في عصر العولمة والإنفتاح والقرية الكونية، لا بدّ من إيجاد سُبُل تخاطب وتواصل بين مختلف الشعوب. فمع زوال العوائق الجغرافية وتضاؤل المسافات الفاصلة عبر مختلف خدمات الإنترنت، بات من الجوهري إتقان لغات عدّة، بالإضافة إلى اللغة الأم.
وكما يُقال «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، فلا بدّ من تعليم الأطفال، منذ الصغر، إتقان لغة، إثنتين أو حتى ثلاث إلى جانب لغتهم الأصلية، لتطوير ثقافتهم وحضّهم على سبر غور العالم الواسع، من دون عوائق لغوية أو تعبيرية.
فما أهمية تعدّد اللغات؟ وما أهمية إكتساب هذه المقدرة منذ الطفولة؟
حسب الدراسات العلمية الحديثة، يمكن الحديث عن إكتساب اللغة منذ تكوّن الجنين في رحم امّه، بعد نحو عشرين أسبوعاً، إذ يتكوّن لديه الجهاز السمعي، ويصبح بإستطاعته أن يلتقط بعض الأصوات التي تتسرّب إليه. بعدها، يبدأ بتمييز الأصوات اللغوية ويتأقلم مع خصائص صوت والدته المميّزة، وبالتالي، مع اللغة أو اللغات التي تتكلّمها.
من جهة اخرى، يُعتبر الطفل متعدّد اللغات عندما يكون بإستطاعته الكلام بلغة مختلفة عن لغته الأم وإتقانها، عبر التعبير الواضح عمّا يريد قوله.
تتحدّث الإختصاصية في علاج النطق واللغة، كريستيل ندوّر، عن موضوع إكتساب الطفل مهارة الحديث والقراءة والكتابة بغير لغته الأم، وعن إيجابيات هذه التعدّدية في اللغات وسلبياتها.
كما تفسّر الإختصاصية في علم التربية رامونا أسمر طرق إكتساب مهارات في الحديث والقراءة والكتابة بأكثر من لغة، وأهمية ذلك على الصعيدين الثقافي والإجتماعي.
تعليم اللغات
يشكّل الأهل القدوة والمثال لأطفالهم، إذ يحضونهم على الكلام بأكثر من لغة منذ الصغر.عادةً، يعمد الولد إلى إستخدام اللغة المتداولة في بيئته، كونها اللغة التي يسمعها في حياته اليومية.
وتكرار الكلام بلغة معيّنة يحفّز الولد على إستعمالها ويشجّعه على التخاطب بها وتنمية مفرداتها.
تقول الإختصاصية أسمر: «تتداخل عدّة عوامل للمساهمة في إكتساب اللغة، مثل النضج الدماغي والفكري عند الطفل، والبيئة الثقافية والكلامية المحيطة به، والسن التي يبدأ فيها تعلّم اللغة، وكثافة إستخدام اللغة وغيرها».
إنّ الولد بحاجة إلى الإنخراط في محيطه ويشعر بالحاجة إلى التأقلم في مجتمعه، ليكون مندمجاً في البيئة. لذا، من الممكن إستعمال لغة موحّدة في البيت لتسهيل التخاطب والتحاور.
فمن المحبّذ تعزيز لغة أجنبية عبر إستخدامها بكثافة مع الطفل، كي يتقوى بها ويُتقن مفرداتها. يكون ذلك عبر التمرين المستمرّ بطريقة الحديث العادي، وليس عبر «الدرس»، بل في الحوار الروتيني اليوميّ. وعبر هذه الممارسة اليومية، يتعلّم المرء إستخدام التراكيب اللغوية السليمة.
إستيعاب
يلعب الأهل والمحيط والمؤسسات التربوية دوراً بارزاً في النمو السليم للطفل وفي تنمية قدراته. تقول أسمر: «يمكن مساعدة الأطفال على إكتساب أكبر عدد من المفردات في لغات مختلفة في البيت والمجتمع، لمساعدة المدرسة على تلقين الصغار أكثر من لغة.
إذ يمكن الإستعانة ببعض الألعاب الثقافية والوسائل التربوية والترفيهية التي تساعد على التمرّس في الكلام، وتشجّع على الإستماع إلى لغات مختلفة، وبالتالي إكتسابها».
كما أنّ وسائل الإعلام فعالة جداً في إيصال المعلومات في اللغات العديدة، عبر التلفزيون والراديو، إضافة إلى الكتب والقصص والمنشورات الخاصة بالأطفال، والإنترنت ووسائل التخاطب الإجتماعي».
لا بدّ من التنويه بأنّ الولد يستوعب كمّاً هائلاً من الكلام والعبارات عبر التسلية والترفيه واللعب، بعيداً عن الجو المدرسيّ والفروض والإمتحانات!
فوائد وإيجابيّات
تقول أسمر: «يساعد تعدّد اللغات على أن يكون الولد أكثر إنفتاحاً وراحةً في التعبير بأكثر من لغة وأكثر من وسيلة. كما يؤدي ذلك إلى تنشيط الحوار والتخاطب مع الآخرين، إضافةً إلى إمكان التأقلم مع لغات غريبة، تنقل معلومات عبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعيّ».
فعندما يتقن الولد أكثر من لغة، يستطيع أن يندمج ويجاري عصر التطوّر والتكنولوجيا. كما يتمكّن من التعبير بحرّية ووعي عن حاجاته ورغباته للجميع.
إذ لم يعد بالإمكان التغاضي عن أهمية العلم والمعرفة والتطور. فالإنفتاح على الحضارات والبلدان والقارات الأخرى أمر ضروريّ للعيش بطريقة طبيعية، ضمن مجتمع يواكب التغيرات ويعاصر الإكتشافات.
وتضيف أسمر: «إنّ التكلّم بغير لغتنا الأم يفتح أفق التبادل الحضاري والثقافي مع الآخرين، إذ يشرّع المجال أمام طالبي العلم أو العمل في الخارج، على التأقلم بسلاسة وسهولة، كما يساهم في زيادة نسبة الوعي والثقافة بين أفراد المجتمع للنهوض بنشء أفضل والمشاركة في فهم الأحداث العالمية المحيطة بنا».
سلبيّات تعدّد اللغات
تفسّر أسمر: «قد يكون تعدّد اللغات حجر عثرة أمام الذين ينمّون لغة معيّنة على حساب اللغة الأم التي تضعف. ومع تزايد عدد المعلومات بغزارة عبر لغة معيّنة، لا يعود في إستطاعة الذاكرة تخزين هذا الكمّ الهائل من المعطيات في أكثر من لغة، مما يؤدي حتماً إلى إضمحلال لغة».
من جهة أخرى، تؤكّد أسمر أنّ «تداخل اللغات مع بعضها البعض قد يسبّب حالات من الضياع والصعوبة في التعبير وتركيب الجمل، مما يسبّب بتشويش الولد، فلا يعود قادراً على التمييز بإختلاف اللغات، ويضيع بالتالي في محاولة التعبير والتكلّم بطريقة سليمة بلغة معيّنة».
تشير ندّور إلى أنّ «إستعمال لغات عدّة في جملة واحدة من شأنه أن يؤثر سلباً على النطق عند الطفل. إذ إنّ هذا المزج ضمن الجملة الواحدة يمكن أن يخفف من قدرته على إكتساب كلمات جديدة، لأنه يصعُب عليه في هذه المرحلة أن يفصل بين الكلمات المسموعة في لغات عدّة. وهذا ما يُبطئ إكتساب المفردات، بحيث يكون مخزونه اللغوي مقسّماً بين لغات عدّة».
تضيف ندّور:«غالباً ما ترتبط إضطرابات اللغة مع تحصيل الدراسي المنخفض. إذ إنّ النجاح في المدرسة يستند على فهمٍ جيّد للغة، و المهارات اللغوية هي أفضل الطرق للإستعداد للمدرسة.
الأطفال الذين يعانون من ضعف في المهارات اللغوية هم أكثر عرضة للخطر على تحقيق القراءة والذي يحول دون المزيد من النمو اللغوي».
منقول