البشري والإنساني .. حدود التقدم وآفاقه
حسن إبراهيم أحمد - ليس في كل مرة يستخدم الإنسان فيها مصطلحات، أو يذكر مفاهيم، يراعي الدقة في الاستخدام، لكن تجاوز التدقيق لا يصح في كل حين،
خاصة في مواقع الفكر والثقافة التي تتطلب استخدام المفاهيم والمصطلحات فيما وضعت له بدقة، حتى لو كان في عدم التدقيق الشديد ما يؤثر على الفهم من قبل المطلعين، ربما لأن المفاهيم متقاربة، أو لأن الاختلافات ضئيلة لا تكاد تلحظ لغير المختصين.
من المصطلحات التي يكثر الخلط بينها، أو استخدام أحدها مكان الآخر عن إصرار ربما، «المجتمع الأهلي» و»المجتمع المدني»، فبين المصطلحين أو المفهومين فوارق قد تصل حد التناقض، ومع ذلك يتبادل استخدامهما المواقع، والإساءة تأتي من الجهل أو سوء النية. وقد نتحدث عن ذلك لاحقاً.
في المعجم الوسيط «باعتباره معجماً حديثاً»، «البشر: الإنسان» وعندما يشرح المعجم معنى الإنسان يقول: « الكائن الحي المفكر». وهو عندما يتناول الإنسانية، يشرحها «خلاف البهيمية». ولكنه لا يقف عند معنى البشرية. ولا أعتقد أن في الأمر معاني أو أفكاراً محجوبة، لأن شرح معنى البشر بالإنسان واضح، وشرح معنى الإنسان واضح أيضاً، وهذا يساوي ذاك تماماً كما أورد المعجم، البشر هو الإنسان، بوضوح لا لبس فيه، ولا يحتاج إلى مزيد إيضاح.
على المستوى الفردي، وعلى مستوى عامة أو العامة من الناس، هذا إنسان أو هذا كائن بشري، لا يذهبون في فهمهما مذاهب مختلفة، أو لا يفرقون بين المفهومين والمعنيين. وهم على ذلك دون أن يكون في مكنة الآخرين تخطيء هذا الاستخدام أو هذا الفهم، كما لا يتنبه العامة لاختلاف بين المفهومين.
لكن على مستوى الفكر والثقافة قد يكون الأمر مختلفاً، فالفكر يذهب في استخدامه للمعاني إلى أبعد مما يذهب الاستخدام الشعبي، قد يضيق المفاهيم، بمعنى أنه يحددها بصرامة، أو قد يشير إلى انفتاحها فتستوعب طيفاً أوسع من المعاني.
كما قد يشير إلى تخصصاتها أو دلالاتها الجزئية أو التفصيلية المحددة، ويكون على الباحثين في قضايا الفكر أن يلتزموا بصرامة ما يريده الفكر أو ما يطلبه من المنخرطين في أتونه. لكن هذا لا يعني أن الباحثين في قضايا الفكر لا يقعون في بعض حراكهم فيما يقع فيه غيرهم من عدم التدقيق، أو من الاستخدامات غير الصارمة للمصطلحات والمفاهيم، تمشياً مع تبسيط الفهم والاستسهال المتبع دون جهل بالدقيق من المعاني.
في عالم الحوارات العادية أو الكتابة الصحفية، عندما يتعاطاها من ينتمي إلى عالم الفكر أو غيره، قد لا نجد التدقيق في استخدام الكلمات صارماً، بل قد نقول ونحن نقرأ، إن فلاناً قال كذا والأدق لو أنه قال كذا، هذا في حديثنا لنفسنا، ونحن نغفر له عدم الدقة.
التوقف عند مفهوم «بشري» ومفهوم «إنساني»، حتى دون أن يكون هناك تشديد فكري على الاستخدام، قد يحيلنا إلى اختلاف بينهما. فغالباً ما نستخدم كلمة بشري في أحاديثنا العامة مشيرين بها إلى الكائن ذي المواصفات المادية والنسبة إليه، بينما نستخدم كلمة إنساني محملة بشحنة مختلفة، فيها تقدير معنوي أرقى، بمعنى أن فيها إضافة على بشري في شحنة التقدير. فالإنساني يحيل إلى الرقي واللطف والوعي والعقل وغيرها، في حين أن البشري ليس بالضرورة أن يحيل إليها، مع أنه يتضمنها حسب المعنى القاموسي. من هنا نقول إن الاستخدام أعطى للإنساني أبعاداً ليست للبشري. فنحن لا نجرد المجرم من صفته البشرية مثلاً، مع أنه ارتكب جريمة مخزية ربما، أو منافية للقيم الرفيعة، ونقول كائن بشري، وصفاً لمن لا يستحق أن يوصف بأنه يتمتع بمشاعر راقية، فقاتل البشر قد يكون من البشر لكنه في عرف المجتمع قد فقد إنسانيته إذا ارتكب الجريمة، وهذا مما يوضح البعد المفهومي والاستعمالي للمصطلح.
تأتي حيثيات الحياة أو الاستخدامات الأخرى لتظهر المعاني المعززة لما هو إنساني على ما هو بشري، أو المضيفة لخصائص ومعاني تجعل الإنساني أكثر اتساعاً وشمولاً للجوانب المعنوية التي تعمل الأيام على إضافتها للإنساني لا للبشري، ما يظهر الإنساني في مرتبة معنوية مقرونة بالعقل والعقلانية أكثر، في حين لا تجرد البشري من العقل والعقلانية، لكنها تركز على الجوانب المادية أو ما يقاربها.
وكي لا يقع سوء الفهم نقول، إن الانتماء إلى البشرية هو انتماء رفيع متاح للجميع، ولا يحمل انتقاصاً عن الإنسانية، فالبشري هو الإنسان، ومثلما ينتمي الإنسان إلى البشرية، ينتمي البشر إلى الإنسانية. لكن الفارق في توسيع الدراسات لمدلول الإنسانية، حتى لكأن الخلاف مايز أو فارَقَ بين المفهومين.
بهذا المستوى من الاستخدام لكلا المفهومين، ظهرت تقارير عدة، صدرت عن هيئات تابعة للأمم المتحدة، كان يشترك في إعداد كل منها العشرات أو المئات من الباحثين أو أصحاب الرأي، كما تستقصي آراء وأفكار أصحاب الأفكار في الموضوع الذي تتناوله.
لقد صدر التقرير الأول للتنمية البشرية عام 1990 والملاحظ أن هذا التقرير وما تلاه عن التنمية البشرية كان يركز على أربع قضايا هي:
العمر المتوقع عند الميلاد، بمعنى كيف نجعل الإنسان يعيش عمراً أطول.
معرفة القراءة والكتابة بين البالغين وإمكانية الحصول على المعرفة.
معدلات الالتحاق بالمؤسسات التعليمية.
نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، أي توافر الموارد وإتاحتها للجميع.
وقد جاءت تقارير التنمية البشرية بعد ذلك تتوالى، ففي عام 2002 صدر تقرير حول بناء القدرات البشرية، وفي عام 2004 صدر تقرير يتحدث عن الموضوعات الثقافية، وفي عام 2005 صدر تقرير يتحدث عن التعليم. ما تشير إليه التقارير المذكورة وغيرها، بما تذخر به من معلومات وإحصاءات، وما ترسمه من خطط وتطالب به من إجراءات، هي تركز على حياة البشر وتسهيل عيشها، أي التمكن من الموارد والتغلب على منغصات العيش، خاصة في المناطق التي لا تزال التنمية فيها ضعيفة. وإذا كانت التقارير المذكورة جميعاً تختص بالحياة في البلاد العربية، فلأن خللاً في التنمية، أو تقصيراً شديداً فيها، قد حال ولا يزال يحول دون استمتاع الناس بخيرات أوطانهم، والتي يجب أن يتمكن الناس من الاستمتاع بها، ولدى البحث وجد أن التقصير حاصل في الجوانب الصحية مثلاً، والتي تجعل الأعمار قصيرة ونسبة الوفيات عالية، كما تشير إلى قصور الوعي بسبب ضعف التعليم أو توجيهه أو تأكيده على الارتباط بقضايا المجتمع وهاتان المشكلتان من شأنهما حرمان الأفراد في المجتمعات المتخلفة من الحصول على نصيب كافٍ من الموارد يضمن حياة أفضل، وهنا يقع على عاتق السلطات وعلى عاتق المجتمع الدولي، مهمة تطوير هذه المجتمعات للتغلب على العقبات المعيقة، بعيداً عن السياسة، أو تجاوزاً لما تفرضه سياسات الدول من مواقف وقضايا، قد تتلون بلون الحكام وأحزابهم وانتماءاتهم أو إرادتهم الخاصة.
الملاحظة الأساسية على ما تورده التقارير هو تأكيدها على ما يجعل الحياة أسهل من الناحية المادية، وحل المشكلات التي تعترض تغيرها نحو الأفضل، ما يجعل التوجه بعد ذلك إلى مرحلة يتمكن الإنسان فيها من تحقيق إنسانية رفيعة هو الهدف، علماً أن التنمية البشرية لا تمانع أن تكون مترافقة مع تنمية إنسانية بمعنى أنهما قد تسيران معاً في حالة جدلية، تغني كل منهما الأخرى، دون أن تكون التنمية البشرية سابقة وممهدة للتنمية الإنسانية. فتلازمهما وليس تتابعهما، أو انتظار الثانية للأولى حتى تتحقق، هو ما يكفل تكاملهما، وتمكين كل واحدة للأخرى.
قد تحصل التنمية البشرية دون الإنسانية، إذ هناك مجتمعات تنعم بحياة مادية صحية وتعليمية جيدة. لكن من المحال أن تحصل تنمية إنسانية جيدة ما لم تكن التنمية البشرية حاصلة، فلا انتفاع بالديمقراطية للجائعين والجهلة والمرضى، ولا بد من إزالة هذه العوائق من حياة الفرد كي ينعم بإنسانيته وحقوقه الكاملة في مجالها.
تبدو التنمية الإنسانية حاملة إضافات ما للبشرية، وقد بينا أن الاستخدام العام للبشري والإنساني كلفظين أو مفهومين، بدأ يحمل تفريقاً بينهما في وعي الناس كما في استخدامهم. ولهذا فإن تقارير التنمية الإنسانية جاءت تضيف إلى البشرية معاني لم تلحظها، أو لم تركز عليها، مثل موضوع الحريات وحقوق الإنسان والتمكن من المعرفة. لقد برزت التنمية الإنسانية حاملة لهموم أساسية هي: توسيع الخيارات أمام الإنسان، ما يتيح له فرصة تطوير حياته ومجتمعه وتحقيق غاية أعلى من وجوده، تزيد على تلك التي كان يحققها وهو يسعى لضمان استمرار وجوده بالحصول على مزيد من الخيرات والعناية.
عند تنمية حالة الإنسان إنسانياً، تتعزز الخيارات كما يفترض، وهذه الخيارات يعززها اكتساب القدرات وإتاحة الفرص. ومعروف في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية كيف تكون الخيارات متاحة لجماعات قد تكون قليلة أو كثيرة، في حين لا تكون متاحة لجميع المجتمعات ولا لجميع الناس في المجتمع، بل قد تزداد الفئات القادرة قوة وتمكناً في حين يزداد غيرها حرماناً، وهذا ما تحاول تقارير التنمية الإنسانية التنبيه إلى ضرورة تلافيه في تناولها لحقوق الإنسان.
مفهوم التنمية الإنسانية أوسع من كل مقاييسه كما تشير تقارير التنمية الإنسانية المتلاحقة حول الأوضاع في الوطن العربي، ابتداء من التقرير الذي يركز على ضرورة بناء قدرات البشر عن طريق الحرية والمعرفة عام 2002. بمعنى أن إنسانية الإنسان لها متطلبات متنامية ومتزايدة مع تطور الحضارة والتقدم، ولا يصح أن تتوقف عند حد معين، فما كان اليوم مقياساً لا يصح أن يكون غداً، وهكذا تبدو التنمية الإنسانية أوسع من كل مقاييسها، إضافة إلى أن التعبير قد يبدو مقصراً عما يجب أن يكون.
التقرير الذي يركز على الحريات في الوطن العربي 2004 صدر مع تقرير حول التنمية البشرية في العام ذاته، ما يدل على أن لكل منهما موضوعاته التي يعالجها. والحرية التي يتحدث عنها التقرير تتعدى تلك التي تتحدث عنها تقارير التنمية البشرية في الحصول على الموارد وإطالة العمر كما ورد، إلى مجالات مثل الحرية السياسية، والحرية الاقتصادية والاجتماعية، وتوافر فرص الإنتاج والإبداع وضمان حقوق الإنسان والشفافية..إلخ.
وتتحدث التنمية الإنسانية عن سيادة القانون وعن القضاء الكفء والمشاركة الشعبية، وتوسيع الخيارات. ثم إنها تركز على نهوض المرأة، حيث جاء تقرير 2005 حول موضوع أنه لا ضمان لأي تقدم أو خيار إنساني فاعل دون تمكين المرأة ونهوضها الفاعل وحريتها. ثم جاء تقرير 2009 حول أمن الإنسان، في الوطن العربي. وعندما نقول أمن الإنسان، فإن ذلك يتعدى الحفاظ على الحياة ومنع الأذية الجسدية أو النفسية، إلى ضمان أمن أعم في التعبير السياسي وحرية الرأي وممارسة الأدوار السياسية والاقتصادية، التي تضمنها القوانين، وتحت رعايتها، دون أن يكون معرضاً لأي خطر في مصادرة حريته ومنعه أو ممارسة الضغط عليه ليكون كما لا يريد أو في الموقع غير المناسب لأفكاره ومصالحه وشخصيته، وأن تكون الشفافية مضمونة في كل المجالات التي يتوجه لمعالجتها.
إنه حديث في الإنسانية الحديثة كما تتطلب الحداثة، وكما تبدو نظرياً على الأقل، وربما كما تحيا شعوب ما في العالم. لكن أيضاً كحلم لشعوب أخرى ولبشر آخرين، يرون أن الحياة في هذا العصر يجب أن تقودهم إلى ذلك كل هذا يتجاوز بشريتهم، إلى إنسانية رفيعة لا يعيقها ضعف الحصول على الموارد والعناية الصحية مثلاً، بل تتضمن البشرية في أعماقها وتزيد عليها ما يجعل هذه البشرية تنطلق إلى آفاق أوسع، هي الإنسانية التي تزيل من حياة الإنسان كل ما ينقصها وينتقصها أو يمنعها من الوصول إلى الأقصى في تعبيرها الوجودي، حيث يضمن الفاعلية في إدارة الموارد التي يحصل عليها بالمشاركة السياسية الفاعلة، وهكذا فالقضايا مترابطة، أساسها الحرية، ضمانة الديمقراطية.
حيث لا تستطيع أو لا تريد السلطات أو الجهات العامة، تقديم ما يتيح للمعاني الإنسانية من الوصول إلى الأقصى، وحيث يسيطر الرعب من تفتح إنسانية الإنسان على ما يدعمها ويجعلها أكثر حضوراً وقوة، تكون السلطات مشغولة بتقديم البراهين على أنها تقدم لمجتمعاتها كل الخدمات التي تلزمها، ثم تعمل على نشر البراهين على ما تقول، كدليل على حسن إدارتها للبلدان التي تقودها، فنجد ليس فقط إحصاء معدلات الإنتاج وزياداتها، ولا المشاريع الاقتصادية العملاقة والخدمات المنتشرة، بل قد نجد إحصاء عدد الشهادات العليا والكليات الجامعية وعدد خريجيها المحتفى بهم، كما قد نجد وسائل الإعلام تتحدث عن نشاط الفئات السياسية والاجتماعية، ومنظمات حقوق الإنسان، وغير ذلك من الأدلة على نشاط إنساني رفيع تريد هذه الجهات التدليل عليه وإثباته أمام الآخرين.
لكن كل ذلك قد يجانب الحرية أو يقطع معها، لأنه فعل سلطات لا فعل مجتمعات حرة تتفتح إمكاناتها دون أن يعيقها تخطيط مركزي أو ضبط أمني.
إن محاولات وضع بشرية البشر وإنسانية الإنسان، تحت وصاية السياسة، لم ولن ينتهي، حتى في المجتمعات الليبرالية والديمقراطية، طالما أن هناك سلطات وخططاً اجتماعية ورعايات من الأعلى وتوجيه لحياة الناس. وليس كل هذا مما يمكن الاستغناء عنه في ظل تزايد أعداد البشر وتوجهاتهم، فالديمقراطية الحديثة تضمن اختيار ممثلين، وهؤلاء عليهم أن يضمنوا تنمية بشرية وإنسانية فاعلة، وحسب المعايير التي تجعل مفهوم التنمية الإنسانية أوسع من كل مقاييسه. بمعنى أن تكون هذه التنمية ذاهبة إلى مجالات جديدة لا قيود عليها، ولم تكن معروفة من قبل ربما، ما يجعل هذه التنمية الإنسانية في حالة تحد مع ذاتها، أي إنها كلما حققت خطوة متقدمة، وجدت أنها أمام تحدي تحقيق ما هو أفضل وأوسع، في الذهاب إلى الأقصى، دون عوائق وترسيمات غير نابعة من ذاتها، أي أن يكون حارس الإنسانية وضابط حراكها الفاعل، هو تحققها في أعلى تصوراتها وممكناتها.
هذه الفكرة مستمدة من العلم ومنطقه في تحدي ذاته، إذ كلما حقق إنجازاً فتح أمامه أفق أو آفاق وتحديات جديدة، لا يستطيع بالنظر إلى طبيعته إهمالها، فيجد أن لا بد من تقصي المعطيات والتحديات إلى النهاية. وهكذا لا بد له من المتابعة، وكأنه أمام حية الهيدرا التي تقول الأساطير إن لها سبعة رؤوس، كلما قطع رأس نبت محله اثنان. هكذا هي حال العلم، وهكذا هي التحديات أمام الإنسانية، والتي تفرض الحرب ضد كل أشكال الإعاقة التي تنتج - مع الأسف- مع كل تقدم يتحقق، أي إن الإنسان عندما يخلق الحلول لمآزقه، يخلق معها تحديات جديدة عليه مواجهتها.