ثَقـافَةُ الحُـب
يقتصر مفهوم الحب على علاقات الحب بين الجنسين، بل هو الحب المطلق الذي يلامس كل مناحي الحياة، حب ّالخالق سبحانه وما خَلق، وحبّ الأرض والوطن والجمال، امتداداً إلى الحب الإنساني، كي يتحقق الكمال في الشخصية التي أرادها الله أن تكون رائدة على هذه الأرض.
وما دامت ثقافة الحب قيمة إنسانية سامية، فهي فعلٌ أخلاقيّ، لا ينتظر «عيداً» كي يعبّر عن نفسه، ولا أن يتقزّم في عبّ «وردة حمراء» قابلة للذبول، ولا بكلمات تفوق في بعدها الفني مشاعر من يكتبها.
وكي تتحقق هذه القيمة المثلى يلزم مفاتيح سحرية تخوّل، من يتمثّل مضمونها، كثقافة، الدخول إليها، والتماهي معها كحالة إنسانية، أساسها فطرة وضعها الله سبحانه في تكويننا كبشر، توصِلنا جميعاً إلى بناء «مدينة فاضلة»، هي الحلم الأبهى.
وليست المفاتيح سرّاً عصيّاً على الفهم والتخلّق، بل هي في صلب ثقافة الحب المبني على أسس واعية وسليمة، تتشكّل من ثلاثة طيوف تخضع إلى معايير «الرحمة، والتسامح، والصدق»، بكمال الإيمان بها، والتخلّق بقيَمِها، نستطيع أن نسعى إلى ثقافة حبّ مستديمة تتداخل مع سلوكنا اليومي، وعلاقتنا مع الذات أولاً، ومع الآخر.
متى كان الإنسان صادقا مع نفسه، ومع الآخر، سواء بالتعامل المادي أو المعنوي، نستطيع أن نفهم مرامي الرحمة أيضاً، فالحسّ الإنساني المفترض، هو الذي يتحلّى بمشاعر الرحمة، مرفوعة على أعمدة الصدق، وقائدة إلى التسامح.
ولسنا نأتي بجديد ونحن نعرّف ما هو معرّف أصلاً، لكنه، قد يغيب، في زحمة أحداث دخيلة، عن فطنة الكثيرين، فيلج الحقد القلوب، يفتت كلّ قيم الصدق والرحمة، وبالتالي يفقد الحب الحقيقي معناه المفترض.
ونحن، في موجة الأحداث التي تعصف بمجتمعنا، والتي أوغلت فينا تقطيعا وتشويهاً وفجيعة،في أمسّ الحاجة إلى التمثّل بثقافة التسامح كي تستقيم الحياة، ونعود إلى مسار حياة كانت مفعمة، على أقل تقدير، بالأمان.
ولو حاولنا التخلّص من تداعيات الأحداث وما سببته لكثيرين من ألم وضغينة على من قتل ودمر، نعود إلى أصل قِيَم العفو والتسامح والرحمة التي استقيناها من الخالق الكريم، في دستور الإسلام الحقيقي والواقعي، والرسالة فائقة الوضوح التي أرادها الله سبحانه تعميماً لسلوكنا البشري، وهي أمثلة أكثر من أن تعد وتحصّى ركّز عليها القرآن الكريم استكمالاً لمنظومة الأخلاق التي كانت باهية الحضور في كل ما جاء به القرآن.
قال تعالى في محكم التنزيل: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) «سورة الحجر الآية 85»، وقال جلّ وعلا (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) «سورة النور الآية 22»، وقال عزّ من قائل: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) «سورة آل عمران الآية 134»، صدق الله العظيم.
ولنا في أخلاق الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، فقد آذته قريش أذى كثيراً، كذّبوه، وحاربوه، وأخرجوه، ومارسوا عليه وعلى من آمن برسالة الإسلام أفظع أنواع الأذى وصنوفه الموجعة، لكنه صمد وانتصر، ودخل مكةّ فاتحاً، وقف قبالة أولئك أنفسهم، وقد قال له أحد الصحابة عليهم السلام: (أعمل سيفك في رقابهم يا رسول الله)، لكنه، ومن منطلق الرحمة والتسامح والصدق، يرجو أن يخرج من أصلابهم من يؤمن، جمع القوم وقال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم).
هذه هي الرسالة التي نتمناها تتفاعل بيننا على الرغم من الألم والفقد والفجيعة، فليس لنا إلا أن نتعايش في بيئةٍ ووطن واحد أخوة كي تستمر الحياة فينا في حدائق ثقافة حبّ أصيل مُطلق.