رائحة عبقة تزكم أنوف المارة في منطقة المثنى الفقيرة في أقصى غرب سامراء تنبعث من آخر الحي من منزل مبني من الطين ويغلف سقفه الخشب.في فناء المنزل المتواضع تفترش أم محمد، وهي في مطلع الثلاثينات، أدواتها وعجينتها المخمرة وتنهكم في خبز العجينة إلى أرغفة بيضاء محمرة.أم محمد من بين قلة من النساء اللواتي بقين يبعن الخبز المنزلي في مدينة سامراء بمحافظة صلاح الدين ذات الطابع العشائري.وكانت الحاجة وراء امتهان أم محمد لبيع الخبز المنزلي الذي أوشك على الانقراض داخل مراكز المدن نتيجة انتشار أفران بيع الخبز والصمون على نطاق واسع.لكن الحال ليس كذلك في الريف، حيث تعجن النسوة وتخبزن في المنزل للاستهلاك المنزلي وليس لغرض البيع.وتقول أم محمد لـ"شفق نيوز" بينما تضع العجينة المدورة على "المخدة" وتهم بادخالها للتنور "انا فرحة بعملي واحصل يوميا على 10 الاف الى 20 الف دينار".خولة المعروفة بأم محمد أم لخمسة اطفال توفي زوجها في السجن ساعدها أهلها وجيرانها في بناء منزل من الطابوق والطين والخشب بجانب منزل أهلها على أرض لا تملكها.وتقول إن عملها في الخبز وبيعه لا يسد حاجة ابنتيها وأولادها الثلاثة الذين يرتداون مدرسة قريبة، ويعينها أهلها وجيرانها على تحمل أعباء المعيشة.وتعود محمود وهو جار أم محمد على شراء الخبز من جارتها، ويقول لـ"شفق نيوز" بعد ان اشترى سبعة أرغفة بألف دينار "في السابق كنّ النساء يصنعن الخبز العراقي في المنزل، لكن اليوم تغير كل شيء، فالافران الخاصة بالخبز والصمون منتشرة في الشوارع".ويشير إلى انه يفضل خبز البيت لذلك فإنه دأب على شرائه من الخبازات القلائل اللواتي بقين يبعنه.وعلى مد النظر في الاسواق المتواجدة في اغلب الاحياء فأن افران الخبز والصمون تقف عندها طوابير من السكان المحليين من النساء والرجال حتى الاطفال؛ وهو ما يشي وانتشارها سبب مهم في قلة خبز السيدات في المنازل.وتقف سيدة مسنة تدعى سهام في طابور أمام فرن لشراء خبز، وعادت بذاكرتها إلى الوراء عندما سألناها عما إذا كانت تصنع الخبز في المنزل. وقالت: "كنت أعجن وأخبز لزوجي وعائلتي صباح كل يوم".واستدركت بالقول "لكن توفي زوجي وانشغل اولادي بعملهم وعائلاتهم ولم اعد اتحمل الوقوف امام حرارة النار التي تشتعل في تنور الخبز".ويطرح علي محمد وهو شاب عشريني كان واقفا في الطابور أمام أحد الأفران في سوق مريم وسط سامراء، سببا آخر لترك اغلب النساء الخبز في منازلهن. ان "صعوبة الحصول على الغاز وارتفاع سعره ونقص الكهرباء فيما يتعلق بالتنور الكهربائي كلها عوامل تبعد النساء عن الخبز وتجعلنا نتوجه الى الاسواق".ويقول الباحث الاجتماعي علي موسى وهو من سكان الضلوعية لـ"شفق نيوز"، ان "خبز التنور هوية من هويات العراقيين لأنه البلد الوحيد الذي يخبزه بهذا الشكل، والعائلة العراقية تعتز وتتفنن بتجميل الرغيف وتضيف له السمسم في صورة من صور الكرم وتعتز وتفاخر أن رغيفها كبير".ويضيف ان "الخبز العراقي ليس الوحيد من انواع الخبز الذي تشتهر به العائلات العراقية، فالكورد هم الآخرون يقدمون رغيفهم بشكل مميز وكبير وهذا دليل على كرم العراقيين من العرب والكورد وغيرهم وتميزهم عن الاخرين".وكان التنور يصنع في المنزل بادئ الأمر من الطين قبل ان يتطور ويتحول إلى المعدن لكنه بات غائبا الآن عن معظم منازل العراقيين.