عتمة الأعمى وصراخ الأبكم

تاريخ النشر: 8:53 م, فبراير 16, 2014

سهى بطرس قوجا

أعجبني قول جميل جدا لــ ( جبران خليل جبران) يقول فيه:” أنتَ أعمى وأنا أصم أبكم، إذن ضع يدك بيدي فيدرك أحدنا الآخر”. أليس جميلا بكل معانيه ويحمل الكثير من معالم الصرح الإنساني بين معاني حروفه؟! قول يعطيك من أول وهلة لقراءته شعورًا يختلف عن شعور الأعمى في عتمته وشعور الأبكم في صومعة نفسه.
أنها علّة تساند علّة فتدرك الواحدة للأخرى الطريق في الحياة، فما بالك بالأصحاء الكثيرين الموجودين اليوم في مجتمعاتنا الساعين لفقع العيون وقطع الألسنة وضياع معالم الحقيقة؟! هؤلاء هم أصحاب العلل الحقيقية، هؤلاء هم العميان والأبكمين في ذات الوقت وهؤلاء هم الحاضرين الغائبين. وما أكثر تواجدهم في مختلف بقاع العالم وما أكثر فعلهم الغليظ وما أكثر صراخهم المزعج.
عندما قرأت هذا القول، حضرتني طرفة لطيفة من هذا العالم، ليست من زمن بعيد ولا قريب ولكنها واحدة من الكثيرات المتواجدات في زمننا ونتأسف من أجلها، تحكي عن شخصًا كان قاسيا بمعنى القسوة ويبحث عن ضحكة تسكن نفسه المهجورة؟! حاول جاهدًا كل الطرق أن يجدها ويأتي بها ولكن في كل مرة عندما كان يقترب من أسوارها كان يصطدم بعاصفة هوجاء صماء تؤلمه وتهز قلاع نفسه ولكن لم تكن قادرة على كسر قسوته، كان متمسكا بها لا يلينُّ! مما جعل من محاولاته مصدر سخرية لنفسه منه هو! لم يدرك أن معظم ما في الحياة لا يأتي بالتملك وخصوصًا فيما يتعلق بما هو بلسم للروح، فكيف لتلك البسمة أن تحيا في ظل قلعة مهجورة لا يسكنها غير الخفافيش والظلام؟! وكيف بها أن تعيش في قبوّ رائحته نتنة؟! أكيد ستتبعثر حال لقائها بقسوته وجلمود ذاته ولا تحيا!
هل رأيتم يومًا النار والماء مجتمعان؟! بالتأكيد لا، كذلك هذا الشخص أنه يبحث عن بسمة تسكن كيانه القاسي، فكيف يجتمع الغراب مع البلبل وكيف تسكن الحرية السجن، وكيف يستقر الحنين في القلب المتحجر، وكيف توضع زهرة في ماء عكر؟! كل هذه الأمور تتنافر ولا يمكن أن تتقابل يومًا، فكيف سترسم خطوط ابتسامة وتبقى على لوحة لوجه عبوس؟! وكيف سترى تلك البسمة ما زال القلب لا يعرف الشعور بها؟!
لا تنتهي الحكايات طالما الحياة مستمرة والإنسان فيها يلعب ويلاعب ويغض ولا يبالي ( بدون تعميم)! وهذه حكاية أخرى ببضع أسطر أسردها، تتحدث عن آخر متعصب لكل شيء ويتكلم عن الحق والحقوق، كان يعمل تقريبا أقل من ربع ما يقول، ويتحدث عن كل ما لم يعمله، يلوح بيديه وينادي بعلو صوته وهو لمعنى الكلمات مضيعًا، كان يستغرق أياما في تحضير خطابه ويتعب على ترتيبه، لكن مثلما كان يلقيه هكذا كان ينسى! لم يكن له أساسا في الواقع ولم يجد غير أذن صماء يصطدم بها ويلقى على قارعة الطريق! كان يردد في أحاديثه العقيمة القول الشهير:” خير الأمور أوسطها”، ثم تراه يحرق الأخضر واليابس! أمثال هؤلاء هوايتهم الثرثرة وتعظيم النفس وسلب دروب الغير بمكر وخبث غير معهود، لذلك تجدهم بعد فترة يعانون الانكماش، والاضمحلال قد نال منهم ومعهم قد ضاع كلامهم القليل وفعلهم المعدوم ومطاليبهم التعجيزية التي كانت باسم فئة مغلوب على أمرها.
سأسرد أخرى طالما حضرتني: كان هنالك مواطن يسكن بلده لم يكن يمتلك تلك الغيرة الحقيقية للرجال، كان أكثر ما يهمه هو مصلحته والمال وكيف يجنيه بأي طريقة حتى أنه مارس الاحتيال والكذب والنفاق ولبس الأقنعة! في ذات يوم زارت الحرب بلده مما أضطره إلى الهرب منها، ليس فقط لظروفها وإنما لأسباب أخرى حملته على الرحيل. ترك بلده ورحل مع عائلته إلى بلد آخر، ثم دارت الأيام والسنين بذلك البلد الصامد والصبور من حال إلى حال بسبب الحرب وما تبعها من انقسامات وتفرقة وتشتت وبعثرة، حالاً كان سيءٍ للبعض المغلوب على أمره وجيد للبعض الآخر الباحث عن السلطة والوصولية والاصطياد غير المشروع، مما جعل مواطن ذلك البلد الحامل لجنسية بلد آخر بأن يقرر العودة إلى بلده الأم بعد تلك السنين بحجة أن تركه لبلده هو أكبر خيانة؟!
غريب أمره وعجيب؟! لم يتذكر مواطن بلدنا تلك الخيانة ألا بعد أن زار بلده بعد سنوات من رحيله واكتشف بان الأموال في بلده توزع بالجملة على كل عميل وصاحب مصلحة بعد أن يحرم محتاجين منها! حينما مسك أول مبلغ مالي مقابل بيع ذمته بيده تذكر سنينه الماضية وهز ذيلهُ وعرف أنه الآن باستطاعته أن يحتال أكثر ويكذب وخصوصا أن قناعه اليوم الذي اكتسبه من النوع الذي لا ينكشف بسهولة لكبر الكلمة المكتوبة عليه والتي ينادى باسمها …. فقرر العودة والمشاركة في اللعبة مع الآخرين حتى يكتمل العدد!
بشر غريبي الأطوار، أزدواجيين يعيشون حالات عديدة في حالة واحدة، ويريدون ويطالبون غيرهم بالمثالية! كم في الحياة من عميان وهم يبصرون، وكم يوجد من أبكم وفي داخله أعظم كلام. والحياة تبقى في الأول والأخير حياة إنسانية سامية لا يعرفها ألا من يسمو بها ويعرف ذاتهُ، ولكن أين هم اليوم هؤلاء؟! غابت الحقيقة وضاعت الحقوق بسبب البعض الذين اتخذوا منها شعارات كاذبة من أجل مصالحهم الوصولية، أمثال هؤلاء كنا نتمنى أن يكونوا عميان حتى يدركوا حقيقة الحياة، وكنا نتمنى أن يكونوا أبكمين حتى يعرفوا كيف يكون الكلام بدون زيف. نتأسف عليهم فعلا لأنهم لا يعرفون ما يفعلون وأي طريق يسلكون، يلهثون ويركضون ولا يعلمون أن في نهاية طريقهم هنالك هاوية هي من نصيبهم!