محمد بشير.. روائي هندي يركب الأفيال....
لا يوجد فرد في كيرلا (من أكبر ولايات جنوب الهند وبها أغلبية كبيرة من المسلمين وبرلمانها يحكمه الشيوعيون والرابطة الإسلامية) لا يعرف من هو محمد بشير.
وربما كانت هذه هي حال كل العباقرة في كل العالم؛ أنهم يختارون طريقًا فريدًا وبسبب التفرد وقدرتهم على التعبير عن أحلامهم وأفكارهم نتعلم منهم ونحذو حذوهم، ومن ثم نعرفهم.
لقد صار بشير أسطورة بالنسبة لكيرلا حتى وهو حي، ونسجت القصص من حوله، ورويت الروايات عن حياته وقدرته العظيمة على الحب والتضحية والعطاء. وبالطبع عن البساطة والجمال والحيوية التي تميز كتاباته، وعن مختلف السير الحية التي يحكيها لنا في رواياته وأعماله الأدبية.
لقد عاش محمد بشير عابدا صوفيا سائحا بين بقاع الأرض، في صباه الباكر ارتحل من موطنه في كيرلا لينتقل عبر أرجاء الهند ومنها إلى مناطق أخرى كثيرة.. أفغانستان.. جزيرة العرب.. وحتى مناطق من أفريقيا.
ربما يكون الوصف الأجدر به هو أنه كان بدويًا رحالة. كان بشير يعرف الفرق بين السفر والترحال، فالمسافر له هدف في ذهنه ومنطقة يصل إليها أو يؤوب إليها وتقر بها عينه، لكن البدوي الرحالة لا هدف له، إنه يرفض الإياب والمستقر، فالعالم الفسيح موطنه، وأرض الله الواسعة مقره وهدفه الوحيد هو الحياة بحلوها ومرها.
وهكذا استكشف بشير بطبيعته الرحالة مناطق لم تستكشف في الحياة البشرية؛ فكانت حياته رحلة في الزمان مثلما كان هو رحالة في المكان.
وسرعان ما انطلقت روحه المتحررة لتتنسم عبيره اليومي، ولكن غير المألوف، وهكذا وجد نفسه منغمسًا في الحياة بمآسيها وملاهيها، فانعكس كل ذلك في كتابات بشير حتى صار من العسير على النقاد تصنيف أدبه تحت أي مدرسة لغوية أو أدبية قديمة أو معاصرة.
قاموس محمد بشير محدود، لكن كل كلمة من كلماته مثقلة بالمعاني، يمكننا القول بأنه كان شديد الشح في استخدام الكلمات، وبعض مفرداته من اختراعه ونحته، ولم يسبقه أحد على هذا الدرب في الأدب المكتوب باللغة المالايالامية (إحدى لغات الهند التي يستخدمها أهالي كيرلا على الأخص.
ويبلغ عدد اللغات في الهند ما يزيد على 50 لغة) كان بشير ينحت كلماته من حياته ذاتها التي عاشها وخبرها. كتب بشير عن أنواع عديدة من البشر، أولئك الذين ابتعدوا أو أبعدوا عن دائرة "المألوف" و"المحترم" و"النخبة" كتب عن الشطار والعيارين والنشالين والسجانة والسجناء والعاهرات والقوادين ومحترفي اليوجا والمتصوفة.
واستخدم لغة بسيطة وسهلة للتعبير عن هؤلاء الناس، كان ينحت من كلماتهم ويستخدم قاموسهم الفج غير المرقش.
ولا يسأل بشير عن هوية من يكتب عنهم!! لا يسأل إلى أية أمة ينتمون وأي ديانة يعتنقون ولا لأي جنس ينتسبون ولا أي لغة يتكلمون، إن ما يهمه هو حياتهم العظيمة والدنية في نفس الوقت، إنه يكتب من وحي المتاعب التي يواجهونها والأفراح التي يعيشونها.
ولأن "بشير" كان بدويا رحالة يبحث عن لا شيء وكل شيء؛ فقد عاش حياة الصعلكة بكل معانيها وثرائها، وعمل في كل أنواع الوظائف بداية من الصيد ومرورًا بالطبخ وانتهاء بالسحر.
وكان يصادق كل أنواع البشر الذين يقابلهم، واستمرت صداقته مع معظمهم حتى بعد أن استقر واشتهر بصفته كاتبا كبيرا، وكانوا يزورونه في منزله في بايبور بولاية كيرلا.
كانوا يسمون بشير "سلطان بايبور" وكان بيته مقصدًا للزائرين ومفتوحًا للجميع، أيضًا التقى بشير في رحلاته المبكرة بملوك الهملايا العظام (كلمة المهراجا تعني الملك "راج" العظيم "ماها") ثم ذهب إلى كشمير حيث قابل العلماء المسلمين الكبار، ومن ضمن من قابلهم العالمان يوسف علي ومحمد أسد، وكان بشير من القلائل الذين أتيح لهم الفرصة للاطلاع على مخطوط ترجمة معاني القرآن التي قام بها العلامة يوسف علي.
وقبل أن يبدأ بشير رحلاته انخرط في النشاط الثوري لمكافحة المحتل الإنجليزي، وكان يحف شاربه على مثال المناضل الهندي الكبير بهجت سنج، ونتيجة هذا التمرد هرب بشير من المدرسة عندما كان في الرابعة عشر من عمره ليلحق بانتفاضة الملح الكبرى، في "كوخيكودا" وسجن عدة أشهر في سجون شتى وتحولت تلك التجربة العنيفة إلى رواية رائعة هي "الجدران" والتي تحولت بدورها لفيلم شهير.
كان بشير يمضي وقته في السجن في مطاردة الفراشات داخل الجدران وزراعة الورد أمام زنزانته، وكان يقول دائما: لا بد أن تكون هناك حديقة في كل مكان أحل به.
وفي أحد الأيام يقول بشير: "سمعت أجمل صوت وشممت أحلى عبير في الدنيا وعرفت على الفور أنها ضحكة امرأة تأتي من خلف الجدران".. كان هناك سجن نسائي في الناحية الأخرى، ويستطرد بشير: "بدأت على الفور التفكير في أجمل مخلوقات الله، المرأة" وسرعان ما بدأت صداقة بين بشير وبين تلك المرأة المسجونة في سجن النساء والتي كانت قد اعتادت على الغناء بصوت عالٍ لتسلية نفسها، كان اسمها ناراياني وكانت تبلغ 22 عامًا وكانت تمضي عقوبة السجن المؤبد لاقترافها جريمة قتل، وجد بشير فيها صديقة رائعة رغم أنهما لم يتقابلا ولم يشاهدا بعضهما البعض، كانا يتضاحكان ويتكلمان بصوت عال عبر الجدران العالية، وسألته ناراياني يومًا هل ستذكرني بعد موتي؟ رد بشير: "بأنه سيذكرها دائمًا وأبدًا لأن رمزها يملأ العالم، تعجبت ناراياني وسألته: هل هذا الكلام المعسول من قبيل الضحك والسخرية؟ رد: "لا، فكلما رأيت جدرانا سأذكر ناراياني".. الجدران هي رمز ناراياني عند بشير.
وأخيرًا اتفقا على خطة كي يستطيعا أن يلتقيا، سيدعي كل منهما أنه مريض، ومن ثم سيكون بوسعهما اللقاء في مستشفى السجن، بل إنهما اتفقا أيضًا على كيفية التعرف على بعضهما البعض. لكن في اليوم السابق على موعدهما أتى السجان لبشير ليخبره أنه حر.. وصرخ بشير: "لماذا تطلقون سراحي، من يريد الحرية؟".
لكن لا بد مما ليس منه بد.. وهكذا خرج بشير من السجن ولم يقدر له اللقاء قط مع ناراياني التي باتت ليلتها تحلم بلقاء الغد. كل هذا وصفه بشير بتمكن واقتدار في روايته "الجدران" التي تحفل بدقائق الحياة اليومية التي اعتدنا عليها.. وتذهلنا.
لم تكن الجدران أولى روايات بشير، وإنما كانت روايته الأولى هي "صديق الطفولة"، كتبها بالإنجليزية أولا ثم أعاد كتابتها بالمالايا لام، وعندما نشرت لأول مرة وجد بشير أن الناشر قد غير اللهجة المحلية، التي يستخدمها المسلمون والتي كتبت بها الرواية إلى لغة الكتابة المعتادة، فأحرق بشير كل النسخ وقال للناشر: أريد هذا الكتاب كما كتب بالضبط.
يتكلم بشير في هذا العمل الشهير عن ذكريات الطفولة الجميلة ومصاعب ومآسي الإنسان وحنيننا نحن الكبار لهذه الأيام. كان بشير يتكلم عن الحياة التي نعرفها ولا نقرأ عنها، حياة المهملين والمهمشين والضعفاء الذين تقتحمهم الأعين وكأنهم غير موجودين.
ونجد هذا الجانب بجلاء في روايته الشهيرة "الأصوات" تلك الرواية التي أدينت ثم رد اعتبارها ومجدت. في هذه الرواية يحكي لنا بشير عن الحرب، يتكلم عما يسمى بالتضحيات التي يراها بلا معنى، ويرى البشر يقتلون على مذبح الوطن، وفي سبيل الكلمات الجوفاء.
يحكي بشير عن عبثية هذه المذابح ولاجدواها، يلتقط بعينه الخبيرة لقطات مؤثرة ومهمة: امرأة تحنو على طفلها الرضيع، جنود ومتشردون يعانون من المرض، أناس بلا مأوى.. أمراض جنسية سرية تنتشر رغم الزيف الاجتماعي.. شذوذ جنسي وقهر، وهكذا يقدم بشير رؤية متعمقة للحظات حياة حقيقية.
ونظرًا لأن الرواية عالجت موضوعات محرمة مثل الشذوذ والفقر والمرض الجنسي والقهر الاجتماعي، ورغم أنها لم تستخدم لغة منفرة أو صور مقززة؛ فقد قوبلت برفض شديد من النقاد واعتبرت رواية مكروهة، ولكن بعد عدة عقود من الزمان اعتبرت الأوساط الأدبية الرواية أحد أهم الأعمال المكتوبة بلغة المالايالام نظرًا لقوة موضوعها وتفرد أسلوبها.
وصف ناقد المالايالام الكبير المتمرد م. ب. بول الرواية بقوله: "إنها ورقة خضراء قطعت من شجرة الحياة"، وعندما سئل بشير عن هذه الرواية أجاب أن 90% من أحداثها قد وقع له.
لا يوجد فرد قرأ الرواية ولم يتأثر بقصة الحب الجميلة والشاعرية بين الطفل مجيد والطفلة سوهارا. ويعتقد الكثير من النقاد أن المحادثة الرائعة بين بطلي الرواية تمثل رؤية بشير للعالم.
ففي حصة الحساب تسأل سوهارا الصغيرة صديقها مجيد عن حاصل جمع 1+1، يفكر مجيد بعمق ثم يرد: "واحد أكبر"!