صوراً بغدادية لن تبرح الذاكرة.
- يصر التاريخ على التضوع أنساماً عبقة في عاصمة الرشيد بغداد، ويشعر المرء بهذا التضوع منذ اللحظة الأولى التي يحط فيها رحله هناك،
فدجلة الخير بمياهه الهادئة الثائرة يفتح ذراعيه ملوحاً من بعيد وتتسارع خطوات أبيات الجواهري الكبير لتستقر في الوجدان:
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
على الكراهة بين الحين والحين
في تلك المدينة التي حسمت أمرها في تضميد جراح الغزو الأميركي الذي حاول طمس معالم عروبتها، تجد نفسك مشدوداً إلى كل شيء إلى حركة العراقيين يقطعون شوارع العاصمة جيئة وذهاباً ساعين في مناكبها غير آبهين بعبوة ناسفة وضعها حاقد هناك، غير مكترثين بتفجير آثم دبره موتور هنا، فإرادة الحياة أقوى من أصابع الموت المشلولة. هذا هو القانون الذي آمنوا به ولن يتخلوا عنه:
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
مرقد الإمام موسى الكاظم ويسمى «الكاظمية» هينمات أنسام تفيض سحراً وجلالاً، فالهندسة المعمارية العربية تقول بملء فمها إن يداً عربية صناعاً حملت إزميلها ونقشت فوق هذه الحجارة قصص إنجاز حضاري رائع، يملك إكسير التجدد فلا يسمح للشيخوخة بالدنو من مضاربه:
يجد المتقي يد الله فيه
ويقول الجحود قد خلقوه
مقام العالم المتصوف الزاهد عبد القادر الجيلاني يسرح بصرك فيه لتقف أمام عظمة التاريخ، فتقرأ عن أجدادنا الذين خرج من بينهم رسول كريم أثنى عليه الله جل جلاله في كتابه الكريم فقال: «وإنك لعلى خلق عظيم». والتصوف مدرسة تهذب النفس وتعطيها دروساً في السيطرة على شهوات الجسد ورغباته التي لا تنتهي وربما ضارعت «اليوغا» الهندية قدرة في التأثير.
تشاهد المحراب الذي كان الجيلاني يقف فيه مناجياً ربه ويشرح القائم على المقام حقيقة هندسية فريدة يلمسها من يمعن النظر في المحراب، إنه يتموج بحركة لم يستطع كبار المهندسين تفسيرها لكنها حقيقة حية نؤمن بها لأننا كنا شاهدين عليها ولم نسمع بها.
وتكتحل الأهداب بنسخ فريدة من كتاب الله الكريم تحضنها المكتبة «الكيلانية» بكل فخار واعتزاز.
أما متحف بغداد فحكاية شهرزادية تنث الصبر في عروق «شهريار» فيجد نفسه مكرهاً بطلاً بل بطلاً مكرهاً على الإصغاء إليها بتفاصيلها الجليلة الدقيقة، وفي غرفة مدير المتحف تتذكر قول البحتري في سينيته الخالدة:
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقرّاهم يداي بلمس
في تلك الغرفة تفاجأ بالدمى التي أدخل عليها المدير نفسه تأثيرات تقنية بديعة فأصبحت متحركة ناطقة ولن يتهمك أحد بالغفلة إذا سارعت بإلقاء التحية على هذه الدمى لحظة دخولك الغرفة ظناً منك أنها شخصيات مهمة أتت زائرة بثيابها الشعبية المزركشة.
تلك صور بغدادية وجدت المجال مفتوحاً للانسراب في عروق الذاكرة، ولم تجد حرجاً، فتغلغلت بكل هدوء لتستوطن في قعر الذاكرة، لكن الصورة الأبهى تمثلت في صدق المشاعر التي يحملها أبناء الشعب العراقي لسورية.
كنا نقرأ في عيون أبناء الرافدين ذلك الحب الكبير الذي تجيش به صدورهم لسورية التي لم تضق بهم صدراً يوم دنس المحتل الأميركي صعيدهم الطاهر، لذلك كانوا يندفعون مستفسرين عن سورية معربين عن آمالهم الصادقة بأن تسترد عافيتها في القريب العاجل، مبتهلين إلى الله بأن تنقشع هذه الغمامة الغمة عن سماء سورية التي كانت على الدوام رمز الصفاء والنقاء.
قالوا لنا بصدق وعفوية: لا نريد لكم أن تشربوا من الكأس التي دافها الغزو الأميركي حقداً وسماً وطائفية وأترعوا بها آصالنا وأسحارنا، وكانوا على يقين أن الشعب العربي الأصيل في سورية لن يسمح لتلك الكأس البغضاء بأن تجوس خلال دياره.
مرحباً بك صوراً بغدادية لن تبرح الذاكرة.
د. جهاد طاهر بكفلوني