في الأسبوع الماضي، أعلنت السكك الحديدية الهولندية عن نشاط من أنشطتها الكثيرة التي تهدف إلى خلق بيئة مريحة لركابها الذين يبلغ عددهم مليون راكب في اليوم الواحد. النشاط الجديد عبارة عن درس في الغزل مدته ساعتان، هي المسافة بين مدينتي أوتريخت، في وسط هولندا، وماستريخت في أقصى الجنوب.
الغزل المبذول لدرجة تلامس التحرش، في عالمنا الثالث، أصبح مهارة يتدرب عليها الشباب الهولندي المنصرف للصحف والكتب، لهواتفه الذكية وأجهزة تشغيل الموسيقى في القطار، بحيث لا ينظر الناس لبعضهم طوال الرحلة.
الجيل الحالي من الشباب في هولندا، وفي العديد من دول أوربا الغربية، هو حصيلة نظام ظل يسهر على صيانة الحريات الشخصية، وتنمية الفردية التي ذهبت بعيدا لتجعل من الأفراد جزرا معزولة يعيشون جوار بعضهم، وليس مع بعضهم. أصبح هذا ممكنا باعتماد هندسة للمجتمع وعلاقاته، توزع بمقتضاها الناس على مسافات متساوية، بحيث يصعب على شخص ملامسة الآخر أو إلحاق الأذى به.
هذه المسافات المتخيلة تمثلها القوانين العامة، والنظم الاجتماعية والسلوكية المختلفة، التي تصون للشخص خصوصيته وحرمة ممتلكاته وجسده. بهذا يصبح الاقتراب من الآخر، وإن كان بمنتهى حسن النوايا، محفوفا بكم من المحاذير المتعلقة بهذه النظم، التي حولت المجتمع إلى نوع من جمهرة النمل، تسعى كل نملة منها لمهمتها المقدسة، دون حياد عن طريقها المرسوم.
ذكرت إحدى المشاركات في درس الغزل بأن كلمات الاطراء التي سمعتها من الشاب الجالس قبالتها ستظل ترن، بكل عذوبتها، في أذنها لوقت طويل قادم. ما قالته يكشف عن حاجة متوسط الشخص العادي للتواصل مع الآخر، وعن حاجته لسماع كلمة لطيفة في شكل إطراء. ويكشف أيضا عن نظام اجتماعي يجنح لترسيم حدود صارمة بين كائنات نزعتها الأصلية الفضول والتواصل.
هذه الحدود يمكن وصفها بالحساسية السائدة في مجتمع ما، في وقت ما. وهي حساسية معدية، وسريعة العدوى أيضا. يمكن تمثيل ذلك بجمهور كرة قدم خارج من مباراة انهزم فيها فريقه، إذ يكفي أن يلتقط أحدهم حجرا، ويلقيه على واجهة إحدى المحال لينفرط عقد النظام وتعم الفوضى.
حفظ المسافة متساوية مع الآخر، واعتناء كل شخص بشأنه الخاص، بالشكل الذي نراه في الحياة اليومية في الغرب، هو حساسية توعز للناس بأنهم أفراد متميزون، ويجب عليهم الحفاظ على هذا التميز واستعراضه، في الوقت الذي لا يمثل فيه هذا التميز سوى ذلك الذي نراه بين رقم هاتف وآخر.