الجرخجي كلمة تركية تعني الحارس الليلي ظلت راسخة في نفوسنا وذاكرتنا
الجرخجي لفظة تركية تعني الحارس الليلي، وهذا معناه ان هذه التسمية كانت معروفة في عهد الاحتلال العثماني حيث يذكر لنا العلامة الدكتور حسين علي محفوظ (رحمه الله) في مقاله الموسوم (الالفاظ التركية في اللهجة العراقية) ان لفظة جرخه جي تعني الحارس وهناك لفظة اخرى تطلق على الحارس الليلي وهي بصونجي (باسوانجي) هذه اللفظةتركية مستخدمة في اللهجة العراقية ايضا وتعني الحارس الليلي.
وبقيت لفظة (الجرخجي) راسخة في نفوسنا وذاكرتنا لان الحارس الليلي كان يرمز الى الشعور بالامان والاطمئنان للناس ولعيون الاطفال البريئة القلقة التي اجهدها التحديق في ظلام الليل الدامس وضوء الفوانيس واللمبات الخافت المرتعش جراء رياح الشتاء الباردة، حيث تسيطر صور الاشباح على مخيلة الطفولة ولا تنقطع الا بعد سماع صافرة (الجرخجي) التي يطلقها بين الحين والاخر ليبعث الطمأنينة والامان في نفوسهم فيغفون نائمين بلا وجل او خوف يحرسهم ذلك الرجل الساهر الشجاع الذي لا يهاب الظلام والاشباح والطناطل ويتحدى برد الشتاء وحر الصيف، كنا نراه بملابسه الخاكي المتكونة من بنطلون خاكي مع سترة ذات ازرار نحاسية، في قدمه حذاء (لابجين)، او (بسطال)، ويحمل بيده (جراز) عصا خشبية رفيعة من جانب لها حلقة جلدية لمسكها منها بيده وجانب اخر من العصا اغلظ قليلا مرصعا بمجموعة من المسامير الصفراء العريضة (الراس) ويضع خنجرا في حزامه الجلدي العريض مع علبة جلدية صغيرة يضع فيها الاطلاقات الخمس، ويعلق البندقية (التفكة) وهي اما تركية قديمة او انكليزية برنو على كتفه، وهذه البندقية يتسلمها قبل غروب الشمس يوميا من مركز شرطة المنطقة (القلغ) ويعيدها صباح اليوم التالي بعد انتهاء واجبه الليلي، ويضع الجرخجي الصافرة في جيب سترته مربوطة (بقيطان) يعلق في كتفه الايمن، كما يعتمر في رأسه اليشماغ والعقال الذي تعلوه النجمة الخماسية ويعلق البعض من الجرخجية قطعة نحاسية دائرية تحمل الرقم المخصص للحارس على صدره.
ويتولى هذا الرجل الساهر مراقبة ابواب المحلة وان ينبه اصحابها في حالة بقائها مفتوحة ليلا وكذلك ينبه على الدكاكين غير المقفولة خوفا من الحرامية واللصوص، ويقوم بالرد بالصفير باطلاق صفارته عندما يسمع صافرة دورية الشرطة المخصصة لمراقبة اداء الحراس وهو يتجول في ازقة ودرابين المحلة.
وذاكرتنا البغدادية تختزن صور الماضي القريب عندما كنا صبية في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، نجلس خلال اوقات الليل في (رازونة) شباك غرفتنا المطلة على الطريق لنرى مرور الجرخجي وهو يطلق صفارته وفي بعض الاحيان نراه خاصة في ليالي الصيف يشرب الماء من (الحبوب) (جمع حب يصنع من الفخار يضع فيه الماء ليبرد) الموضوعة امام مقهى المحلة بجانب التخوت الخشبية.
واخر الليل يستقبل (الجرخجي) عادة العائدين ليلا من العمل او السكارى الذين تلفظهم حانات الخمر والملاهي الليلية بأصواتهم العالية غير المهذبة واغانيهم المبتذلة حيث يتولى هذا الرجل الامين الساهر على راحة المواطنين ايصالهم الى بيوتهم.. وعادة في كل سنة وفي صبيحة اول ايام الاعياد (الفطر المبارك والاضحى) يزور (الجرخجي) اهالي المحلة ليقدم لهم التهاني بمناسبة العيد حيث تبادر عوائل المحلة بالمقابل تقديم العيدية له مع (كليجة العيد).. هذه هي صورة الماضي للجرخجي الذي توارى عنا ولم نراه بعد.