المحسنات البديعية في الأمثال القرآنية
إن المتتبع لأمثال القرآن الكريم يمكنه ملاحظة أن القرآن اعتمد على ألوان بديعية في القضية الواحدة ، أو القضايا المتشابهة أكثر من غيرها من المحسنات ، مع استخدامه لأنواع بديعية أخرى تختلف من مثل إلى آخر .
ففي إثبات القدرة الإلهية ركّز القرآن على استخدام بعض المحسنات ، أهمها:
المذهب الكلامي ، والاستطراد ، والطباق ، إذ نجد غالبية الأمثال التي ضُربت لبيان قدرة الله قد استُخدمت فيها هذه المحسنات أكثر من غيرها.
ففي قوله تعالى: ((يُخرِجُ الحيَّ مِنَ الميت ويُخرِجُ المَيتَ مِنَ الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تُخرجون .
اشتملت الآية [المثل] على ألوان عدة من المحسنات البديعية منها:-
1- الطباق:
في قوله تعالى: [ الحي ، الميت] ، ونوعه طباق إيجاب، وهو أن يجمع بين الضدين ، وقوله:[ يحيي، موتها] .
2- المذهب الكلامي
فقد بيّن الله ـ سبحانه ـ في هذا المثل قدرته تعالى على إخراج الكائن الحي ممن لا حياة فيه ، كإخراج النبات والثمر من البذرة ، وإخراج الفرخ من البيضة ، وكذلك العكس ، كما بيّن قدرته على إحياء الأرض وإنباتها ، بعد أن كانت جرداء لا حياة فيها ، وبعد هذه المقدمات والأدلة جاء القرآن بما أراد إثباته وهو البعث ، فقال:- " كذلك تخرجون"، فمن يستطيع أن يبعث الحياة في ما لا حياة فيه أصلا والعكس قادر على إعادة الحياة إلى الأموات .
3- الاستطراد (1(
فقد بيّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قدرته على الخلق من العدم والعكس، وعلى إحياء الأرض القاحلة ، ثم أكد قدرته على إحياء الموتى ، فجاء بمعنى أول ؛ ليدل على طلاقة القدرة الآلهية على بعث الموتى وإعادة الحياة لهم، وهي أساس الإعجاز الإلهي .
4- العكس والتبديل:
وذلك في قوله تعالى : (( يُخرجُ الحي مِنَ الميتِ ويُخرجُ الميت من الحي)) ، وقد وقع العكس بين الحي من الميت ، إذ قدّم الحي على الميت ، ثم عكس فقدم الميت على الحي ، فوقع العكس بين متعلقي فعلي: [ يخرج] الأولى و ( يخرج) الثانية.
5- الانسجام
إذ جاء القرآن بجمل متآلفة تدرّج فيها من حالة إلى أخرى بألفاظ سهلة مسبوكة.
6- رد العجز على الصدر:
ويسمى التصدير ، في قوله تعالى:- " يخرج الحي ..... وكذلك تخرجون"، وهو أن يجعل أحد اللفظين المكررين، أو المتجانسين ، أو الملحقين بهما في أول الفقرة ، والآخر في آخرها(1)
فجاء في بداية المثل بقوله :- " يخرج" ثم ختم المثل بما يجانس اللفظ الأول "يخرجون".
7- التجريد:
أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة في كمالها ، فجاء ببيان إخراج ما لا حياة فيه ممن له حياة ، حتى يصل إلى إخراج الموتى .
8- الإبداع:
وهو أن يشتمل الكلام على عدة أضرب من البديع.
وقد اشتمل المثل على محسنات بديعية مختلفة. فهذه الآية التي لم تتجاوز عدد كلماتها الخمس عشرة كلمة، تضمنت هذا الكم من المحسنات البديعية التي لم تسهم في تزيينها، وتحسين الكلام فقط، وإنما أفادت معاني أخرى ، كإثبات البعث وتأكيده، وبيان قدرة الله، وغير ذلك مما أفادته تلك المحسنات.
ومنه قوله تعالى : ((ومن آياتهِ أنّكَ ترى الأرضَ خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماءَ اهتزتْ وربتْ إنَّ الذي أحياها لَمُحي الموتى إنه على كلِ شيءٍ قدير)) .
ضُرب المثل لإحياء الموتى بالأرض، لذا فقد استخدم فيه : الاستطراد، والمذهب الكلامي ، والطباق ، وغيرها من المحسنات ، إذ اشتمل على ضروب عدة ، منها :-
1- الطبـــــــاق:
بين ( محيي ، الموتى )
2- الاستطـــراد :
فقد ذكر ـ سبحانه ـ قدرته على إحياء الأرض الميتة، ثم بيّن وأكد قدرته على إحياء الموتى ، فجاء بمعنى ومثل مُشاهد ؛ ليؤكد على معنى وقضية يُنكرها المنكرون ، وهي قضية البعث.
3- المذهب الكلامي :
جاء بمثل لبيان قدرته ـ سبحانه ـ على الإحياء، وهو إحياء الأرض، فمن يستطيع إحياء الأرض القاحلة الميتة قادر على إعادة الحياة للموتى الذين كانوا في السابق أحياء، فالإعادة أهون من النشأة الأولى . فأتى بمقدمات ، ومسّلمات ليصل بها إلى المطلوب ، وهو بيان قدرته على بعث الحياة بعد الموت.
4- حُسن الترتيب:
وذلك في قوله تعال)) : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)) ، فرتب الاهتزاز على الربو، ولفظ الربو على الإنبات.
5- ائتلاف اللفظ على اللفظ:
في قوله ))ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت(( إذ جاء بكلمة (خاشعة) بمعنى يابسة وخامدة، جاء بألفاظ تناسب لفظ خاشعة وهي: اهتزت وربت ، ولم يقل مثلا: اخضرت وأنبتت.
6- التذييل :-
في قوله تعالى ))إنه على كل شيء قدير(( ، إذ أكدت الجملة قدرته ـ تعالى ـ على كل شيء ، ومنها إحياء الموتى.
7- حسن النسق:-
جاءت الجمل مرتبة ترتيباً حسناً ، خالية من عيوب النظم ، وهذا في جميع آيات القرآن الكريم .
ومنه قوله تعالى: (( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم))
من المحسنات البديعية التي تضمنها المثل ما يأتي:
1- المذهب الكلامي :
وقد استخدم في غالبية الأمثال المضروبة لبيان قدرته تعالى على الإحياء ، وهو في قوله تعالى:"وهو الذي يَبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه" ، فالإعادة
أهون عليه من البدء، " والأهون من البدء أدخل في الإمكان من البدء ، فالإعادة أدخل في الإمكان من البدء ، وهو المطلوب....."(2). فجاء بمقدمة وحجة تبيّن قدرته ـ تعالى ـ على إحياء الموتى، وإعادة الأموات ؛ لأن من قدر على الخلق وإنشائه من عدم ، قادر بل أهون عليه إعادة الحياة لمن كانت له حياة.
2- الطباق:
في قوله تعالى:- " السموات ، الأرض".
3- فن الاستخدام
4- أي: إطلاق لفظ مشترك بين معنيين مطلقا، فيزيد بذلك اللفظ أحد المعنيين، ثم يعيد عليه ضميرا يريد به المعنى الآخر، بعد استعماله في معناه الثالث، وقد أعاد في الآية الضمير في قوله: ـ " وهو أهون عليه" على الخلق بمفهومه الآخر، وهو المخلوق، لا بمفهومه الأول وهو المصدر.
وفي تفسير الآية أن الأهون" بمعنى الهين، فيوصف به الله ـ عز وجل ـ وكان ذلك على الله يسيرا كما قالوا: الله أكبر، أي: كبير، والإعادة في نفسها عظيمة، ولكونها هونت بالقياس إلى الإنشاء، أو هو أهون على الخلق من الإنشاء؛ لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفا ثم علقا، ...."(2) . وقد أعاد الضمير على الخلق ، أي: المعنى الثاني وهو المخلوق .
5- المبــــــالغة:
فقد جاء قوله تعالى: ـ (( وهو العزيز الحكيم ))على صيغة المبالغة[فعيل]؛ ليبيّن مدى قدرته، فهو العزيز" القاهر لكل مقدور، [الحكيم] الذي يجري كل فعل على
قضايا حكمته وعلمه...."، على أن صفات الله ـ تعالى ـ التي على صيغة المبالغة يعتبرها بعضهم مجازا؛ لأنها موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له، وصفاته تعالى متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها ، فالمبالغة هنا هي بالنسبة إلى كثرة المتعلق لا الوصف .
ومنه كذلك قوله تعالى:
((يأيُها النّاس إن كنتم في ريبٍ مِنَ البعثِ فإنّا خلقناكم مِن تُراب ثم من نُطفةٍ ثّمّ مِن علَقَةٍ ثُمّ مِن مُضغةٍ مُخَلّقَةٍ وغيرِ مُخَلّقةٍ لِنُبين لكم ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مُسمّى ثم نُخرِجُكم طِفلا ثم لِتَبلُغُوا أشُدّكم ومنكم مَن يُتوفّى ومنكم مضن يُرَدُّ إلى أرذلِ العُمُرِ لِكيلا يَعلمَ مِن بعد عِلمٍ شيئا وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماءَ اهتزت وَرَبَتْ وأنْبَتَتْ من كلِ زوج بهيج ذلك بأن اللهَ هو الحق وأنه يُحيى الموتى وأنه على كل شيء قدير))
تضمنت الآيتان فنونا كثيرة من البديع، منها:
1- المذهب الكلامي:
جاء ببيان قدرته تعالى على الخلق، ثم إحياء الأرض كدليل على إحياء الموتى .وقد استخدم هذا المحسّن لأنه يعتمد على المنطق، والحجة في الإقناع.
2- الاستطــــــــــراد :
إذ خرج الكلام عن الغرض الذي من أجله ذكرت الآية إلى آخر لمناسبة بينهما، ثم ختم المثل بالعودة إلى قضية البعث، وقدرته على إحياء الموتى بعد أن أثبت قدرته على خلق الإنسان من لا شيء، وإحياء الأرض الميتة .
3- ائتلاف الطباق والتكافؤ :
وذلك لمجيء أحد الضدين أو أحد المتقابلين حقيقة والآخر مجازا ، فهمود الأرض واهتزازها ضدان؛ لأن الهمود السكون، والاهتزاز حركة خاصة، والربو والإنبات ضدان وهما حقيقتان، فالأرض تربو حين نزول المطر عليها، وهي لا تنبت في تلك الحالة، ولكن حينما ينقطع المطر ويجف الهواء، الماء يخمد الربو، فتعود الأرض إلى الاستواء، وتتشقق وتنبت، فصدر الآية يُعد تكافؤا، وما قابله طباقا .
4- الإرداف : ـ
وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ الإشارة الدال على المعاني الكثيرة، بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص، وتابعه، قريب من لفظ المعنى الخاص، فقد عدل عن لفظي الحركة والسكون الحقيقيين إلى أردافهما من لفظي الهمود والاهتزاز؛ لملاءمتهما للمعنى المراد؛ لأن الهمود يُراد به الموت، وعدل عن لفظ الحركة العام إلى لفظ الحركة الخاص، فجاء بـ[اهتزت] ليشعر بما يسرها، وتعطي من النبات الكثير .
5- حسن الترتيب :
لما فيه من حسن الترتيب، حيث تقدم لفظ الاهتزاز على لفظ الربو، ولفظ الربو على الإنبات .
6- الجـــمع مــــع التفـــريق :
الجمع في قوله تعالى: ((فَإنَّا خَلَقناكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ..... )).
والتفريق في قوله تعالى: (( وَمِنكم مَن يُتَوفّى ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرذل... ))
مع حسن التقسيم، إذ إن الناس فئتان، فئة تموت في مقتبل العمر، أو قبل أن تصل إلى سن الشيخوخة، وفئة أخرى تصل إلى سن متقدمة فتعود كما كانت في صغرها من حيث الإدراك، ولا توجد فئة ثالثة، وقد فرّق بين الناس إلى الفئتين السابقتين ، وفيه تفصيل .
7- الاستقصاء (1)
إذ نجد القرآن قد استقصى كل مراحل تكوين الإنسان منذ أن كان نطفة، وتدرّج في مراحل تكوينه ومراحل حياته تدرجا بترتيب زمني حسب الزمن والعمر .
8- الإرصــــــــاد : ـ
من خلال الآيات تتضح نهاية ، أو يذكر قبل الفاصلة، فالآيات تتحدث عن قدرته تعالى،فختم الآية بما يناسب ذلك وهو قوله تعالى: ((وأنه على كل شيء قدير ))
9- الائتـــــلاف : ـ
بما يُلاحظ من انسجام وتوافق بين الألفاظ ومعانيها، وبين اللفظ وما يجاوره من ألفاظ أخرى