين لضمان راحة الملك وتحقيق إحتياجاته، وعلى الوزير المختص الاهتمام بالمصروفات الضرورية، أما أمر تزويد الحروب والمشاريع الكبيرة بالمواد الضرورية فإنها مسألة غير سهلة، كان هو مسؤولا عن كل الواردات والصادرات، وبالإضافة إلى هذا العدد الكبير من الوجهاء فإن أعدادا كبيرة من الموظفين المتوسطين والصغار يعملون في المكاتب المختلفة سواء داخل القصر أم في المدينة أو البلاد. وكان أكثر هؤلاء إنحدروا من صنف كتاب العقود، إذ أن القراءة والكتابة كانتا ضروريتين للقيام بواجباتهم، وكانوا لا يقومون بواجب قيد السجلات من الواردات والصادرات حسب بل بتسجيل كافة المعلومات حول الولادات والوفيات بين السكان من إعطاء لمحة عن أعمال السكان ودفعهم للضرائب وكذلك عن الاشخاص البالغين سن الخدمة العسكرية.
    وكان الموظفون يستلمون رواتبهم حسب مقامهم ودرجاتهم، ويتمتعون أيضاً بالمكافآت الخاصة التي تسد حاجاتهم الشخصية وكنفقة لعوائلهم كانوا يستلمون عادة قطعة أرض يقومون بزراعتها أو تاجيرها، وبالإضافة إلى ذلك كان الموظفون الكبار يستلمون رواتب نقدية وقد عثر في قصر خرساباد على قائمة تحتوي على معلومات تؤيد ذلك:
    القائد العام للجيش: 10 مينات فضية، 5ملابس من النوع الجيد و50 إعتيادية.
    الوزير الأول: 6 مينات فضية، 3 بدلات من النوعالجيد و 2 إعتيادية.
    رئيس القضاة: 3 مينات فضية، 3 بدلات من النوع الجيد.
    نائب الوزير: 3 مينات فضية، 3 بدلات من النوع الجيد.
    وزير البلاط: 5 مينات فضية، 3 بدلات من النوع الجيد و3 ملابس إعتيادية.
    مدير القصر: 1 مينة فضية، بدلو واحدة من النوع الجيد.
    وكان بعض الموظفين الكبار يحصلزن على موارد إضافية وذلك بتعيين بعض الموظفين واستقطاع جزء من رواتبهم لأنفسهم.
    وكان الموظفون المسؤولون عن الضرائب يعينون مباشرة من قبل الملك، وهؤلاء يتحملون مسؤولية التأخير في إستحصال الضرائب في مواعيدها المقررة، وكان المجموع العام للضرائب يقدم عادة إلى القصر الملكي، وبعض جباة الضرائب الكبار يقدمون الضريبة من حسابهم الخاص إلى الملك سلفاً ثمّ يبدأون بعد ذلك باستحصالها من السكان، وكان معظم أولئك يحصلون من وراء هذه الوسيلة أرباحاً هائلة، حيث يتعسفون في رفع الضرائب بشكل كيفي والضغط على السكان. وكان على الفرد أن يسجل لدى الدولة كل أملاكه وموارده. وفي عهد حمورابي يجب على كلمواطن حر أن يدفع 10% من موارده إلى الدولة – أما أنصاف الأحرار فعليهم دفع 3/1-33% من مواردهم. وفي الحالات الاستثنائية التي يحتاج فيها الملك إلى المال ترتفع الضرائب إلى 50%. وتتكون الضرائب من المواد العينية والنقود.
    وبالإضافة إلى ذلك على الناس أن ينجزوا بعض أعمال السخرة في البناء ولاسيما المعابد. وللملك حق إستدعاء المواطنين عند البدء بالمشاريع الضخمة.
    ويرينا هذا النص مدى إهتمام الملوك باستحصال الضرائب في أوقاتها المحددة. " إلى مردوخ - ناصر وقضاة سبار- أمنانوم تكلم: إذن (يقول) أبي – أيشوخ: " قال لي جابي الحملان، بأنكم لم تجلبوا ضريبتكم إلى بابل. ضرينتكم المتكونة من 30 حملا. لماذا لم تجلبوا حتى الآن الثلاثين حملاً، ضريبتكم إلى بابل؟ كيف سمحتم لأنفسكم أن تتصرفوا بهذا الشكل؟ أرسل إليكم الآن فارسا وفور رؤيتكم لرسالتي هذه أرسلوا ضرينتكم المتكونة من 30 حملاً. وإذا لم تجلبوا ضريبتكم فسيكون جزاؤكم دفع شقل فضي واحد عن كل رأس حمل".
    كان الملوك يعملون دوماً وفي كل العهود من أجل إيجاد مصادر جديدة للضرائب وإجبار المواطنين على دفع الضرائب لكل شيء سواء، أكان ذلك يتعلق باستعمال مشاريع الري أم بطرق المواصلات التجارية ولذلك كانت مسألة الاعفاء من دفع الضرائب، أمنية يتمناها بعض أصحاب الامتياز، وكان الملك يمنحها أحيانا لبعض أفراد حاشيته والعاملين في بلاطه. وكانت المعابد تجاهد دوما للتخلص من تلك الضرائب والمدن التجارية الكبيرة أيضاً تحاول دائما الحصول على إمتياز عدم دفع الضرائب، أو دفع ضرائب خفيفة على الأقل، وفي أوقات العوز كان الحكام يضطرون إلى إجراء تخفيض عام في دفع الضرائب حتى لا تقع الفئات السفلى والمتوسطة من رعايا الملك في أحضان الديون، إلا أن مثل هذا الاجراء لا يدوم طويلا، إذ أن القصر والأعداد الضخمة من المعابد والحملات العسكرة تحتاج إلى كميات كبيرة من الأموال،÷ وكانت الحملات العسكرة الناجحة تخفف من عبء الضرائب، إذ أن الغنائم التي تجلب بعد إحتلال المدن السورية والفلسطينية التجارية الغنية تسد الاحتياجات الكثيرة.
    كانت واجبات الراعايا قد حددت قانونياً،وكان تثبيتها كتابة يعود إلى رغبة الملك، وكان الملك هو الواضع الأعلى للقوانين وذلك بتفويض من آله الشمس، الذي يعلم كل شيء ويرى الخير والشر، ويحكم في السماء، وهكذا عرضت الصورة أيضا في مسلة حمورابي، أن مجموعة قوانين حمورابي الزاخرة تعتبر من أقدم المصادر الهامة لمعرفة القوانين القديمة، إذ أنها تعطي المعلومات حول مختلف مناحي الحياة، ويمكن الرجوع إلى تلك القوانين عند دراسة المجتمع البابلي الطبقي من نواحي الاقتصاد والتجارة والحرف والعائلة والسحر...
    وهي تحتوي على 282 مادة مرتبة ولكنها غير مسلسلة حسب المواضيع المتناولة. ولم يكن حمورابي أول من وضع القوانين فمنذ مئات السنين قد نظمت قبله نتيجة تعامل الناس مع بعضهم ولاسيما بعد ظهور المجتمع الطبقي والفروق الكبيرة بين الفئات الاجتماعية، نظمت قواعد معينة للتعامل سرعان ما اتخذت طابع الضرورة، وأصبح القانون أداة للملوك يثبتوم بها حكمهم، وسجل السومرين القوانين الاعتيادية التي كانت تتناقلها الأجيال شفوياً منذ مئات السنين عبر ثلاثة آلاف سنة الماضية، ومنذ هذا الوقت أصبحت العناية بالقوانين تقليداً ومن الواجبات الأساسية للحكام وأخيرا قام حمورابي من خلال موظفيه بجمع القوانين القديمة وإعادة النظر فيها وجعلها ملائمة للوضع القائم في عهده، وفي كل الأحوال ثمة سؤال مفتوح... ترى أي تأثير كان لتلك القوانين على الحياة اليومية... وما إذا كان الحكام حقاً يحكمون في ضوء تلك القوانين؟ ... يبدو من بعض النصوص القانونية كما لو أن العقوبات القاسية بمختلف المستويات لا تطبق وربما كانت تستعمل لادخال الرعب في النفوس حسب. وكانت مسلة حمورابي مثار إعجاب لمئات السنين وهي موضع الاحترام العظيم كما تثبت ذلك بعض المواد التي أضيفت إليها مؤخراً... ولما كانت هناك مواد دونت بصورة مقتضبة، فإن متابعة تطور القانون خلال مئات السنين تكون غير خالية من الثغرات. ومن العهد البابلي الحديث بقيت ثغرة قانونية صغيرة تعطينا معلومات قليلة جداً. وهكذا عند ملاحظتنا للقوانين في الألف الأول ينبغي الرجوع إلى قوانين حمورابي لكي نأخذ الاستنتاجات بتحفظ.
    أما عقوبة الموت فقد نظمتها أربعون حالة جرمية من ضمنها حالات سرقة الأمكوال العائدة إلى القصر الملكي والمعبد أو في حالة التسبب في حريق، وكان مشرع القوانين يعاقب بالموت في حالات الاتهام الكاذب عند الجرائم الكبيرة وفي حالات هدم الحياة الزوجية، القتل المعتمد، الفسق بالأهل، وكانت نوعية الاعدام مختلفة وتتعلق بنوعية الجريمة، ويمكن تنفيذ حكم الاعدام بالمحكوم غرقاً أو حرقاً أ, وضعه في قفص إلى أن يموت ببطء. وفي الحالات الجرمية الصغيرة يعاقب المحكوم بفقء إحدى عينيه أ, قطع إحدى يديه أو إحدى أذنيه كما كانت هنالك تطبق عقوبة الجلد.
    أما الطبقات الغنية فتعاقب بدفع الغرامات الكبيرة، ومثل هذه العقوبات لا جدوى من ورائها بالنسبة إلى العبيد، إذ أنهم لا يملكون أي شيء، وفي حالات حدوث أضرار على المسبب أن يعوض للمتضرر كل ما تسبب من خسائر وأحيانا غرامة إضافية، ويمكن للمبالغ المستحقة أن تخضع للارتفاع ويمكن أن ترتفع من الضعف إلى ثلاثين ضعفاً. والحالة الأخيرة تطبق في حالات حدوث الأضرار بأموال القصر أو المعبد، وفي بعض الحالات كان المذنب يطر من بيته ومن المجتمع وبالتالي يفقد كل ممتلكاته، وعليه أن يقيم ويعمل خارج نطاق العائلة وحماية الىلهة. ومثل هذه العقوبة تنفذ في حالة الفسق بالأهل كإضطجاع الأب مع إبنته أو بعض الحالات المشابهة الأخرى، وللأب أن يطرد إبنه من بيته في حالة تكراره الأعمال الجرمية وبذلك يفقد الابن كافة حقوقه الموراثية، وعند ملاحظة القوانين المتعلقة بالعائلة البابلية يمكننا أن نتوصل إلى إستنتاجات عديدة حول مركز المرأة والحياة الاجتماعية وتربية الأطفال، وكانت المرأة البابلية غير مسلوبة الحقوق، إذ أنها تستطيع مثلاً أن تعمل في المجال الاجتماعي وتوقع على العقود واحتلال بعض المراكز في الإدارة العامة، ومع ذلك كانت غير مساوية للرجل الذي يحتل المراكز الهامة وهناك حالات إستثنائية تناط فيها بالمرأة المراكز المهمة مثل مراكز الخدمة في المعبد، حيث اقتصرت على نساء القصر والطبقة الراقية، وفي الحياة المنزلية كانت المرأة خاضعة للرجل ونادرا ما كان لها حق إختيار شريكها في الحياة، إذ أن الأب هو الذي يختار الزوج لابنته، ويقدم لابنته مهرا للزواج في حين كان على العريس دفع مبلغ معين كمهر للعروس، ويبقى عند الأب. وبعد ذلك يجري العقد كتابة وإلا فإن الزواج يعتبر غير شرعي، وهذا نموذج لعقد من العهد البابلي القديم.
    " (إن) عشتار- اومي، إبنة بوزازوم ولاماسساتوم قد إتخذها وراد- زين، إبن إبني زين من أبيها... شريكته العائلية، و(قد) أعطى وراد- زين لبوزازوم وللاماسساتوم 3/2 رطل فضة مع عبد واحد كمبلغ للشراء وفي كل الحالات لا يحق لبزازوم واماسساتوم وأولاد بوزازوم باية مطالبة لعشتار، إذا ترك وراد- زين عشتار – اومي، فينبغي عليه دفع رطل فضة، وإذا تركت عشتار-اومي وراد- زين، فإنها ستلقى من فوق البرج على الأرض، ويحلفان بالىلهة شماس وايا وبمدينة سبار وبالملوك بأنهما لن يبديا أية معارضة".
    وبعد ذلك يوقع خمسة عشر شاهداً على عملية عقد القران، ويجد المرء في نصوص الطلاق مختلف الشروط. وقد كان من الصعب جداً على المرأة أن تبادر بالمطالبة بالطلاق أو ينبغي أن تكون قد أهملت من قبل زوجها إهمالاً كبيراً، وإذا لم يعترف أحد بشكواها فإنها كانت تلقى في النهر أو تقتل بطريقة أخرى لتقديمها الاتهام الكاذب حول زوجها وكان الرجل لا يستطيع أن يترك زوجته بدون أن يقدم الأسباب المشروعة، ويجب عليه في كل الأحوال أن يدفع لها نفقة الطلاق مع المهر. ومن الأسباب المهمة الداعية إلى الطلاق عدم الإنجاب أو إصابة المرأة بمرض عضال وعلى الرجل في هذه الحالة أن يضمن معيشتها وكان حق النفقة يسقط إذا اثبت الرجل كون زوجته مبذرة أو مهملة وحتى أنه يستطيع في بعض الحالات تحويلها إلى عبدة. وفي الوقت الذي كان للرجل الحق في الطلاق، كانت المرأة تلقى في الماء لتموت غرقا فيما إذا طالبت بهذا الحق.
    كان يسمح للرجل أن يتخذ إلى جانب زوجته الرئيسية عدة زوجات إضافية وكن يخضعن قانونياً إلى الزوجة الرئيسة وكانت ثمة وصائف يقوم أصحابهن باتخاذهن عشيقات، وكن يبقين حتى النهاية كعبدات حتى ولو أنجبن أولادا ومن الممكن أن يعتقن بعد وفاة الزوج.
    وإذا إعترف الرجل بأولاد العبدات علنا فهم في هذه الحالة كانوا يكتسبون حق الوراثة كما هو عليه بالنسبة إلى المرأة الشرعية ويصبحون أحراراً، وكان الزواج مسموحاً لكاهنات المعابد على أن لا ينجبن أولاداً، ولذلك كن يجلبن معهن عبدة لهذا الغرض إلى بيت الزوجية، إن معظم الكاهنات يملكن ثروات طائلة لهذا فإن الرجال كانوا يندفعون إلى الاقتران بهن، وتبقى العبدات في كل الأحوال في المركز السفلي.
    من أهم أسباب الزواج البابلي هو إنجاب أكبر عدد من الأولاد الذين يستطيعون بعد وفاة الوالدين إنجاز الواجبات المطلوبة لأرواح الموتى، وإذا كانت العائلة لا تملك طفلاً، تقوم بتبني أطفال آخرين ليتمكنوا من القيام بتلك الواجبات، وكان الأب يملك الحق المطلق على أولاده، يستطيع أن يشغلهم في أي عمل يختاره، وثمة قوانين عديدة حول مسألة الوراثة منها أن الأولاد يتمتعون بحق الوراثة، أما البنات فكن يأخذن حصتهن على شكل هبة وعلى الزوجة أن تبقى في البيت فقط ولها حق الاحتفاظ بمهرها بالاضافة إلى الهدايا التي تسلمتها من زوجها، وكان الابن الأكبر يحصل على حصة الأسد من الارث، وغالبا ما يحصل على دار والديه، أما بقية الارث فتقسم بشكل متساو بين الاخوان. وفي قوانين العهد البابلي الحديث فروق بين أولاد الزوجة الأولى والثانية الشرعيتين، حيث يحصل أولاد الزوجة الأولى على نسبة 3/2 وأولاد الزوجة الثانية على 3/1 من الارث تقسم بينهم.
    ومن الواضح أنه رغم كل القوانين فإن المشاكل والحوادث اليومية كانت مستمرة ولا يمكن أن تحل من جانب المتخاصمين فقط، ولذلك فإنها تتخذ طريقها إلأى المحاكم. تتكون المحكمة من عدد من الحكام تعينهم الدولة، تساندهم مجالس شورى يتكون أعضاؤها من الشيوخ، وثمة بالتأكيد محاكم مختلفة تنظر في الشكاوي اليومية الاعتيادية وتحسمها بسرعة.
    في حين أن القضايا المعقدة يمكن أ، ترفع إلأى الملك وكانت المحاكم تعقد إجتماعاتها عادة داخل المدينة، وربما أحياناً في أقسام معينة من المعبد أو القصر. وينبغي على الحكام أ، يتسموا بالعدالة التامة، وقد جاء في المادة الخامسة من قوانين حمورابي : (إذا أصدر أحد الحكام حكماً في مسألة ما، وكتب بذلك وثيقة، ولكنه غيّر فيما بعد قراره، فإ، الحاكم يجب أ، يدان، لأنه قد غيّر القرار الذي أصدره هو. إنه يجب أ، ينال من العقاب الذي نتج من الدعوى المطروقة. اثني عشر ضعفاً. وينبغي عليه أ، يترك كرسيه في مجلس القضاء. ولن يجلس مرة أخرى مع القضاة في المحاكم).
    وكان القضاة عادة يحاولون قبل البدء بالمحاكمة مصالحة الطرفين المتخاصمين بما يرضي الجهتين. وإذا لم يتوصلا إلأى الحل فطانت القضية تطرح على بساط البحث. وكانت الدلائل المادية والوثائق والشهود ضرورية لإيضاح الحقائق، وكان اليمين الكاذب وشهادة الزور يعاقبان بشدة، وذلك باعتبارهما إهانة لقدسية الآلهة، وكان القضاة يستندون عند إجراء المحاكمة على التعليمات المتواجدة وفي أكثر الحالات يلتجأون إلى العرف والتقاليد ولا يتوجب عليهم تبيان الأسباب عند عليهم تبيان الأسباب عند إصدار القرارات.
    ولمجرمي الدولة ممن يحاولون قلب نظام الحكم أو يهينون الملك، تشكل محاكم دولة خاصة يترأسها الملك.
    كانت مساندة المعابد الكبيرة وعمل الخير لها يعودان إلى أهم أعمال الملك. وفي البداية كان الحاكم الدنيوي والديني يتجسدان في شخص الملك، إلا أنه في العهود المتأخرة أنيط مركز الكاهن الأعلى إلى أحد أصحاب المقام من رجال الدين. وكان الملك يلعب دوراً مهماً في المناسبات الدينية والأعياد وفي العهد البابلي الحديث إنتقل هذا الدور المهم إلى الكهنة. ومن هنا بدأت الصراعات على الحكم بين الملك وأعوانه من جهة وزمرة الكهنة من جهة أخرى. وقد أدت تلك الصراعات إلى عواقب وخيمة. وهكذا سقط إبن نبوخذنصر ضحية مؤامرة الكهنة الذي رفعوا أحد مرشحيهم إلى العرش.
    ولذلك كان الملوك يحاولون دوماً عن طريق الهدايا والبناء ومنح الإمتيازات كسب تأييد المعبد لهم. وقد قام نبوخذنصر ببناء وتعمير أعداد كبيرة من المعابد ومحلات العبادة لتمجيد الآلهة البابليين في جميع أنحاء البلاد. وكانت المعابد تشكل إلى
    جانب القصر الملكي أكبر المراكز التجارية في البلاد، إذ أنها خلال مئات السنين ونتيجة للعلاقات الودية المتينة مع الملك لم توسع كنوزها حسب، بل أراضيها وأملاكها أيضاً. وكانت الإمتيازات الممنوحة لها تحول دون دفع الضرائب إلى الملك، ولذلك لم يكن غريباً أن يستغل رجال الدين هذا الاحتياطي الهائل ليلعبوا دوراً مهماً في السياسة.
    وكان لزمرة الكهنة تأثير كبير في العهود على أوسع جماهير السكان وكانت تمارس ذلك عن طريق السحر وقراءة المستقبل ومعالجة المرضى. وكان جهل السكان يشكل مرتعاً خصباً لفرض سيطرة الكهنة الذين كانوا ينتمون إلى الفئة القليلة من المتعلمين في الدولة، إذ أنهم كانوا يتلقون في مدارس المعبد مختلف أنواع العلوم. وتوارثوا منذ أجيال عديدة أباً عن جد أهم المناصب وشكلوا بذلك فئة مسيطرة توجهها زمرة الكهنة التي ركزت الحكم والثروة في يدها. وكان الملك أيضاً وبشكل مستمر تعزيز نفوذه في المعبد.
    وكان يمتلك عدداً من المناصب يحتلها بعض المتنفذين من أتباعه في المعبد. ولم تكن مسألة نادرة أن تحتل أحياناً إحدى الأميرات مركز رئيس الكهنة وكان يسمح للكهنة بالسكن في مقاطعة المعبد، وبإمكانهم السكن خارج المعبد أيضاً ومعظم الكهنة متزوجون وأصحاب عوائل ونسبة مواردهم متعلقة بالطبع بمراكزهم في المعبد وبمركز المعبد نفسه. ومن الأمور الطبيعية أن يحتل الكاهن عدة مناصب سواء في نفس المعبد الذي ينتمي إليه أم في معابد أخرى مختلفة.
    كان (سادن البيت) هو أحد المناصب المتوسطة في المعبد، يستحق مثلاً في عهد حكم الملك بنو-شوم-اشكون، الموارد التالية (يومياً 6 سيلات خبز، 6 سيلات بيرة جيدة، عصيدة، خبز حلو، لحم بقر، لحم غنم، سمك، طيور، مخضرات، منتجات التمر، حصة من القرابين الدائمية، قرابين الملك وقرابين العابدين) أما الضرائب الاستثنائية والأوقاف الخيرية الصالحة والقرابين غير المنتظمة وكل موارد إزيدا أو كل ما هنالك فيستلم حصته منه حسب ما خصص (لسادن البيت) وبالما خصص (لسادن البيت) وبالإضافة إلأى هذه الموارد يستلم موارد أخرى من البيوت والبلدان والمعاملات التجارية التي كان يساهم فيها. ولما كان الكهنة لا يستطيعون إستهلاك كل ما يقدّم لهم من المواد الغذائية يومياً، فإنهم كانوا يتاجرون بذلك تجارة مربحة. وكانوا عادة يبيعون مصادر المورد أ, يؤجرونها لفترات متباينة بحيث إذا إنتهت المدة المقررة يتم البدء بعقد جديد. وبهذا لا يمكننا أن نتصور حياة سيئة للكاهن. وطالما كان السكان يشكون من إجحاف الكهنة ولا سيما بالنسبة إلأى الضرائب الخيالية التي يفرضونها لدفن الموتى، حتى أ، الملك أحياناً يضطر للتدخل ضدهم.
    ولك يكن الكهنة كلهم يتمتعون بمثل هذه الموارد العالية، فقد كان لهؤلاء أيضاً مراتبهم. وحيث أ، الكهنة متخصصون في مجالات مختلفة فإن التوظيفات كانت كبيرة ومتعددة الجوانب في المعبد. وإنه لمن الصعوبة بمكان اليوم ذكر الفروق بشكل دقيق بين مختلف الاختصاصات والمراكز، ولكننا نستطيع حصر بعض المراكز المهمة فقط. فمثلاً كان (اوريكالو) يلعب دوراً مهماً في عيد رأس السنة وكانت له فيه مكانة كبيرة، في حين أن (سدنه البيت) يشكلون أعداداً غير قليلة في كل معبد، ويتقدمون بمختلف الأعمال إلأى جانب حمل تماثيل الآلهة، وإلى جانب هؤلاء كان ثمة كهنة غسالون ومنظفون ممن كانوا يعتنون بنظافة المعبد وبيوته وأما الكهنة الدهانون فكان عليهم الاعتناء بالأدوات المقدسة والتماثيل ومسحها بالزيت. وكان قارئو الفال وأمثالهم يشكلون فئة كبيرة يتقاطر عليهم السكان من كل صوب وحدب. وعلى الكهنة طرد الأرواح من البيوت والمدن ومعالجة الأمراض التي جلبتها القوى الشريرة وعليهم تكريس أنفسهم لخدمة الآلهة والمعبد أو العمل في مراسيم العبادة للموتى، ويمكن تقسيم قراء الغيب حسب طريقة قراءتهم للمستقبل فمنهم من كان يستعمل الكبد أو الآنية وجناح الطير أو السهم وقسم آخر يعمب في حقل تفسير الأحلام. ولا يمكن الاستغناء عن الموسيقيين والمغنيين لمراسيم العبادة والأعياد ومناجاة الموتى. وكل هؤلاء يشكلون قسماً صغيراً من العاملين في خدمة المعبد بالقياس إلى العدد الهائل من العمال والحرفيين والخدم والكتاب والمراقبين والعبيد الدين كانت إدارة العبد تتم بوجودهم وخدماتهم المباشرة. وبالإضافة إلأى ذلك كان في المعابد نساء كاهنات في السحر والشعوذة أ, كموسيقيات وإلى جانب رئيس الكهنة توجد رئيسة للكهنة أيضاً. ويحتمل أن بعض الكاهنات الدنيا في بعض المعابد كن يمارسن البغاء المقدس.
    ومن الجلي أ،ه ينبغي أن تكون مقاطعة المعبد كبيرة، بحيث تكفي لضم العدد الضخم من العاملين في مرافقها. كانت المعابد البابلية ضخمة جداً وأشبه بمجموعة بيوت سكنية واسعة كما أنها مبنية على نفس الطريقة السكنية. وكانت تحيطها من جميع الجهات أسوار عالية لها بوابة مركزية كبيرة بأبراج أمامية، وكان مركز هذا المرفق الكبير هو الفناء الواسع الطلق، وكانت البوابة تقابل مباشرة فسحة الآله الرئيسة التي تحيطها الأبراج من الجانبين أيضاً، ويمكن للمرء أ، يشاهد نصب الاله من الفناء داخل مصلى في الجدار الضخم، وكانت فسحة العبادة تتميز دائماً بجدرانها السميكة جداً إلأى جانب الفخامة والأبهة. وفي الغرف الممتدة بجانب محراب العبادة ثمة أدوات للعبادة من ضمنها السفينةوالعربة لمواكب رأس السنة الكبرى وثمة في ساحة المعبد عادة حوض كبير، إذ أ، إجراءات مراسيم العبادة والقضايا الأخرى تحتاج إلى الماء، ويحتمل أن بقية الغرف تستعمل لسكن العاملين في خدمة المعبد والذين يقومون بإنجاز الأعمال والواجبات اليومية المتعددة.
    كان معبد مردوخ الرئيسي في بابل يتميز في أهميته عن بقية المعابد الأخرى بضخامة بنايته وأبهته، وكان الزائر لا يجد فيه محراب الاله مردوخ حسب، بل فسحة عبادة لزوجته ساريانيتوم مع عدد آخر من الآلهة أيضاً، وكانت تماثيل الآلهة المقدسة جداً توضع على قواعد خاصة، إما جالسة على عروش مزخرفة أو واقفة، وكانت قد نصبت أمامها موائد القرابين المصنوعة من الطين أو المعدن وهي معدة للقرابين اليومية، ويحتمل أن ذبح الضحية يجري على مذابح أمام المحراب، وكانت الكهنة يقدمون في أباريق رفيعة فدية الشراب التي يملؤن بها أحواضاً صغيرة مختلفة، وكان البخور والعطور الكريمة الأخرى تحرق في أطباق مسطحة وأواني حجرية مزخرفة تثبت على حمالات عالية تمتد على جوانب الهيكل، ويمكن أ، توضع في الغرف المختلفة للمعبد الرئيسي تماثيل الآلهة التي تجلب إلى بابل بمناسبة عيد رأس السنة من مختلف مدن البلاد.
    كان البابليون لا يعبدون إلههم الرئيسي مردوخ في معبد ايزانجيلا حسب، بل في برج ايتميناكي " بيت الحجر الأساسي للسماء والأرض" أيضاً.
    يقع البرج بقمته العالية مباشرة إلأى جانب المعبد في مركز مدينة بابل، ومن الأسوار الطينية يحيط بالقطاع حاجز يعزله عن العالم الخارجي. وكان ينبغي دوماً تعمير وإعادة بناء هذا البرج الذي يرجع أصله إلى عهد حمورابي. ولقد بذل والد نبوخذنصر جهوداً كبيرة لإعادة بناء الزقورة، ولكنه لم يشهد إكتمال البناء، وقد إستطاع نبوخذنصر أ، يوصل برج المعبد إلى ذروة البهاء والروعة، وقد بناه بالطابوق المفخور وبطنه بالطوب المجفف في الشمس، أما البناية فهي عبارة عن شكل مربع مملوء الجوف، طول كل جانب من طابقه الأدنى يتكون من 91.55 م. وترتفع فوقه خمسة طوابق أخرى تتدرج في الصغر مع الإرتفاع، أما الطابق السابع والأخير فإنه يشكل معبداً طوله 24 م وعرضه 21 م وارتفاعه – حسب ما جاء في إحدى اللوحات الطينية حول الزقورة – 15 متراً، وهذا المكان هو منام مردوخ الخاص حيث جهز له سرير ومائدة من الذهب، وكانت جدران برج المعبد قد زوقت بالأفاريز والنتوؤات التي أعطت المساحات الكبيرة حركة هندسية جميلة، أما المعبد الواقع على القمة فقد زوق حسب كلمات نبوخذنصر " بالطابوق المطلي بالأزرق الفاتح". وكان عدد صغير فقط من الكهنة يسمح لهم بالتمتع بشرف الصعود إلى قمة الزقورة، ورغم أن معظم مدن ميزوبوتاميا تمتلك زقورات لآلهتها الرئيسية فإن معبد المدرج في بابل بقي دوماً نقطة جذب مهمة وكانت شهرته قد طبقت الآفاق ةلا سيما في عهد نبوخذنصر.
    وبالتأكيد فإن ارتفاعه الذي تجاوز 90 متراً جعله يفوق كل الزقورات الأخرى، هذا بالإضافة إلى أن الاله مردوخ يعتبر الرب الأعلى لكافة الآلهة البابليين، ويرجع شكل الزقورة في الواقع إلى العهود السومرية حيث تطور عبر مسيرة الثلاثة آلاف سنة من شكل المعبد القائم على مسطحات مدرجة إلى ما أصبح عليه في العهود المتأخرة، كما وينبغي ملاحظة أ، برج بابل كان إلى حدٍ ما تتويجاً لمجمل فن المعابد في بلاد الرافدين والذي بلغ حقاً ذروته ونهايته.



    الصور المرفقة










    وهاهي بعض الصور

    الصور المرفقة



    \
    منقول

  2. #2
    انـثــى التفاصيـــل
    emigrer
    تاريخ التسجيل: January-2014
    الدولة: المنفىّ
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 21,127 المواضيع: 1,960
    صوتيات: 36 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 15097
    مزاجي: وردي
    المهنة: طالبة علم
    أكلتي المفضلة: لا شيئ
    الاتصال: إرسال رسالة عبر ICQ إلى هــاجــر إرسال رسالة عبر AIM إلى هــاجــر
    مقالات المدونة: 35
    شكرا لك

  3. #3
    المشرفين القدامى
    simple beauty
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايام الوداع مشاهدة المشاركة
    شكرا لك
    العفو نورتي

  4. #4
    من المشرفين القدامى
    المدد ياعلي
    تاريخ التسجيل: June-2013
    الدولة: ♥ iЯắQ ♥
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 16,534 المواضيع: 4,408
    صوتيات: 1 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 8446
    مزاجي: இ qúỉэt இ
    المهنة: ☼ CŀVịŀ ŞẹŖΰĄnT☼
    أكلتي المفضلة: ◕ fłşĦ ◕
    موبايلي: ღ ĜắĽАxỴ ѕ3 ċ7 ღ
    آخر نشاط: 3/September/2022
    الاتصال: إرسال رسالة عبر Yahoo إلى حيدر الطائي
    مقالات المدونة: 229
    طرح رااااااااائع
    جدا
    شكرا لكِ
    نسيم الروح
    نتمنى لكِ
    كل الود

  5. #5
    المشرفين القدامى
    simple beauty
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حيدر الطائي مشاهدة المشاركة
    طرح رااااااااائع
    جدا
    شكرا لكِ
    نسيم الروح
    نتمنى لكِ
    كل الود
    مرورك الاروع حيدر شكرا لك

  6. #6
    عضو محظور
    الشاعره ام حر
    تاريخ التسجيل: September-2013
    الدولة: العراق
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 15,504 المواضيع: 1,798
    صوتيات: 0 سوالف عراقية: 2
    التقييم: 7236
    مزاجي: متفائله جدا
    أكلتي المفضلة: كل شيئ بي شوفان♡
    موبايلي: كلاكسي
    مقالات المدونة: 37

  7. #7
    المشرفين القدامى
    simple beauty
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كناري الورد مشاهدة المشاركة
    منورة حبيبتي

  8. #8
    من المشرفين القدامى
    ALZOBADY
    تاريخ التسجيل: November-2013
    الدولة: العراق / بابل
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 17,463 المواضيع: 1,770
    صوتيات: 8 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 16663
    مزاجي: مطعج :4:
    المهنة: كاسب
    أكلتي المفضلة: الفاصوليا + البرياني
    موبايلي: Iphon 7 plus
    مقالات المدونة: 1

  9. #9
    المشرفين القدامى
    simple beauty
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسين عباس. مشاهدة المشاركة
    العفو شكرا لمرورك

  10. #10
    من أهل الدار
    كبرياء انثى
    تاريخ التسجيل: February-2014
    الدولة: عربيه وافتخر
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 1,793 المواضيع: 44
    صوتيات: 2 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 840
    مزاجي: كلي وجع لبعدي عنك يابلادي
    المهنة: طالبة هندسة
    أكلتي المفضلة: البرياني
    موبايلي: جالاكسي 3
    آخر نشاط: 4/May/2016
    مقالات المدونة: 13
    رروؤؤؤؤعه

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال