همسات سرية
قصة: ضياء قصبجي - بقيت وحيداً.. لا يؤنس غربتي غير أصوات وهمهمات تصلني من البيت المجاور.. وكنت كلما أدنيت أذني بالجدار -وهي عادة تلازمني منذ الصغر،
عادة الإصغاء إلى الهمسات السريّة - سمعتُ همسات قوم لا أعرف بأيّة لغة يتكلَّمون! يتبادلون الاتّهامات حيناً.. وكلمات الحب حيناً آخر.. كنتُ أبني حولي هالة من الصمت، فلا صوت من آلة تسجيل أو مذياع، أو حتى ذبابة تحوم، كي أفهم شيئاً أو بعض الشيء مما يقولون.
في الماضي.. لم يكن أمر هذه الأصوات يعنيني، لكنها شيئاً فشيئاً جذبت انتباهي، خاصة حين سمعت صوت أنثى، أحياناًً تثور فتلقي - كما أتخيّل فمنذ نعومة أظفاري كنتُ أمتلك مخيّلة واسعة - بأوانٍ زجاجيّة على الأرض فتحطمها، لكنَّها في بعض الأحيان تكون رائقة البال صافية الخيال، فتشدو أغنية عذبة، يأسرني لحنها الذي يشبه الألحان الهندية المفرحة، والذي اعتدت على سماعه كلّ يوم. أما المعاني، فإن أذني تتسرّب إليها الرطوبة من جرّاء إلصاقها بالجدار فترة طويلة، دون أن أفهم حرفٍ من أحرفها.
تساءلت بيني وبين نفسي عن اللغة التي تشدو بها هذه الأنثى، ويتحدَّث بها هؤلاء القوم، ومن أجل هذا الأمر الذي لا علاقة لي به البتة، ألغيت متعة سماع المذياع على الرغم من ولعي الشديد بالإصغاء إلى نشرات الأخبار و فهم ذلك الخبث، وتلك التعليقات المغرضة على أحد ما.
أصبح همّي وشغلي الشاغل أن أسترق السمع محاولاً فهم تلك اللغة التي تشبه الطلاسم، والأحجيات، وهي إحدى عاداتي التي أتتني عن طريق الوراثة، إذ إنني أضحّي بكل ما يسعدني.. وأبحث عن كل ما بإمكانه أن يتعسني».
أمّا المبرر لكلِّ هذا، فهو السؤال الذي أطرحه على نفسي:
«كيف أقطن مجاوراً لأناس لا أعرف ماذا يتكلّمون، وبأي تفكير يفكّرون؟ ثّم من يضمن المستقبل! قد أضطرُّ لمحاربتهم بذات لغتهم، وطريقة تفكيرهم!؟ أو من يدري؟ قد ينهار هذا الجدار الفاصل بيننا، ويظهر كلّ منّا للآخر وجهاً لوجه، سيكون الأمر مريعاً بالنسبة إلي، فهم كثيرون وأنا وحيد، لا أنيس، لا قريب، لا صديق، كلّ ما أملكه ردود أفعال ليس أكثر.
في الوقت ذاته أرغب في انهيار الجدار لأشاهد الأنثى التي طالما أطربني صوتها وطالما جعلتني أثور لثورتها وأسعد لسعادتها، مع أنني لا أستطيع تخيّل وجه الفتاة أهو ساحر الجمال أم أنه إلى القباحة أقرب..؟!
وهذه أيضاً إحدى عاداتي الموروثة.. أن أغضب لما يحصل مع غيري، أكثر من انفعالي لأموري الحياتية الخاصة بي .
كل الذي يؤرقني، ويوسوس لي هو تلك الرغبة الدفينة في كشف هويّة الشيء المجهول، وإدخال كل جديد وغريب، ومثقّفٍ إلى نفسي.
كانت الساعة لم تزل التاسعة ليلاً، حين هممتُ بالانصراف من المقهى.. ودَّعت أصدقائي، تساءلوا عن سبب عودتي السريعة، فقد اعتدت وإيّاهم أن نمشي آناء الليل وأطراف النهار في المقهى القريب من بيتي.
مقهى صغير متواضع، يحتوي على عدة مناضد خشبيّة، نجلس حول واحدة. «ونناقش» بأهمية بالغة أكثر الأمور تفاهة، مرّة نسمو بحديثنا ومرة نسفّ».
في البيت قبل أن أصنع لنفسي عشائي، دخلت غرفتي وأغلقت الباب والنوافذ.. ألصقت أذني بالجدار فلم تسمع أيّ شيء، جرّبت الأذن الأخرى ظناً مني أن الأولى قد أصيبت بالصمم.. فلم تهتزَّ بأيّ صوت.. شعرت بثقل الصمت وعذابه، فلقد كان قاسياً على نفسي أشبه بصمت المقابر.. وعرفت كم كانت تؤنسني تلك الأصوات..!؟
إذ ليس من المهم أن نفهم ما يُقال.. بل المهم ألاّ يجرح إحساسنا ما يُقال.
«آه.. كم في شبابي جرح إحساسي من أفهمهم ويفهمونني.. وأحبّهم ويحبونني؟ وكم من أنثى أحببتها..! وقدَّمت لها روحي على طبق من قش، طعنت قلبي النابض بحبها.. بكلماتٍ قاسية لم أحتملها..!؟ وكم في عملي أسمع كلاماً لا أستسيغه من رؤسائي وزملائي بل وزميلاتي..؟!
ولفرط عاطفتي وحساسيتي، تشكَّلت لديّ عقد كثيرة.
بقيت أيّاماً أجترّ عذابي وماضي حياتي.. وفي وقت ما إذ بجلبة وصوت وضوضاء من البيت المجاور عرفت أن القوم عادوا.. فرحت لعودتهم كدت أرقص فرحاً، وعدت إلى استراق السمع.
لكنَّ رغبة ملحة تكوّنت في أعماقي، هي أن ألقاهم، وأن أزيل ذلك الستار القائم بيني وبينهم.. فلقد أحببتهم دون أن يعرفوني، وأحبوني دون أن يسيئوا إلي.
فأنا واحد من أولئك الذين يفكرون ألف فكرة، ويضعون مائة مشروع، ثم لا ينفِّذون أيّ شيء غير نفث الدخان والثرثرة.
من ناحية أخرى فإنَّني أخاف أن أبني جداراً آخر بيني وبينهم بسبب فهمي لغتهم، واكتشافي وجوههم، ومن ثم وقوفي أمامهم وجهاً لوجه.
وخوفاً من أن أفهم أنشودة الأنثى التي قد تكون جميلة، ولكن في جمالها قسوة ووحشية، فلقد صمّمت على الهروب من المجابهة.
« كعادتي التي ورثتها منذ ولادتي.. عادة التملّص من أيّ موقف يحتاج إلى قوة ومجابهة».
«ولكن.. يخيّل إليّ أنَّ ردّ فعل الهروب.. هو المجابهة بكلِّ تأكيد».